استقطاب إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، حيث يشير اللون الأحمر للمناطق الدافئة واللون الأزرق للمناطق الباردة. وتُظهر الأشرطة البيضاء اتجاه استقطاب الضوء الأول.
حقوق الصورة: مسبار ويلكينسون لقياس تباين الأمواج الميكروية التابع لناسا.
Credit: WMAP/NASA
يأتي معظم ما نعرفه عن بداية الكون و تاريخه المبكر من ظاهرة اكتُشفت بالصدفة قبل 50 عاماً، ألا وهي إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background) أو اختصاراً CMB. يُعد هذا الإشعاع الخافت للغاية المتبقّي منذ مدة –بعد حدوث الانفجار العظيم (Big Bang) بحوالي 400 ألف سنة- عندما تشكلّت ذرات محايدة كافية بشكلٍ يسمح للضوء بالسفر بُحرية، وقد كان هذا الإشعاع أقرب شيء يملكه العلم كصورة شاملة تُظهر محتويات الكون بالشكل الذي كانت تأخذه حينها.
يقول جوهانس هابماير Johannes Hubmayr من مجموعة الأجهزة الكمومية في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا NIST's Quantum Devices Group: "فيزياء إشعاع الخلفية الكونية الميكروي عميقة، فهناك الكثير لنتعلمه منها". قام هابماير مع زملائه بتصميم صفيفة استشعار جديدة لـ CMB، وما يُميّزها هو امتلاكها لعناصر كشفٍ حساسةٍ للغاية قادرة على قياس حزمتين طيفيتين، بشكلٍ متزامن.
تتوزع كثافة CMB بانتظامٍ فائق، حيث أنها تتغير بجزء واحد فقط من 100 ألف جزء عند الانتقال من مكان لآخر. لكن، ومع ذلك، بإمكان العلماء استخراج معلومات من هذه التباينات الضئيلة في تغيّرات الكثافة، وتوزّع الطاقة في الكون المبكر. فقد حُدّد ودُرس، ولايزال محطّ الأنظار، تباين الخواص (anisotropy) هذا بشكل مركّز خلال الربع الأخير من القرن الماضي من قِبل عددٍ من العلماء حول العالم.
ولكن هناك خاصية أخرى في فوتونات CMB لوحظت بشكل حديثٍ مؤخراً، ألا وهي استقطابها (polarization)، حيث تكشف الاختلافات في القطبية (polarity) جوانبَ متتامة أخرى من التطور الكوني.
يقول هابماير: "شكّل تباين الخواص الكثيف، بشكلٍ كبيرٍ، النموذجَ القياسي الّذي نعتمده حالياً في علم الكونيات، وقيّد الأعداد الستة التي تصف هذا النموذج رياضياً، من مثل عمر الكون والكثافة المتوسطة للمادة التي تملأ الفضاء. ومع ذلك، يعلمُ علماء الكونيات بأن هذا النموذج غير مكتمل. ستمنح قياسات الاستقطاب العلماءَ القدرة على الذهاب لما وراء هذا النموذج، ووصف العمليات الفيزيائية التي حدثت بعد الانفجار العظيم بجزء من مليار من مليار من مليار من الثانية".

Credit: NIST
في نفس الوقت، قامت العديد من التلسكوبات الأرضية في القطب الجنوبي، والمرتفعات القاحلة في أمريكا الجنوبية، وأماكن أخرى، بإجراء قياسات هامة. قام المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا بتزويد العديد منها بالكواشف.
تحمل الاختلافات في الاستقطاب معلوماتٍ عن التغيّرات في الكثافة، والأثر العدسي الثقالي الّذي يحدث عندما ينحني الضوء بفعل المادة الموجودة بيننا وبين سطح CMB، ومعلومات عن موجات الجاذبية التي يُحتمل انبعاثها في أوقات مبكرة للغاية من عمر هذا الكون.
ويتابع هابماير: "العلماء متشوّقون لدفع حدود القياس الخاص بـ CMB بسبب ثروة المعلومات التي يمكن الحصول عليها، ولكن هناك ما يحول دون ذلك، فإن أخذ هذه القياسات يُعدّ أمراً غايةً في الصعوبة، فالإشارة ضعيفة جداً، كما أن هناك مصادرَ فيزيائية فلكية أخرى تحجب هذه الإشارة الصافية –من داخل مجرتنا على سبيل المثال".
تُعدّ CMB عبارةً عن إشارة حرارية، تبلغ ذروتها عند التردد 160 غيغا هرتز مع أطوال موجية في المجال الميليمتري. تعاني أجهزة الاستشعار التقليدية، التي بإمكانها كشف الاستقطاب في حزمة ترددية وحيدة (لها تردد مركزي عند 90 أو 150 غيغا هرتز)، من مشاكلٍ في تمييز CMB عن المصادر الفيزيائية الفلكية الأخرى. ولكن تصميم المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا الجديد لأجهزة الكشف لن يكون أكثر حساسية فحسب، بل وقادراً على التقاط أطوال موجية متعددة، حيث باستطاعته قياس خواص الفوتونات على ترددين مختلفين في نفس الوقت مستخدماً نفس البكسل.
يقول هابماير: "يزيد هذا الابتكار التقني حساسية أجهزة الكشف ويمنحها حزمة ترددية ثانية مختلفة، بحيث يمكن لهذه الأجهزة استخدامها في تمييز CMB عن المصادر الفيزيائية الفلكية الأخرى. وقد برزت التغطية الترددية مؤخراً كمطلبٍ أساسي للجيل القادم من أجهزة تصوير الخلفية الميكروية، وكواشف الأطوال الموجية المتعددة، التي توفر هذا المطلب دون أية إضافةٍ إلى منطقة المستوى البؤري (focal plane) المكلفة".

Credit: Ahincks at English Wikipedia via Wikimedia Commons
إن حساسات TES تكون ذات حساسية فائقة، في تلك الظروف، حتى لكميات صغيرة جداً من الطاقة الحرارية المضافة. عندما تصل الفوتونات الى التلسكوب توجهها أسطوانات مستدقة إلى هوائي على سطح الرقاقة التي تحوي المقاييس الإشعاعية الحرارية الأربعة الخاصة بحساسات TES. (مقياس الإشعاع الحراري أو بولومتر (bolometer): هو الجهاز الذي يقيس قوة الضوء الساقط من خلال الكشف عن كمية الحرارة التي يوّلدها في المواد التي تعتمد فيها مقاومتها الكهربائية على درجة حرارتها). الهوائيات حساسة للاستقطاب وتنقل الطاقة من فوتونات ذات استقطابات وترددات مختلفة إلى مقاييس إشعاعية حرارية TES مختلفة، الأمر الذي يؤدي إلى تغيير المقاومة الكهربائية.
في وقت سابق من هذا العام قام مشاركون من جامعة برينستون، وجامعة بنسلفانيا، وجامعة كورنل، وجامعة ميشيغان، وغيرها من المؤسسات، بتثبيت الموضع الأولي للكاشفات الجديدة على تلسكوب أتاكاما لعلم الكونيات، على ارتفاع 17 ألف قدمٍ في صحراء تشيلي.
يقول هابماير: "تُعدّ هذه الصفيفة الأولى من نوعها، حيث تظهر البيانات الأولية بأن هذه الصفيفة تقوم بأداءٍ جيد ملحوظ، وهو ما يحمسنا حقاً. ستستمر الأرصاد خلال هذا الموسم، وستزودنا مجموعة البيانات الناتجة عن ذلك، مع المدلول الناتج عن التردد المضاف، برؤى جديدة عن الكون والفيزياء الأساسية".
يتوقع علماء المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا بأن هذه الحساسات ستوسع مجال الرؤى التي يمكن استخلاصها من إشعاع الخلفية الكونية الميكروي CMB، وتتضمن إحداها معرفةَ مجموع كتل جميع النيوترينوهات (neutrinos) الكونية التي تتدفق عبر الفضاء بلا توقف، فالنيوترينوهات هي جسيمات عديمة الكتلة تقريباً، وبالكاد تتفاعل مع المادة العادية، وتعد النيوترينوهات الكونية بقايا من الكون المبكر، فلقد انفصلت عن البلازما البدائية بعد ثواني معدودة من الانفجار العظيم، ويؤثر مجموع كتلها على نمو بنية الكون، والتي يتم سبرها من خلال معرفة استقطاب CMB. يقول هابماير: "سيوفر CMB وسيلة بديلة لقياس مجموع كتل النيوترينوهات، وهذا لوحده له تأثير كبير على الفيزياء عالية الطاقة".
يضيف هابماير: "أجد بأن قياسات استقطاب CMB الإلزامية، قد توفّر، ولأول مرة، مسباراً كمومياً للجاذبية، ممهداً لآفاقٍ جديدة في الفيزياء. ولكي يحدث ذلك، على الطبيعة أن تكون لطيفةً، وتضع مطال الإشارة عند مستوىً يمكن كشفه باستخدام أجهزتنا. فمن واجبنا، مثل علماء المقاييس والموازين، دفع حدود التكنولوجيا لجعل هذه الأنواع من القياسات ممكنة".