اللعب في عوالم متعددة – الجزء الثاني

هذه المقالة هي جزء من مشروعنا: "الخيال العلمي والحقيقة العلمية"، لاستكشاف عالم الأكوان المتوازية (parallel universes) الغريب والرائع.

في المقالة السابقة ألقينا نظرةً على النتيجة المثيرة، التي توصل إليها ديفيد دويتش David Deutsch وديفيد والاس David Wallace، والتي تدعي أنها جعلت "قاعدة بورن" Born rule معقولة من منظور تفسير العوالم المتعددة للميكانيكا الكمومية. ولكن، هل هي كذلك فعلاً؟

يدعي أنصار العوالم المتعددة أن نتيجة "دويتش/ والاس" جعلت قاعدة بورن معقولةً في سياق العوالم المتعددة، فالأرقام التي تُسندها لكل مُخرج من مخرجات القياس، أو بشكل أعم لكل تفرع من الكون، لم تعد زائدةً عن الحاجة أو محيرة. إنها الأرقام التي يجب على كل عاقل أن يستخدمها في اتخاذه للقرارات.

إن فكرة أن السلوك البشري يمكن أن يفسّر الكميات التي انبثقت عن الفيزياء النظرية قد تبدو غريبةً للوهلة الأولى. فالتفسير التقليدي لميكانيكا الكم يرى الأرقام التي تنتج عن قاعدة بورن على أنها احتمالات، والاحتمالات هي شيء محكمٌ وموضوعي، ولذلك يسعدنا أن نقر بهذا التفسير. لكن، هل السلوك البشري محكم وموضوعي؟

العقلانية والاحتمالية:


هناك إجابة من جُزأين لهذا الإشكال المبهم، ففي حُججهما، يفترض دويتش ووالاس أن تفضيلات الناس تلتزم بمبادئَ عقلانيةٍ أساسية معينة. على سبيل المثال، عندما يواجه المرء مجموعة متنوعة من الإجراءات، فيجب أن تكون لديه القدرة على ترتيبها وفقا لتفضيلاته. وتقول النتيجة إنه مادام هناك التزام بهذه المبادئ العقلانية، فسيكون هناك مسارٌ إجرائي واحد فقط عندما تواجهك مجموعة من القرارات في كون متفرع. ينطوي هذا المسار الإجرائي على الأرقام الناتجة عن قاعدة بورن. من هذا المنظور، تبدأ قاعدة بورن باكتساب صفة الحتمية التي نتوقعها من أي قانونٍ فيزيائي.



يمكن استخدام نظرية القرار لفهم حساب الاحتمالات
يمكن استخدام نظرية القرار لفهم حساب الاحتمالات

أما الإجابة الثانية، فهي أنه حتى في العالم المعتاد غير المتفرع تبقى احتمالية العالم، كمفهوم، بعيدةً عن أن تكون محكمة وموضوعية. فنحن نقول إننا حين نرمي بقطعة معدنية متماثلة تماماً، فإن احتمال أن تنقلب على الوجه هو 1/2 . لكن كيف يمكنك تبرير هذا الإقرار؟ 

بوسعك أن ترمي قطعة النقد مرات كثيرة كثيرة، وأن تلاحظ أنها تنقلب على الوجه في نصف عدد الرميات تقريباً. لكنه من الصعب جداً أن يتحقق ذلك في نصف عدد الرميات تماماً. إذا، كيف يمكننا أن نصرّ على أن الاحتمالية هي شيء ثابتٌ ومطلق؟ 

"تبدو الاحتمالية كأنها شيء موضوعي تماماً، إنها ليست مجرد مسألة رأي"، كما يقول والاس، ويضيف: "لكن ماهية هذا الشيء الموضوعي، هي أمرٌ على القدر نفسه من عدم الوضوح."

لجأ الناس إلى نظرية القرار (Decision Theory) كوسيلةٍ لفهم الاحتمالية منذ وقت سبق بكثير تبني دويتش ووالاس فكرة الأكوان المتفرعة. يقول والاس إن "إحدى السبل لفهم تقييمات أحدهم الشخصية للاحتمالات، هي سؤاله عن الرهان الذي سيقبل به في ظرف معين". ووفقاً له: "حتى إن كنت لا تفهم الاحتمالية، فبوسعك أن تفهم الإجراء والتفضيلات والخيارات والقرارات. ومثل هذه الاستراتيجية، على اعتبار أنها وسيلة لفهم لماذا كان حساب الاحتمالات على الشكل الذي هو عليه، كانت مؤثرة للغاية".

إذا كنت سعيداً برؤية الاحتمالية في ضوء الدور الذي تلعبه في عملية صنع القرار العقلانية، فلن يكون هناك فرقٌ كبيرٌ بين تفسير قاعدة بورن من منظور العوالم المتعددة وتفسيرها من منظور العالم الواحد. (وسيتقوض السؤال عما إذا كانت "أرقام قاعدة بورن" هي حقاً احتمالات، أو مجرد احتمالات "مزعومة"، إلى سؤال في اللغة)، كما يقول والاس. وقطعاً، لن يكون لديك أي سبب لرفض هذا التفسير من منظور العوالم المتعددة، إذا قبلت به من منظور العالم الواحد.

هناك أمر آخر، إن نظرية القرار التقليدية - حين تطبق على وضع ما في العالم الواحد، حيث قطعة النقد تنقلب على الوجه أو الظهر، ولكن ليس على الوجهين - ترشدك إلى كيفية اتخاذ قرار عقلاني، مثل القبول برهان على رمي قطعة نقد، بناء على الاحتمالات التي تراها. فإذا رأيت، على نحو خاطئ، أن احتمال الوجه هو 0.99، فإن هذا لا ينتهك أي من بديهيات العقلانية.

غير أن نتيجة "دويتش/والاس" تذهب إلى أبعد من ذلك، فهي لا تخبرك فقط كيف تتخذ القرار الأفضل باستخدام بعض الاحتمالات -إن كنت تسميها كذلك - بل تخبرك بأن هذه الاحتمالات يجب أن تكون تلك الناتجةَ عن قاعدة بورن. وهكذا، فإن ما بدأ كنقطة ضعف في منظور العوالم المتعددة، دون معرفة معنى قاعدة بورن، أدى إلى نتيجة أقوى من ضدها في نظرية القرار العادية.



لكن، هل هذا صحيح؟


لم يكن هذا مقنعاً للجميع، فقاعدة بورن هي شيء ندركه من خلال التجربة. فإذا ما توقعت أن احتمالات التدويم للأعلى spin-up والتدويم للأسفل spin-down هي 1/2 لكليهما، وإذا ما كررت تجربة قياس السبين (spin) مرات عديدة، فإنك ستقيس التدويم للأعلى فيما يقارب نصف عدد المرات وستقيس التدويم للأسفل في النصف الثاني. ويجب على أي نظرية علمية لائقة أن تفسر هذه الملاحظات التجريبية تلقائياً.

إن "[نتيجة دويتش/والاس] لا تخبرك عن سبب مشاهدتك مخرجاتٍ تجريبيةً تتبع [قاعدة بورن]"، كما يجادل أدريان كينت Adrian Kent، وهو عالم الفيزياء الكمومية لدى جامعة كامبريدج الذي يعارض منظور العوالم المتعددة. "إن ما نحتاجه هو قصة ما عن الاحتمالات، أو عن مفهوم آخر ما بديل عن الاحتمالات، ذات جدوى علمية مباشرة. فأمر نظرية القرار برمته هو إجابة عن السؤال الخطأ".

الاحتمالية هي مفهوم مراوغ. الصورة Diacritica
الاحتمالية هي مفهوم مراوغ. الصورة Diacritica

العقبة الأخرى هي مبادئ العقلانية التي تكمن وراء نتيجة "دويتش/والاس". ويسأل كينت: "[ماذا لو] كنت لا أصدق [مبادئ] العقلانية؟". "ما سبب صحتها؟ في نهاية المطاف، ليس بوسع أحد أن يُثبت أنها صحيحة. أعتقد أن هناك استراتيجيات واضحة تماماً، وبوسعك أن تبررها عقلانيا ولكنها لا تحقق هذه البديهيات".

على سبيل المثال: أحد تلك المبادئ يقول إنه يجب ألا يكون هناك أي تضارب في المصالح بينك وبين أي من ذواتك المستقبلية، فإذا فضلت إحدى ذواتك المستقبلية الغنى على الفقر، فيجب على ذاتك الحالية أن تفضل أن تصبح هذه الذات المستقبلية غنية وليست فقيرة.

لكن، افترض أنه بوسعك أن تضمن أن ذواتك المستقبلية ستكون إما ذات غنية غنى فاحشا أو فقيرةً ولكن عفيفة. ربما فضلت أن تكون ذا غنى فاحش، ولكنك، لأسباب أخلاقية، قد تقرر أن تضمن بقاء نصف ذواتك المستقبلية فقيرة. وهذا انتهاك للمبدأ؛ فذاتك الحالية تريد لبعض ذواتك المستقبلية أن تصبح فقيرة، بيد أن هذه الذوات المستقبلية المسكينة قد ترغب في أن تصبح غنية. لكن، هل يمكن اعتبار هذه الاستراتيجية غير عقلانية حقا؟

علاوة على ذلك، يشير كينت إلى أنه ليس من الواضح تماماً، من وجهة نظر الرياضيات، كيف ينقسم العالم إلى أفرع بالضبط، وأي الأرقام تسندها قاعدة بورن لكل فرع. فكيف يمكن لشخص أن يتخذ قراراً بشأن قبول أو عدم قبول الرهان دون مثل هذه المعلومات؟

إن المناظرات المحيطة بهذه القضايا حاذقة وفنية؛ وبالنسبة إلى أنصار منظور العوالم المتعددة، تعد نتيجة "دويتش/والاس" نصراً مبيناً. إذ إنها باقتراحها معنىً لمكون رئيسي من رياضيات ميكانيكا الكم قد أزالت عقبة رئيسية أمام أخذ منظور العوالم المتعددة بجدية. وليس هناك من شك بأن النتيجة مثيرة، على أقل تقدير.



هل هناك دليل آخر على العوالم المتعددة؟


في نهاية المطاف، لن يهز عتاة المعارضين لمنظور العوالم المتعددة (Many Worlds) إلا مزيدٌ من الأدلة التجريبية المباشرة. فهل هناك أي منها في الأفق؟ تتمحور نظرية العوالم المتعددة حول أن التراكب (Superposition) موجود، ليس فقط في الأنظمة الصغيرة جداً، التي تنطوي على جسيمات صغيرة أو جزيئات، بل صعوداً إلى مستوى الكون.

لذلك، فكلما تأكد نموذج من التراكب في نظام أكبر في المختبر، يمكن أن يعد هذا بمنزلة دليل على منظور العوالم المتعددة. لكن العلامات التي تشي بالتراكب حساسة جدا، بوسعك أن تراقبها في الأنظمة شديدة العزلة عن محيطها. ولكن هذا الحد من العزلة صعب المنال حالياً بالنسبة للأنظمة الأكبر، غير أن التجريبيّين يُثابرون في العمل، لأسباب ليس أقلها حاجتنا لمثل هذه الوسائل لبناء أجهزة كمبيوتر كمومية فائقة السرعة، تستخدم التراكب. إنها درب طويلة بعيدة، ولكن، ربما انكشف الستار يوماً ما عن الإشارات المبهمة لذواتنا الأخرى.



عن هذه المقالة



ماري آن فرايبيرغر هي محررة Plus وقد قابلت أدريان كينت وديفيد والاس في ديسمبر 2012.
كينت ووالاس هما محررا كتاب Many Worlds?: Everett, Quantum Theory & Reality.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات