أنيقة ولكنها مراوغة. محاكاة لثقوب سوداء مندمجة تُظهر الموجات الثقالية.
مصدر الصورة: NASA/ESA/wikimedia
في العام الماضي، قدم العلماء القائمون على تجربة تلسكوب "تصوير الخلفية الكونية للاستقطاب في المنظومات خارج المجرات" (Background Imaging of Cosmic Extragalactic Polarization)، أو اختصاراً (BICEP2)، ادعاءً استثنائياً مفاده أنهم رصدوا الموجات الثقالية (gravitational waves)، وهي عبارة عن تموجات (ripples) في الزمكان.
وقد استُقبل هذا الادعاء، بداية، بالترحيب باعتباره أهم اكتشافات القرن غير المسبوقة، ليثبُتَ لاحقاً أن الأمر كان إنذاراً خاطئاً: إذ أن الإشارة المُلتقطة كانت مجرد غبار مجري.
فهل من المرجح أن نجد الموجات الثقالية يوماً ما؟ وهل حقاً ستقدم هذه الموجات دليلاً غير قابل للنقض على الانفجار العظيم؟ فيما يلي خمس خرافات ومفاهيم خاطئة شائعة عن موجات الثقالية.
- الانتكاسات هي فقط نتيجة مشاكل التسنين (teething)
ربما بدا الأمر وكأن البحث عن الموجات الثقالية قد بدأ للتو، لكنه في الواقع مستمر منذ عقود دون نجاح. الموجات الثقالية هي اضطرابات تذبذبية (pulsating perturbations) أو "تموجات" تحدث في نسيج الزمكان مع حركة جسم ضخم عبره. ومع انتشارها، فإنها تمدد الأجسام وتسحقها، وإن كان ذلك على النطاق دون الذري. ولذلك، يحاول العلماء إثبات وجود الموجات الثقالية من خلال النظر في كيفية تأثُر الأجسام القريبة.
في العام 1968، ادعى عالم الفيزياء الأمريكي جوزيف ويبر Joseph Weber أنه رصد موجات ثقالية بهذه الطريقة، باستخدام كاشف حصري (esoteric detector) يتكون من أسطوانات هائلة من الألمنيوم. وللأسف، ثبت عدم صحة هذا الادعاء لاحقاً.
في الوقت الراهن، يفضل العلماء استخدام مقياس التداخل الليزريّ (laser interferometry) في البحث عن الموجات الثقالية. وهو يعمل عن طريق تقسيم شعاع الليزر في اتجاهين متعامدين وإرسال كل منهما أسفل نفق فراغي طويل (vacuum tunnel). بعد ذلك يُعكس المساران مرة أخرى بواسطة المرايا إلى النقطة التي بدءا منها، حيث يوجد الكاشف. إذا تشوشت الموجات وهي في طريقها بواسطة الموجات الثقالية، فستختلف الحُزم التي أُعيدَ تجميعها عن الأصل.
تمتلك مقاييس التداخل الأرضي (ground-based interferometers)، مثل مرصد مقياس التداخل الليزري للموجات الثقالية (Laser Interferometer Gravitational-Wave Observatory) أو اختصاراً (LIGO)، أذرع يبلغ طولها ما يقارب أربعة كيلومترات.
أما مقاييس التداخل الفضائية (space-based interferometers)، مثل مرصد ديسي-هيرتز لقياس التداخل الليزري (Deci-hertz Interferometer Gravitational Wave Observatory) أو اختصاراً (DECIGO)، وهوائي مقياس التداخل الليزري الفضائي المتقدم (Laser Interferometer Space Antenna) أو اختصاراً (eLISA)، فتستخدم أذرع ليزرية تمتد إلى ما يقارب المليون كيلومتراً. ومن المتوقع أن تطلق هذه التجارب خلال العقد المقبل، مع قرب إطلاق بعثة الـ "باثفايندر" (Pathfinder) التابعة لـ eLISA.
- تأتي الموجات الثقالية من الكون المبكر
في الواقع، إن أقوى مصادر الموجات الثقالية هي العمليات الفيزيائية الفلكية (astrophysical)، والتي تحدث طوال الوقت.
إن المصدر الأكثر هيمنة، من بين هذه المصادر، هو دوران أزواج الأقزام البيضاء (white dwarfs) أو الثقوب السوداء، ما يسمى "النظم الثنائية" (binary systems).
ويعتقد أن هذه الأزواج تفقد الطاقة تدريجياً عن طريق إطلاق الموجات الثقالية. وقد ثبُت ذلك من خلال اكتشاف النجم النابض هالس-تايلور (Hulse-Taylor pulsar) الشهير في العام 1974. إذ قدم هذا النجم النابض دليلاً غير مباشر على الموجات الثقالية، بينما كان يفقد طاقته وفق المعدل الذي تنبأت به نظرية النسبية العامة (لم تُشاهد الموجات نفسها).
إلا أن العلماء ما زالوا يبحثون عن الموجات الثقالية التي ولدت بعد ولادة الكون بفترة قصيرة، والتي تسمّى بالموجات الثقالية البدائية (primordial)، وهي أكثر مراوغة بكثير.
- سيتمكن مرصد BICEP2 من "رؤية" الموجات الثقالية يوماً ما
لقد تمثل أحد أهداف مرصد BICEP2 بمحاولة رصد سمة الموجات الثقالية البدائية مطبوعة في درجة حرارة الخلفية الكونية الميكروية (cosmic microwave background) أو اختصاراً (CMB). يحتوي هذا الإشعاع على الضوء الذي بزغ للمرة الأولى من حساء الجسيمات الأولية، وذلك عندما كان عمر الكون فقط 300,000 سنة، وذلك قبل ولادة النجوم الأولى بوقت طويل.
الخلفية الكونية الميكروية، كما قيست بواسطة القمر الصناعي بلانك (Planck satellite). مصدر الصورة: ESA/Planck Collaboration
عندما تهتز موجات الضوء في اتجاه معين، نقول إنها ذات استقطاب (polarisation) معين. وإذا كانت الموجات الثقالية موجودة في الوقت الذي ولدت فيه الـ CMB، فينبغي أن تترك وراءها نمطاً دوّامياً (swirly) فريداً من نوعه -تموج في استقطاب الضوء - يُسمى بالأنماط-B-modes) B).
ولذلك، فإن الأنماط-B ما هي إلا أدلة غير مباشرة فقط على الموجات الثقالية. وهذه نقطة مهمة: فالتجارب، من مثل BICEP2، لن تستطيع مشاهدة الموجات الثقالية نفسها، بل فقط البصمات التي تتركها وراءها.
وحتى إزالة الغبار عن هذه البصمات ليس بالأمر السهل. فأنماط-B عادة ما تَحتجِبُ بإشارات أقوى بكثير من انبعاثات الغبار ومن تأثير ما يسمى "التعديس الثقالي" (gravitational lensing)، الذي يمزج بين أنواع مختلفة من أنماط الاستقطاب. إن عزل هذا التأثير، وغيره من الشوائب، هو من أكثر المهام حساسية، وغالباً ما يعتمد على نتائج من تجارب أخرى.
سوف تعَالجُ هذه المشكلة المعقدة بواسطة الجيل القادم من الـ BICEP -من أمثال تجارب تلسكوب أتاكاما الكوني (Atacama Cosmology Telescope) أو اختصاراً (ACT) وخليفته الـ AdvACT، المخطط له. وسوف تتمكن هذه التجارب من قياس الـ CMB وفق مقاييس خارج متناول بلانك، وسوف تكون قد تعلمت دروساً قيمة من تجارب الـ BICEP في نمذجة الغبار والشوائب الأخرى. وتبدو آفاق الكشف عن نمط-B واعدة جداً.
يعتقد البعض أن مقاييس التداخل الفضائية قد تتمكن من الكشف عن الموجات البدائية، وربما كان ذلك بواسطة طرح الموجات التي رُصدَ تولدها عن العمليات الفيزيائية الفلكية المعروفة.
- ستُثبت الموجات الثقالية نظرية الانفجار العظيم
لم يكن الانفجار العظيم هو أقدم مصدر للموجات الثقالية، بل هو التضخم الكوني (cosmological inflation): وهي الفترة التي مر فيها الكون بومضة قصيرة من التوسع الهائل بعد الانفجار الكبير.
والموجات الثقالية، التي ادعت تجربة BICEP2 رصدها، هي نتيجة ثانوية لهذا الاندفاع من التوسع المتسارع للكون. وهذا وفقاً لنظرية النسبية العامة، التي تنبأت بأن الجسم المُسرع يبعث موجات ثقالية (على غرار الطريقة التي تبعث بها الشحنة المسرعة الموجات الكهرومغناطيسية).
يُعتبر حالياً بأن التضخم هو النموذج الرائد للكون المبكر. وفي حين أنه قد تم إثبات تنبؤات رئيسية كثيرة عن التضخم، إلا أن التنبؤ الخاص بوجود الموجات الثقالية البدائية ما زال صعب المنال. وإذا ما رُصدت، فإنها ستخبرنا مباشرة عن مقياس الطاقة الذي حدث التضخم عنده، مما سيقربنا إلى فهم الانفجار العظيم. لكنها لن تُثبِت الانفجار العظيم، الذي يمثل فرادة رياضية ما زلنا بحاجة لفهمها.
- إننا بحاجة لتجربة واحدة فقط لرصدها
سيتطلب الحصول على دليل إحصائي قوي على الموجات الثقالية أكثر من تجربة واحدة بالتأكيد. فالموجات الثقالية، مثلها مثل الموجات الضوئية، تأتي في طيف من الترددات. وكلتا تقنيتي الرصد (أنماط-B وقياس التداخل ليزري) تبحثان عن موجات بترددات مختلفة -بفارق قدره 15 رتبة حجم.
تتنبأ أبسط نظريات التضخم بخلفية للموجات الثقالية البدائية ذات طيف معين من التردد، وبعبارة أخرى، نحن نعرف ما هو المدى الذي يجب أن يكون عليه كل تردد. لذا، إذا ما تمكن العلماء من رصد الموجات الثقالية على اثنين من هذه الترددات المختلفة جداً، فإن هذا سيكون دليلاً قوياً على التضخم يصعب رفضه حتى من قبل أكثر المشككين تشدداً.
إذاً، هل هذا البحث مُجدٍ؟
ليس من المرجح كثيراً أن يتمكن الجيل الأول من مقاييس التداخل الفضائية من إحراز الحساسية المطلوبة لرصد الموجات الثقالية البدائية. كما أن الشكل الدقيق لهذه الإشارات غير معروف، وربما كان، من حيث المبدأ، بعيداً عن متناول أي من مقاييس التداخل المستقبلية.
على الرغم ذلك، إذا تمكنا من رصد الموجات الثقالية الفيزيائية الفلكية مباشرة، فإن هذا من شأنه أن يفتح سبلاً جديدة لاختبار صحة نظرية أينشتاين للنسبية العامة، التي تستخدم لوصف التثاقل (gravitation) في الفيزياء الحديثة. وهذه النظرية، والتي كانت موضع التساؤل في السنوات الأخيرة، هي التي تتنبأ بوجود الموجات الثقالية.
كما أنه من شأن رصد هذه الموجات أيضاً أن يوفر استبصارات جديدة عن تطور النجوم والمجرات والثقوب السوداء، والتي لن نحصل عليها بأي طريقة أخرى.