من الكواكب وحتى الأكوان

ألقى هذه المحاضرة مارتن ريز Martin Rees في ندوة بمناسبة الذكرى الـ70 لميلاد ستيفن هوكينج.

 مباشرة بعد الانفجار العظيم


لننظر الآن رجوعًا إلى تلك الحقبة من الزمن، والتي سبقت تكون أول المجرات. في الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم، كانت درجة حرارة كل الأشياء 10 مليارات درجة، كانت خليطًا من الإشعاعات -الفوتونات بشكل أساسي-، وبعض البروتونات والنيوترونات، وكذلك بعض الجزيئات الأخرى التي تشكل اليوم المادة المظلمة. كانت الأمور مستقرة في ذلك الوقت بنفس الاستقرار الذي يخبرك الجيولوجيون أن الأرض كانت عليه في بداية تاريخها.

يُظهر كوننا (Our cosmos) الحالي تفاوتًا واسعًا جدًا من درجات الحرارة والكثافة، بدءًا من النجوم الحارة بشكل متَّقد وانتهاءً بسماء الليل المظلمة. قد يقلق الناس أحيانًا حول كيفية انبثاق هذا التعقيد العويص من كرة ملتهبة عديمة الشكل. قد يبدو هذا الأمر وكأنه يخرق مبدأً فيزيائيًا مقدسًا، ألا وهو القانون الثاني من الديناميكيات الحرارية، والذي يصف نزعة "عنيدة" للأنماط وللبنى في أن تتلاشى وتتناثر.

تكمن الإجابة على هذه المسألة المعضلة ظاهريًا في قوة الجاذبية؛ تزيد الجاذبية من تباين الكثافة بين الأجسام بدلًا من إزالة التباين، ففي عالم متوسع، فإن أي جسم يبدأ بكثافة أكبر بقليل من المعدل سوف يتباطأ بشكل أكبر، وذلك لأنها تشعر بجاذبية أكثر، وبالتالي فإنها سوف تتلكأ في الخلف أكثر فأكثر، وذلك حتى تتوقف عن التوسع وتنفصل بعيدًا.

يظهر الفلم أدناه محاكاةً لـ"عالم افتراضي"، فهي تقدم نموذجًا لمنطقة كبيرة بشكل كافٍ لأن تتكون فيها آلاف المجرات. جرى تصغير التوسع هنا وذلك حتى تبقى الصورة بنفس الحجم. يمكنك رؤية المكونات البدائية في امتدادها وتطورها بشكل واضح. في هذه التكتلات مجرية الحجم، تقوم الجاذبية بزيادة التباين أكثر فأكثر؛ فالغاز يُسحب إلى الداخل، ويضغط على هيئة نجوم.

 

 أجريت المحاكاة في "المركز الوطني لتطبيقات الحواسيب الفائقة"، عن طريق أندري كرافتسوف Andrey Kravtsov من جامعة شيكاغو و أنطوني كلايبن Anatoly Klypin من جامعة نيوميكسيكو. المؤثرات البصرية من قبل أندري كرافتسوف


وهناك أمر آخر مهم، وهو أن التذبذبات التي لُقمت للنموذج الحاسوبي لم تكن عشوائية؛ فهي مستقاة من التذبذبات في درجة الحرارة الموجودة في الخلفية مكروية الموجة (Microwave background)، وهي عبارة عن إشعاعات سافرت إلينا من وقت قريب من الانفجار العظيم، عن طريق رقم نسميه Q. تتذبذب درجة الحرارة بمقدار 1 من 100,000 فقط، وينشأ أصل هذه التذبذبات من اختلافات بسيطة في كثافة المادة، وإذا قمنا بحوسبة معلومات هذه الاختلافات البسيطة في الكثافة قدمًا، نجد أنها تكبر بسبب الجاذبية إلى أجسام ظاهرة، وهي الموجودة في كوننا الحالي.

إشعاع الخلفية الكونية مكروية الموجة. حقوق الصورة:ناسا
إشعاع الخلفية الكونية مكروية الموجة. حقوق الصورة:ناسا


هل نعيش في عوالم متعددة؟
 


يمكننا أن نتتبع تطور كوننا رجوعًا إلى ثانية واحدة بعد الانفجار العظيم، وبالتأكيد، يمكننا أن نتتبعه بثقة حتى نانوثانية بعد الانفجار العظيم. كان ذلك الوقت هو الوقت الذي كانت فيه كل الجسيمات تمتلك من الطاقة كمية تماثل تلك التي يمكن الحصول عليها في مصادم الهادرونات الكبير (Large Hadron Collider)، وكان الكون كله مضغوطًا في مساحة بمثل حجم نظامنا الشمسي.



ولكن الأسئلة من مثل "من أين أتت الذبذبات؟" و "لماذا احتوى الكون الناشئ على الخليط الذي نراه اليوم من البروتونات، والفوتونات، والمادة المظلمة؟"، هذه الأسئلة تأخذنا رجوعًا إلى اللحظات الأكثر قصرًا والتي كان فيها كوننا مضغوطًا بشكل أكبر من ذلك، عندما كانت الطاقات والكثافات ذات قيم متطرفة في كبرها بحيث أن التجارب لا توفر دليلًا مباشرًا على الفيزياء المرتبطة بها.

 

احذر! هذه مجرد نظريات تخمينية
احذر! هذه مجرد نظريات تخمينية

والآن دعنا نذكر بعضًا من المسائل التخمينية. بحسب "نظرية التضخم" (Inflation theory) المشهورة، فإن كل الكون الذي يمكن رؤيته الآن باستخدام مقاريبنا قد "تضخم" من قطعة مفرطة الكثافة لا تعدو بضعة سنتيمترات في قطرها. كما أن الخصائص المرئية للكون تعتمد على فيزياء هذه الأوضاع شديدة الإفراط.

إذًا ماذا تكون هذه الخصائص؟ فمثلًا، هل نعلم نحن كم يبلغ حجم الكون؟ يمكننا فقط أن نرى حجمًا منتهيًا، بعدد منتهٍ من المجرات. وسبب ذلك أن هناك أفقًا، وهو عبارة عن قشرة تحيط بنا بحيث تضع حدودًا للمسافة التي يمكن للضوء أن يكون قد سافرها منذ الانفجار العظيم. ولكن هذه القشرة لا تمتلك من الأهمية الفيزيائية ما يعدو أهمية الدائرة المحيطة بأفق رؤيتك عندما تكون في منتصف المحيط. من المنطقي أن نتوقع وجود عدد مجرات أكبر بكثير بعد هذا الأفق. لا يوجد تدرج قابل للقياس في الحرارة أو في الكثافة عبر هذا الكون، الأمر الذي يوحي بأن هذا الكون يمتد على مسافات أبعد بآلاف المرات من الكون المرئي لنا. وهذا على أقل تقدير.



إذا ما كان الكون يمتد على مسافة بعيدة بعدًا كافيًا، فإن كل الاحتمالات التوافقية ستتكرر، وسيكون هناك، بعيدًا خلف الأفق، نسخ منك، بل ونسخ من كل المنطقة التي يمكن رؤيتها في يومنا هذا.

حتى ولو صح ذلك، فإنه حتى علماء الفلك المحافظون واثقون أن سعة الزمكان الموجودة في مدى رؤية مقاريبنا لا تشكل إلا جزءًا صغيرًا من حصيلة الانفجار العظيم، بحيث يكون أغلبه، من حيث المبدأ، غير قابل للرصد بشكل مباشر.

ليس هذا كل شيء. ربما لم يكن الانفجار العظيم "الخاص بنا" الانفجارَ الوحيد. كانت الفكرة الأكثر شيوعًا، والتي طُوِّرت على مدى الثلاثين سنة الماضية، هي فكرة "التضخم الأبدي" (Eternal inflation). قد تكون جزيرتنا مجرد جزيرة واحدة من الزمكان موجودة في أرخبيل فسيح. هناك العديد من الأشكال المختلفة لهذه الفكرة، ولكنها تبقى أفكارًا تخمينية لأنها تعتمد على فيزياء لم تزل مجهولة.

يشكل أحدَ تحديات القرن الحادي والعشرين إيجادُ الفيزيائيين أيَ الاحتمالات التالية هي الصحيحة. هل هناك العديد من الانفجارات العظيمة بدلًا من واحد؟ إن كان هناك أكثر من واحد، هل تكون كلها محكومة بنفس قوانين الفيزياء؟ وإن لم تكن كذلك، فإن بعضًا مما نطلق عليه "قوانين الطبيعة" قد تكون -في هذا المنظور الأعظم- مجرد قوانين داخلية محلية تحكم سبيلنا الكوني.

هناك عدد من الخصائص يجب على كوننا أن يمتلكها من أجل أن يتطور من بداية كثيفة خالية من الملامح إلى هذا التعقيد الموجود حاليًا. على سبيل المثال، يجب أن تكون هناك جاذبية كما يجب أن تكون هناك تذبذبات للجاذبية من أجل أن تتغذى عليها. قد لا تكون هذه الظروف متوفرة في كل أرجاء العوالم المتعددة. قد تكون بعض الأكوان مليصة [1] وقد تكون عقيمة؛ أي أن القوانين السائدة فيها لا تسمح بنشوء أي نوع من التعقيد. لا يمكننا أن نتوقع أن نتواجد في كون مثالي، ولكن، بدلًا من ذلك فإننا يجب أن نكون في أحد الأكوان الموجودة كجزء من مجموعة فرعية من الأكوان، والتي يمكن لمراقب أن يتطور فيها، هذا هو ما يسمى "بالانتقاء البشري".



من الممتع البحث في مدى قيم البارامترات التي تسمح للتعقيد بأن يظهر. (هؤلاء المصابون بحساسية ضد الأكوان المتعددة يمكنهم أن يعتبروا ذلك تمرينًا عقليًا في تاريخ الحقائق المنافية). سنقوم بإثبات ذلك مستخدمين البارامترين اللَّذَين قمت بذكرهما سابقًا. الأول هو لامدا (Lambda)، والذي يقيس معدل التوسع الكوني. ويعتقد مناصرو نظرية الأوتار أن لقيمة هذا البارامتر مدىً واسعًا جدًا من الاحتمالات. والآخر هو مدى التذبذب (Fluctuation amplitude) والمشار إليه بالحرف Q، والذي يقيس مدى "اضطراب" الكون الذي كان ناشئًا. كلما زاد هذا الرقم، كان تكون البُنى فيه أبكر، وكانت هذه البنى ذات حجم أكبر. لا توجد حجة نظرية متماسكة لمعرفة قيم هذا البارامتر، كما أن هذه القيم لم تزل غير أكيدة.


المنطقة المسموحة لـLambda و Q
المنطقة المسموحة لـLambda و Q

يوضح الشكل أدناه المناطق المسموحة للقيمتين Lambda و Q، والتي يسمح لمراقب ما فيها أن يتطور. إذا كانت Q أصغر، فإنه لن يوجد هناك جيل ثانٍ من النجوم التي تحتوي على عناصر ثقيلة، وبالتالي لن تتكون أنظمة كوكبية بالمرة. إذا كانت قيم Q شديدة الصغر، فإن الغاز لن يكون قادرًا على أن يبرد، وإذا كانت قيم Q أكبر، فإن هذا سيؤدي إلى كونٍ من الثقوب السوداء الهائلة، ولن يكون هناك مجرات. وإذا كانت قيمة Lambda أعلى من الخط، فإن الأنظمة المترابطة لن تتكون؛ لأن التنافر الكوني سيبدأ بالتغلب على الجاذبية قبل أن تبدأ الأنظمة بالانهيار. نحن الآن بعيدون عن معرفة ما يحدد قيمتي Lambda و Q، كما أننا أيضًا بعيدون أكثر عن وضع قياس للاحتمالية النسبية لكل مجموعة من الثوابت. ولكننا إذا علمنا ذلك، فإننا سنعلم إذا ما كنا نعيش في كون نموذجي قابل للحياة أم لا.

 


نظرة سريعة على علم الكواكب


أود أن أنهي كلامي بنظرة سريعة على علم الكواكب قبل 400 سنة. في ذلك الوقت، كان يوهانس كيبلر Johannes Kepler يظن أن الأرض كانت مميزة، وأن مدارها كان دائريًا، وأنها كانت مرتبطة بالكواكب الأخرى عن طريق نسب رياضية جميلة. نحن الآن ندرك أن هناك عددًا هائلًا من النجوم، وكل منها له أنظمة كوكبية خاصة به. يمتاز مدار الأرض فقط بأنه، وبقدر ما، يمتلك مدىً من أنصاف الأقطار والاختلافات المركزية (Eccentricities) التي يمكن أن تتوافق مع وجود حياة.

 

نموذج كيبلر للنظام الشمسي من (Mysterium Cosmographicum,1596)
نموذج كيبلر للنظام الشمسي من (Mysterium Cosmographicum,1596)

ربما نكون الآن على مقربة من اختلاف مفاهيمي مشابه، ولكن هذه المرة على مقياس أكبر بكثير. قد لا يكون الانفجار العظيم الخاص بنا أمرًا مميزًا، حتى إنه قد لا يعدو في تميزه تميز الأنظمة الكوكبية. قد تكون البارامترات الخاصة به مجرد "حوادث كونية"، ولا يشكل مدار الأرض إلا مثالًا على ذلك. قد يكون توقنا إلى تفسيرات في علم الكونيات أمرًا فارغًا لا جدوى منه، مثل فراغ البحث الذي قام به كيبلر حول الدلالات السحرية للأعداد.

إن كانت هناك عوالم متعددة، فإن هذا سيتطلب منا أن نمضي بمبدأ كوبرنيكوس خطوة أخرى إلى الأمام؛ فنظامنا الشمسي واحد من مليارات الأنظمة الكوكبية في مجرتنا، والتي هي واحدة من مليارات المجرات التي تستطيع تلسكوباتنا التقاطها. ولكن هذه الصورة البانورامية قد تكون جزءًا صغيرًا من حصيلة الانفجار العظيم "الخاص بنا"، والذي قد يكون في ذاته واحدًا من بين ملايين.

قد يكون من المحبط لبعض الفيزيائيين إذا اتضح أن بعضًا من الأرقام الأساسية التي يحاولون تفسيرها ما هي إلا تصادفات بيئية. ولكن في الجانب الآخر، فنحن سنتحقق أن المكان والزمان كانا ذوا تركيب غني -وذلك على مقاييس هائلة جدًا بحيث أن علماء الفلك غير مدركين لها-، وليسو في استيعابهم هذا أكثر من عوالق لا يعدو كونها لترًا من الماء، بحيث يكونون مدركين لطبوغرافية الكون وللمحيط الحيوي.

من المشهور أن ستيفن هاوكينج Stephen Hawking يستمتع بالمراهنة على الأمور العلمية، وكذلك يفعل آخرون.

كانت هناك مناقشة أثناء ندوة في مؤتمر في ستانفورد، حيث سُئٍل المشاركون عن مدى قوة رهانهم على مبدأ العوالم المتعددة. قلت أنا بأنه على المقياس التالي "هل ستراهن بسمكتك الذهبية، أو بكلبك، أو بنفسك" فأنا سأراهن بالكلب، أما أندريه ليندي Andrei Linde فقال أن ثقته أكبر بكثير، ولكن في نهاية المطاف، فقد أفنى 25 سنة من حياته في فكرة التضخم اللامنتهي، أما بالنسبة لستيفن وينبيرغ Steven Weinberg فقد قال في النهاية أنه سيكون سعيدًا بالرهان بكلب مارتن ريز، وبحياة أندريه ليندي.

أتسائل ماذا سيقدم ستيفن هوكينج إذا ما سئل. لا شك أنه يأخذ فكرة العوالم المتعددة على محمل الجد، كما أن كتابه الأحدث يدعى "التصميم العظيم" (The grand design)، ولا شيء يمكنه أن يكون أكثر عظمة من هذا، كما لا يمكن أن يمثل شيءٌ آخر تحديًا أعظم منه للعلماء الأصغر سنًا.


ملاحظات:


[1] المليص (Stillborn): أملصت المرأة إذا رمت ولدها لغير تمام، وفي طب الأطفال، هو الجنين إذا مات بعد أن يكون أتم 24 أسبوعًا من الحمل.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

اترك تعليقاً () تعليقات