البحث عن اللانهاية: الجزء الثاني

فرضية الاستمرارية
هذه المقالة هي النصف الثاني من مقال من جزأين يروي قصة معضلتين في الرياضيات ورجلان هما جورج كانتور Georg Cantor مكتشف العالم الغريب الذي تتواجد فيه هاتان المعضلتان، وبول كوهين Paul Cohen (الذي توفي السنة
 الماضية) وهو من توصلّ أخيراً لحلّهما. هذه المقالة تبحث فيما يُعرف بفرضية الاستمرارية (the continuun hypothesis) فيما تُعنى المقالة الأخرى باستكشاف بديهية الاصطفاء (the axiom of choice)، وكلّ من المقالتين مستقلة بذاتها فليست هناك حاجة لقراءة كليهما حتى تكتمل الصورة.

جورج كانتور: مطابق اللانهايات

جورج كانتور هو عالم منطق ألماني حقق في أواخر القرن التاسع عشر إنجازاً كان في السابق مجرّد حلمٍ بالنسبة للعلماء والفلاسفة واللاهوتيين وهو تقديم تحليلٌ مفصّل للانهاية. لكنّ عواقب ذلك النصر لم تكن محمودةً بالنسبة لكانتور شخصياً، فقد أصيب بالهوس والتعاسة جراء فشله في حل إحدى المسائل التي تكشّفت عن إنجازه وهي فرضية الاستمرارية. تزامن هذا العجز مع مأساة شخصية وهي وفاة ابنه، إضافة لإهانته من قبل العامة بسبب نبذ عمله كونه "سابق لعصره بمئة عام"؛ فأمضى كانتور السنوات الأخيرة من حياته ما بين دخول المصحات والخروج منها.

ينصّ اكتشاف كانتور على أنّ اللانهاية ليست واحدة بل ثمة سلسة لا نهائية من اللانهايات وكل واحدة أكبر من سابقتها. تبدو هذه الفكرة مربكة للعقل لكن المفاجئ أن المدخل لهذا العالم الغريب عبارة عن مفهوم بسيط ومألوف.


جورج كانتور
جورج كانتور

على فرض أن لديك مجموعتان من الأغراض ولنسمّهما المجموعة A والمجموعة B، كيف ستميّز أيهما الأكبر أو إن كانت الاثنتان متماثلتا الحجم؟ كل ما ستقوم به بالطبع هو عدّ محتويات المجموعة A ومن ثمّ عدّ محتويات المجموعة B ومقارنة العددين.

 

لكن قد يكون من الأسهل لتجنّب مخاطرة التوه أثناء العدّ أن نجرب مطابقة المجموعتين فنشكل أزواجاً من أغراض المجموعة A مع أغراض المجموعة B إلى أن تنفد الأغراض من إحدى المجموعتين، عندها تكون المجموعات التي تنجح مطابقتها متماثلة العدد أما المجموعات الأخرى فهي مختلفة الأعداد.

 

يكاد يكون هذا هو التبسيط الأمثل لكنّ هذه الفكرة أفسحت المجال لاكتشاف غير عادي على يد كانتور فقد أثبت عدم إمكانية مطابقة بعض المجموعات اللامنتهية مع مجموعات أخرى، لذا يجدر بنا أن نخلص على الفور إلى وجود مستوياتٍ مختلفة من اللانهاية بعضها أكبر من الآخر.

طبق كانتور هذه الطريقة على بعض العناصر الرياضية الشائعة، فمثلاً الأعداد الطبيعية ما هي إلا الأعداد العادية التي نستخدمها في العدّ 4،3،2،1،0،.... ، وقد يبدو جلياً أن مجموعة الأعداد الزوجية {8،6،4،2،0،....} يجب أن تكون أصغر من مجموعة الأعداد الطبيعية؛ فمهما بلغ عددها في النهاية ألا تشكل نصفها فقط؟ لكن المفاجئ أن المجموعتين يمكن مطابقتهما بسهولة: 0 مع 0، 1 مع 2، 2 مع 4، 3 مع 6، وهكذا، بمجرد ضرب العدد بـ 2 في كل مرة، لذا يتوجب علينا أن نخلص إلى أن المجموعتين متماثلتا الحجم في الواقع حسب مفهوم كانتور. 


من العناصر الأساسية الأخرى مجموعة الأعداد الحقيقية التي يمكن اعتبارها مجموعة مؤلفة من كل الامتدادات العشرية اللامنتهية مثل (19.000000000 أو  1.234567891011121314151617181920)، كما يمكننا اعتبار الأعداد الحقيقية كالنقاط التي يتكون منها خطّ طويل لانهائي خالٍ من أيّ فراغات؛ لهذا السبب تدعى مجموعة الأعداد الحقيقية في بعض الأحيان بالاستمرارية. لقد أثبت كانتور أن أي محاولة لمطابقة الأعداد الحقيقية مع الأعداد الطبيعية ستبوء بالفشل، حيث ستوجد دوماً بعض الأعداد الحقيقية التي يتمّ إغفالها، وهذا ما سيضطرنا لأن نخلص إلى أنّ لانهاية الأعداد الحقيقية أكبر من لانهاية الأعداد الطبيعية.

 
هنا يبرز سؤال: هل ثمّة لانهاية ما بين لانهاية الأعداد الطبيعية ولانهاية الأعداد الحقيقية؟ أو بمعنى آخر إذا أخذنا أي مجموعة من الأعداد الحقيقية فهل تصحّ إمكانية مطابقتها إما مع الأعداد الطبيعية أو مع كامل مجموعة الأعداد الحقيقية؟ أو هل ثمة احتمال وجود حجم متوسط لها؟ تنصّ فرضية الاستمرارية على عدم وجود هذا الأساس الوسطي، وهذه هي المسألة التي قادت كانتور إلى إحباط وبؤس شديدين. ويمكننا الغوص في مزيد من التفاصيل باستخدام نظام الأعداد اللامنتهية الخاص بكانتور. 

الأعداد الطبيعية والاستمرارية، هل ثمة لانهاية بينهما؟
الأعداد الطبيعية والاستمرارية، هل ثمة لانهاية بينهما؟

أهمية الأعداد الأصلية

وضع كانتور نظام من أعداد خاصة أطلق عليها "الأعداد الأصلية" (cardinal numbers) تقيس الأحجام الممكنة المختلفة للمجموعات، وما يميزها بشكل حاسم أن كل مجموعة يمكن مطابقتها تماماً مع عدد أصلي. والأعداد الأصلية المنتهية ما هي سوى مجموعة الأعداد الطبيعية 5،4،3،2،1،0،.... وهي تتوافق مع المجموعات المنتهية التي لها الحجم المعنيّ، فالمجموعة التي تحوي عنصراً واحداً تقابل العدد الأصلي 1، والمجموعة ذات العنصرين تقابل العدد 2، وهكذا. لكن ثمة أعداد أصلية لامنتهية أيضاً، وهي تبلغ عدداً كبيراً لانهائياً؛ وقد اكتشف كانتور كيفية توسيع العمليات الرئيسية كالجمع والضرب لتشمل هذه الأعداد اللامنتهية.
 

يمكنك عدّ الأعداد الطبيعية وحتى الكسور، لكن النقاط التي تكوّن خطّاً تشكل مجموعة لامعدودة.
يمكنك عدّ الأعداد الطبيعية وحتى الكسور، لكن النقاط التي تكوّن خطّاً تشكل مجموعة لامعدودة.

أول الأعداد الأصلية اللامنتهية يسمّى \(\aleph_0 \) (وتعني "ألف صفر" حيث \(\aleph \) هو الحرف الأول من الأبجدية العبرية)، و\(\aleph_0 \) هو حجم مجموعة الأعداد الطبيعية. فليكون لمجموعة ما الحجم \(\aleph_0 \) يجب أن تطابق عناصرها الأعداد الطبيعية، أو بمعنى آخر يجب أن تكون قابلة للعدّ؛ ولهذا السبب تدعى المجموعات ذات الحجم\(\aleph_0 \) بـ"المعدودة". العدد الأصلي التالي هو \(\aleph_1 \) وهو أوّل الأعداد الأصلية "اللامعدودة" ثم يأتي \(\aleph_2 \)، \(\aleph_3 \) وهكذا (هذا فقط للمبتدئين). ولا يوجد عدد أصلي هو الأكبر على الإطلاق، فمهما بلغ كبر العدد الأصلي يمكن دوماً الحديث عن العدد الأصلي التالي، وهو أصغر عدد ضمن الأعداد الأكبر من العدد الموجود لدينا.

لكن ليست تلك الطريقة الوحيدة للحصول على عدد أصلي أكبر من العدد الموجود، فإن كانت لديك المجموعة X يمكنك تشكيل مجموعة أكبر منها  (P(X تدعى مجموعة قوة X وهي مجموعة مكونة من كل المجموعات التابعة لـ X. فعلى سبيل المثال إذا كانت X هي مجموعة العناصر الثلاثة {3،2،1} فإن (P(X هي 



\(\{ ،\phi، \{1\}،\{2\}،\{3\}،\{2،1\}،\{3،1\}،\{3،2\}،\{3،2،1\} \}\)

 

حيث \(\phi\) يرمز للمجموعة الخالية أي التي لا تحوي أي عناصر. وإن كانت X هي مجموعة الأعداد الطبيعية فإن (P(X تتضمن مجموعة الأعداد ما بين 1 و 100، {3،2،1،...،100}، ومجموعة الأعداد الأولية {11،7،5،3،2،.....}، ومجموعة الأعداد الفردية {11،9،7،5،3،1،.....}، والمجموعة الخالية \(\phi\)، وكل مجموعة أخرى من الأعداد الطبيعية يمكن تصورها.

 

أما إذا قمت بتطبيق ذلك على مجموعة منتهية (المجموعة أعلاه {3،2،1} تحوي ثلاث عناصر) فإن عدد عناصر (P(X هو 2 لقوة حجم X (في هذه الحال \(2^3=2×2×2=8\)). وأثبت كانتور أنه بالنسبة للمجموعات المنتهية أيضاً فإن مجموعة القوة (P(X أكبر دوماً من المجموعة الأصلية X، حيث تتعذر مطابقة المجموعتين، فإن كانت المجموعة X تحوي العدد الأصلي A عندها نقول أن عدد عناصر X هو \(2^A\). إذاً فالعدد الأصلي \(2^{\aleph_0 }\) يعادل حجم مجموعة القوة الأعداد الطبيعية وله أهمية خاصة، وإن عدد عناصرالعديد من المجموعات الهامة بما فيها مجموعة الأعداد الحقيقية هو \(2^{\aleph_0 }\) وهذا سبب تسمية \(2^{\aleph_0 }\) بالاستمرارية. يمكننا الآن أن نعيد صياغة فرضية الاستمرارية بأنها الإثبات لحقيقة أنّ:



\(2^{\aleph_0 }= \aleph_1\)

 

إن صحّت فرضية الاستمرارية عندها لا يوجد عدد أصلي بين\(\aleph_0 \) و\(2^{\aleph_0 }\)، لذا فأي مجموعة لامنتهية من الأعداد الحقيقية يجب أن يكون عدد عناصرها إما \(\aleph_0 \) أو \(2^{\aleph_0 }\) حيث لا يوجد أساس وسطي؛ أما إن أخطأت فرضية الاستمرارية عندها \(\aleph1\) يقع بين\(\aleph_0\) و\(2^{\aleph_0 }\). إذاً لا بدّ من وجود مجموعة من الأعداد الحقيقية عدد عناصرها \(\aleph_1\)، أي أنها أكبر بكثير من أن تُطابق مع الأعداد الطبيعية لكنها أصغر بكثير من أن تطابق مع مجموعة الأعداد الحقيقية بأكملها.

 
لقد آمن كانتور بصحّة فرضية الاستمرارية وأمضى سنوات عديدة محاولاً إثباتها حتى وفاته عام 1918. في عام 1900 قام عالم الرياضيات المؤثر ديفيد هيلبرت David Hilbert بطرح 24 مسألة رياضية للقرن الجديد حددت مسار الرياضيات خلال المئة سنة التي تلت، وكان هيلبرت متحمساً بشأن نظرية المجموعات حيث أسماها "فردوس كانتور" فوضع فرضية الاستمرارية في رأس قائمة تلك المسائل.


 بول كوهين: إخضاع الاستمرارية

تشابه حكاية فرضية الاستمرارية إلى حد كبير حكاية بديهية الاصطفاء التي تمت معالجتها في مقالة اخرى في هذا العدد من مجلة Plus. لقد كان علماء الرياضيات في بداية القرن العشرين يحاولون استنباط نظام من البديهيات ليشكل أساساً للرياضيات برمّتها، وكان العمل انطلاقاً من البديهيات يهدف لجعل الرياضيات شديدة الدقّة بحيث يغدو بالإمكان برهان ما ينجم عن طفرات الإيمان ونوبات الإلهام التي عادة ما تشكل جزءاً من عمل كل عالم رياضيات بشكل ملائم انطلاقاً من هذه القواعد الأساسية. وكان الافتراض يقوم على إمكانية اشتقاق كل الحقائق الرياضية من هذه البديهيات بمجرد استخدام قواعد المنطق.

وقد قدّم عمل عالم الرياضيات إيرنست زيرميلو Ernst Zermelo في بدايات القرن العشرين الأساس لنظام البديهيات هذا بناءً على نظام المجموعات. يعرف هذا النظام الآن بـ ZFC (نسبةً لزيرميلو وابراهام فرانكل Abraham Fraenkel والاصطفاء Choice_انظر المقالة الأخرى)، وما تزال هذه الرؤية لنظرية المجموعات تدعم الموضوع بأكمله تقريباً في يومنا هذا، أي أن كل الأعداد وافتراضياً كل عنصر رياضي يمكن بناؤه ضمن كونٍ يعتمد على نظرية المجموعات أسس له نظام ZFC.

في الوقت ذاته اعتقد علماء الرياضيات أن فرضية الاستمرارية أيضاً ستجد مكاناً لها في هذا الكون، فشرعوا بمحاولة إثباتها انطلاقاً من بديهيات نظام ZFC لكنهم فشلوا. وأوّل تقدّم حقيقي حصل عام 1940 على يد العالم كيرت غودل Kurt Godel الذي بيّن على الأقل أن فرضية الاستمرارية لا تدخل أي تناقضات إلى نظام ZFC، وهذا بالطبع يفتقر كثيراً للقدرة على إثبات صحّتها بالفعل.

تجلّى انتصار بول كوهين في اختراع الإقحام وهي تقنية فعالة لبناء أكوان جديدة من المجموعات التي تخضع لـ ZFC لكن يمكن تفصيلها لتشبع حالات أخرى أيضاً، ففي عام 1963 قام كوهين بتحويل تقنيته الرائدة باتجاه فرضية الاستمرارية، فأنشأ كوناً مبنياً على نظرية المجموعات يشبع نظام ZFC لكن فرضية الاستمرارية لا تصحّ فيه؛ فأثبت عمله بالاشتراك مع عمل غودل أن فرضية الاستمرارية مستقلة عن نظام ZFC.

 

إنه لمن المستحيل أن نخلص إلى صحة فرضية الاستمرارية أو زيفها انطلاقاً من القواعد العادية في الرياضيات كما نفهمها، وهي النتيجة المميزة التي حاز عنها غودل عام 1966 على ميدالية فيلدز Fields Medal (التي تعادل جائزة نوبل في الرياضيات)، وفي عام 1967 منحه الرئيس الأميركي جونسون ميدالية وطنية في العلم.

 الاستمرارية: استمرار الجدل


بفضل عمل كوهين بتنا ندرك أن لا أمل بحلّ فرضية الاستمرارية بشكلٍ أو بآخر انطلاقاً من نظام ZFC، لكنّ بديهيات نظرية المجموعات لم تأتِ من فراغ فاختيارها هو انعكاس لحدسنا بالنسبة لكيفية عمل المجموعات. فرغم عدم قدرتنا على إثبات فرضية الاستمرارية ما يزال بوسعنا التساؤل إن كانت افتراضاً طبيعياً يتماشى مع أفكارنا الفطرية بخصوص المجموعات.

 

قام الباحث الشهير في نظرية المجموعات هيو وودن Hugh Woodin بمناقشة حالة لاعتبار فرضية الاستمرارية فرضية خاطئة وأنّ \(2^{\aleph_0 }= \aleph_2\) هو افتراض أكثر طبيعية، وناقش أناس آخرون وجود قيم أكبر للاستمرارية؛ فكوهين نفسه كتب حول اعتقاده بأنّ \(2^{\aleph_0 }\) يجب أن يكون أكبر من \( \aleph_ {\aleph_0 }\) وحتى من \( \aleph_ {{\aleph}_{\aleph_0 } } \).

 إلى اللانهاية وما وراءها بكثير

إنّ ديفيد هيلبرت هو من قال "لن يطردنا أحد من الفردوس الذي خلقه لنا كانتور"، وبعد وفاته بأكثر من مئة عام ما زال البحث في نظرية المجموعات مستمراً بقوة. وفرضية الاستمرارية ليست سوى الحلقة الأولى من سلسلة "بديهيات أصلية كبيرة" تتعامل مع أعداد أصلية أكبر من \( \aleph_0\) بما لا يمكن تخيله، كما لا توجد طريقة إجمالاً لتدوين هذه الأعداد ووجودها في العادة مستقلّ عن ZFC. مما يجدر ذكره أنه بالعودة إلى الواقع يمكن لهذه العناصر النابعة من إطار نظرية المجموعات أن تكون لها عواقب بين الأعداد الطبيعية.

لن يُذكر بول كوهين فقط بسبب إسهاماته الحاسمة في فرضية الاستمرارية وبديهية الاصطفاء، حيث تبقى التقنية التي ابتكرها "الإقحام" في يومنا هذا الطريقة النموذجية لبناء أكوانٍ جديدة من نظرية المجموعات ولتجنب المدارك القصوى التي وصل إليها فردوس كانتور.
 
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات