أربعة أشياء قد لا تعرفها عن المادة المظلمة!

بعد فترةٍ ليست بالطويلة من اكتشاف الفيزيائيين لبوزون هيغز (Higgs boson) في تجارب مصادم الهارونات الكبير في "سيرن" (CERN)، طُرح السؤال التالي على المدير العام لسيرن رولف هوير Rolf Heuer "ما التالي؟"، فكانت إحدى الأولويات القصوى التي ذكرها هي معرفة طبيعة المادة المظلمة (dark matter). 

تفوق كمية المادة المظلمة كمية المادة العادية بخمس مراتٍ في الكون، ويبدو أنها موجودةٌ في كل التكتلات عبر الكون، وتُشكل نوعاً من السقالة التي ترتكز عليها المادة المرئية المتجمعة معاً في المجرات (galaxies). وما تزال طبيعة المادة المظلمة مجهولة، ولكن علماء الفيزياء أشاروا إلى أنها تتكون من الجسيمات على غرار المادة المرئية. 

وتتطرق وسائل الإعلام بشكلٍ دائمٍ إلى موضوع المادة المظلمة، ويحصل هذا الأمر غالباً عند رصد إحدى التجارب لعلاماتٍ محتملةٍ على وجودها. وإليكم فيما يلي أربع حقائق عن أكثر المواضيع إثارةً في فيزياء الجسيمات.

 

  1. لقد اكتشفنا المادة المظلمة في الواقع

    Illustration by Sandbox Studio, Chicago
    Illustration by Sandbox Studio, Chicago


    يوجد في الوقت الراهن بضع تجاربٍ تعمل على اصطياد المادة المظلمة، لكن العلماء اكتشفوا وجودها قبل عقودٍ مضت. كان عالم الفيزياء الفلكية فريتز زفيكي Fritz Zwicky، يرصد في ثلاثينات القرن الماضي دوران المجرات التي تُؤلف عنقود كوما (Coma cluster) -وهو مجموعة تزيد عن ألف مجرة وتقع على بعد أكثر من 300 مليون سنة ضوئية من الأرض- وحينها قدّر زفيكي كتلة تلك المجرات بالاعتماد على الضوء القادم منها، وقد فوجئ عندما وجد أنه إذا كان ذلك التقدير سليماً عند السرعة التي تتحرك بها المجرات، فيجب بالتالي أن تبتعد تلك المجرات عن بعضها البعض. في الحقيقة، يحتاج العنقود لكتلةٍ تتجاوز 400 ضعف الكتلة التي حسبها لكي يحافظ على تماسكه. 

    إذاً، هناك شيءٌ ما غامضٌ يجري عند تلك الأحجام الكبيرة، وهو مادة مظلمة غير مرئية مسؤولة عن الكتلة الإضافية للمجرات. تم تجاهل فكرة المادة المظلمة بشكلٍ كبيرٍ حتى سبعينيات القرن الماضي، عندما شاهدت عالمة الفلك فيرا روبين Vera Rubin، شيئاً كرّس في نفسها الانطباع ذاته عندما كانت تدرس سرعة النجوم المتحركة حول مركز المجرة الجارة المرأة المسلسلة "أندروميدا" (Andromeda)، وتوقعت حينها أن النجوم الموجودة عند حافة المجرة لابد وأنها تتحرك بسرعةٍ أبطئ من تلك الموجودة عند المحور، لأن النجوم الأقرب لعنقود النجوم الساطع وبالتالي فائق الكتلة، ستشعر بسحبٍ ثقالي أكبر. 

    على أي حال، وجدت روبين أن النجوم الموجودة في هوامش المجرة تحركت بسرعةٍ مساويةٍ لتلك الموجودة في المنتصف، وهذا سيكون معقولاً فقط إذا كان قرص النجوم المرئية محاطاً بهالةٍ أكبر مصنوعة من شيء لا يُمكنها رؤيته، شيء كالمادة المظلمة. ومنذ ذلك الحين أكدت عمليات رصدٍ فلكيةٍ أخرى أن شيئاً ما غريباً يجري في تلك المجرات البعيدة، والضوء المتحرك في أرجاء الفضاء. إذاً، من الممكن أن ينتج ارتباكنا عن خطأ في فهمنا للجاذبية، وهذا ما قالته روبين لنفسها. ومع ذلك، فإذا كان صحيحاً وجود المادة المظلمة، فإننا قد رأينا تأثيراتها بالفعل.

     
  2.  ربما رصدنا المادة المظلمة حقاً

    Illustration by Sandbox Studio, Chicago
    Illustration by Sandbox Studio, Chicago


    تبحث العديد من التجارب عن المادة المظلمة، وبعضها ربما رصدها. تكمن المشكلة في عدم قدرة أي تجربةٍ على الادعاء بذلك بثقةٍ عاليةٍ لإقناع المجتمع العلمي، وينتج ذلك إما عن علم الإحصاء أو عدم القدرة على استبعاد التفسيرات البديلة المحتملة، ولم ينجح ادعاءان مختلفان في إقناع العلماء بشكلٍ كافٍ للتصريح بتأكيد أي نوعٍ من النتائج. 

    في عام 1998، رصد علماءٌ يعملون في تجربة "داما" DAMA -وهو اختصار لكاشف المادة المظلمة المدفون في جبل غران ساسو بايطالي- نمطاً واعداً في بياناتهم، فمعدل اكتشاف التجربة لتصادماتٍ قادمةٍ من الجسيمات -التي من المحتمل أنها جسيمات المادة المظلمة- تغير على مدار العام، وبلغ ذروته في شهر يونيو/حزيران ليعود وينخفض من جديدٍ في شهر ديسمبر/كانون الأول. 


    وهذا ما كان يبحث عنه علماء داما بالتحديد. إذا كانت مجرتنا محاطةً بهالةٍ من المادة المظلمة، بالتالي، فإن الأرض تتحرك بشكلٍ دائمٍ داخل هذه الهالة أثناء دورانها حول الشمس، والشمس بدورها تتحرك بشكلٍ مستمرٍ داخل المادة المظلمة أثناء دورانها حول مركز درب التبانة (Milky Way). 

    وعلى مدار نصف عام، تتحرك الأرض في نفس الاتجاه من الشمس، وخلال النصف الآخر، تتحرك في الاتجاه المعاكس، وعندما تتحرك كل من الأرض والشمس بشكلٍ ترادفي، فإن سرعتيهما مجتمعتين داخل هالة المادة المظلمة تكونان أكبر من سرعة الأرض عندما تتحرك هي والشمس بشكلٍ متعاكس، وبدا أن نتائج داما كشفت عن أن الأرض تدور داخل هالةٍ من المادة المظلمة.

    على أي حال، يوجد بعض الثغرات، فمن الممكن أن تكون تلك الجسيمات التي شاهدها كاشف داما شيئاً آخر غير المادة المظلمة، شيءٌ تتحرك الأرض أو الشمس بشكلٍ متواصلٍ داخله. أو أن هناك شيءٌ ما يتغير في البيئة القريبة. 

    وتستمر تجربة داما، التي تعرف حالياً بـ "داما/ليبرا" (DAMA/LIBRA) برؤية هذا التغير السنوي، لكن النتائج ليست بالقاطعة كفايةً -بالنسبة لمعظم العلماء- لاعتبارها اكتشافاً للمادة المظلمة. 

    سيكون من الصعب جداً على أي شخصٍ يعمل على تجربةٍ ما إقناع العلماء بأنهم وجدوا المادة المظلمة، ويُعتقد بأن الناس سيبدأون بالاقتناع فقط عندما تبدأ عدة تجاربٍ برؤية الشيء نفسه. لكنّ ذلك سيعتمد على ما يجدونه، وفقاً لعالم الفيزياء النظرية نيل واينر Neal Weiner مدير مركز علم الكون وفيزياء الجسيمات في جامعة نيويورك. وربما يتبين لنا أيضاً أن المادة المظلمة شيئاً أغرب أو أكثر تعقيداً مما نعتقد. 

    يقول واينر: "إذا تبين أن المادة المظلمة شيءٌ أكثر تنوعاً بكثير، فربما يحتاج الأمر حينها لتجربةٍ وحيدة لإثارة حماس الناس بشأنها، وربما يحتاج إلى تجربتين لإقناع الناس بشكلٍ أوسع. لكن إذا ما حصل شيءٌ ما غير متوقع، فربما سيحتاج الأمر حينها إلى أكثر من إقناع الناس". 

    اكتشفت تجربة "باميلا" (PAMELA) الفضائية في العام 2008، زيادةً في البوزيترونا (positrons)، التي قد تكون ناتجةً عن تصادم جسيمات المادة المظلمة مع بعضها البعض وفنائها. وفي العام 2013، اكتشفت تجرب "أمس-02" (أو AMS-02)، الموجودة على متن محطة الفضاء الدولية، نفس النتيجة بدقةٍ أكبر، لكن ما يزال العلماء غير مقتنعين بذلك، ويجادلون بأن تلك البوزيترونات ربما جاءت من البولزارات "النجوم النابضة pulsars". 

    تعاني التجارب تحت الأرضية -بما في ذلك CoGeNT وXENON وCRESST وCDMS وLUX- من دعمٍ متقطعٍ ومشاهداتٍ كاذبةٍ للمادة المظلمة، ويبدو أننا بحاجةٍ للانتظار حتى الانتهاء من الجيل التالي من تجارب المادة المظلمة للحصول على صورةٍ كاملة.

     
  3.  لا نعرف ما طبيعة المادة المظلمة، وقد يكون هناك أنواعٌ متعددةٌ تؤلف مجتمعةً كامل "القطاع المظلم"​

    Illustration by Sandbox Studio, Chicago
    Illustration by Sandbox Studio, Chicago


    وضع العلماء مجموعةً من النماذج لما قد تكون عليه المادة المظلمة، والمرشح الأقوى حالياً هو ما يُعرف بـ "ويمب" (WIMP) -الجسيمات فائقة الكتلة وضعيفة التفاعل- وتتضمن الاحتماليات الأخرى جسيماتٍ تم التنبؤ بها من قبل نماذج التناظر الفائق (supersymmetry) -النظرية التي تُصيف جسيماً أساسياً جديداً لكل جسيمٍ نعرفه- ويبحث مجموعةٌ من العلماء الآن عن جسيمات المادة المظلمة المعروفة بـ "الأكسيونات" (axions).

    لكن لا وجود لأي سببٍ يدعو للاعتقاد بوجود نوعٍ واحدٍ من جسيمات المادة المظلمة، إذ أن المادة المرئية -التي تضم الكواركات (quarks) والغلوونات (gluons) والإلكترونات التي تكوّننا وتكوّن كل شيءٍ حولنا إضافةً إلى حديقةٍ كبيرةٍ من الجسيمات الأولية والقوى، بما في ذلك الفوتونات والنيوترينات (neutrinos) وبوزونات هيغز (Higgs bosons)- تكون جميعها حوالي 5% من الكون، والباقي هو المادة المظلمة وتكون حوالي 23%، والطاقة المظلمة (dark energy) التي تعتبر قصةً مختلفةً وتكون حوالي الـ 72% المتبقية. 

    وكما يصيغها واينر، تخيل عالِماً موجوداً في عالم المادة المظلمة ويحاول فهم المادة المرئية، تكون المادة المرئية نسبةً صغيرةً مما هو موجود، ماذا سيتوقع عالم المادة المظلمة حينها عن تنوعها (المادة المظلمة)؟ العالم الذي نعرفه متنوعٌ جداً، فلماذا إذاً تكون المادة المظلمة بهذه البساطة؟ تساءل العلماء فيما إذا كانت جسيمات المادة المظلمة تجتمع على شكل ذراتٍ مظلمةٍ (dark atoms) تتفاعل وفقاً لكهرومغناطيسية مظلمة أيضاً. 

    هل من المحتمل وجود كيمياء مظلمة؟ في الحقيقة، بدأ العلماء الآن بالبحث عن جسيمات المادة المظلمة المضيئة التي تنبأت بها نماذج القطاع المظلم (dark sector) من الكون.

     
  4.  فرص رصد المادة المظلمة خلال 5 إلى 10 أعوامٍ قادمةٍ جيدة، لكن قد لا نراها على الإطلاق

    Illustration by Sandbox Studio, Chicago
    Illustration by Sandbox Studio, Chicago


    يعيش العلماء في هذه الآونة حالةً من النشوة، فبوجود عددٍ من الأفكار التجريبية المختلفة التي قد تثمر في الأعوام القليلة القادمة، يتنبأ العديدون بأن المادة المظلمة هي في متناول أيدينا في غضون عقدٍ من الآن. 

    يقول عالم الفيزياء النظرية تيم تايت Tim Tait من جامعة كاليفورنيا في اريفين: "من بين إحدى الأشياء المثيرة حقاً هو أن كل تلك التقنيات ستنضج في الوقت نفسه، إنها فرضةٌ عظيمةٌ لتشغيلها ضد بعضها البعض ورؤية ما سيجري"، فربما يجد العلماء المادة المظلمة باستخدام طرقٍ مختلفة.

    بدايةً، ربما يكتشفها العلماء مباشرةً، ويتضمن الكشف المباشر الانتظار الصبور بوجود تجاربٍ كبيرةٍ وفائقة الحساسية مدفونة في مكانٍ هادئٍ تحت الأرض، ومعزولة قدر الإمكان عن التداخل الناجم عن الجسيمات الأخرى. سيضيق العلماء في السنوات القليلة القادمة لائحتهم الحالية لتقنيات الكشف، ليركزوا بالتالي مصادرهم لبناء جيل التجارب الأكبر والأكثر حساسيةً بكثير.

    الطريقة الثانية لاكتشاف المادة المظلمة تكمن في رصدها بشكلٍ غير مباشرٍ عبر السعي وراء تأثيراتها على التجارب الفضائية، وستقدم التطويرات -التي ستجري على التجارب الموجودة على الأقمار الفضائية وتلك في محطة الفضاء الدولية- كميةً أكبر من البيانات لتساعد العلماء في تحديد معنى تأثيرات المادة المظلمة المحتملة التي قد يرونها. 

    تكمن الطريقة الثالثة لاكتشاف المادة المظلمة في إنتاجها داخل مسرعاتٍ مثل مصادم الهادرونات الكبير، فمن المحتمل أن تتحول الجسيمات عند تصادمها داخل المصادم بطاقاتٍ عاليةٍ إلى كتلةٍ على شكل مادةٍ مظلمة. وفي الآونة الأخيرة، جرى تطوير مصادم الهادرونات الكبير، وعاد للعمل في بدايات العام 2015 وتضاعفت قدرته، مما فتح الباب أمام احتمالية صناعة جسيماتٍ ما كنا لنتمكن من رؤيتها سابقاً. 

    وفقاً لتايت، حالما يجد العلماء المادة المظلمة باستخدام طريقةٍ ما، فإنهم سيكونون قادرين على تركيز جهودهم على دراسة تأثيراتها، وعندما نعرف المزيد عن خواصها، يقول تايت إن "ذلك سيزيد من طاقة هذا النشاط"، ويُردف قائلاً: "نحن الآن في غرفةٍ مظلمةٍ نحاول تحسس محيطنا، وحالما تعرف أين توجد الأشياء التي تبحث عنها، سيكون بإمكانك دراستها بحذرٍ أكبر".

    لكن من المحتمل أيضاً أن يكون من المستحيل الوصول إلى المادة المظلمة، فقد تكون ببساطةٍ مراوغةً كثيراً بالنسبة لعملية الكشف أو الإنتاج، وإذا لم يرَ العلماء المادة المظلمة خلال الأعوام العشر القادمة، فقد يكونون بحاجةٍ إلى إيجاد طريقةٍ جديدةٍ للبحث عنها، أو يتوجب عليهم إعادة النظر فيما يعرفونه عن الجاذبية!

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات