الاكتشاف الصدفة
Credit: NASA/wikimedia
لو عدنا بالزمن 50 عاماً إلى الوراء، لرأينا المغني بوب ديلان Bob Dylan يستخدم الغيتار الكهربائي لأول مرةٍ في العزف، ولوجدنا أن الجنس البشري لم يكن قد حقق بعد، خطوته العظيمة بالنزول على سطح القمر. كما كنا سنشعر بالدهشة عندما نكتشف أن أغلب الناس يظنون أن الانفجار العظيم (Big Bang) هو شيء يحدث عند انفجار بالونٍ كبير!
لكن في عام 1965، أنجز كلٌ من أرنو بينزيا Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Wilson اكتشافاً سيُعزز من فهمنا لكيفية نشوء الكون. يُعتبر إشعاع الخلفية الكونية الميكروي Cosmic Microwave Background أو اختصاراً CMB، الشعاع الوحيد المتبقي من عملية نشوء الكون، ويقدم هذا الاكتشاف المهم دليلاً قوياً محتملاً على أن الكون توسع وتمدد نتيجةً لإنفجارٍ أوليٍ عنيف يسمى الانفجار العظيم. واليوم، يُعتبر الـ CMB واحداً من أهم الإشارات التي تساعدنا في فهم الكون.
يُسافر هذا الضوء الناتج عن الانفجار العظيم، الذي حدث منذ حوالي 14 مليار سنة، عبر الكون منذ ذلك الوقت إلى الآن، مما يسمح لنا باكتشاف "الشفق" على الأرض. وفي الوقت الذي تم فيه اكتشافه، كانت هناك نظريتان متنافستان حول تفسير نشأة الكون: إحداهما هي نظرية الانفجار العظيم The Big Bang Theory، بينما الأخرى هي نظرية الحالة الثابتة The Steady State Theory، التي تنص على أن الكون كان موجوداً منذ الأزل.
ومنذ أن تم الاكتشاف الأولي لـ CMB، استخدمها علماء الفلك للحصول على أكبر قدرٍ من المعلومات حول الكون، وتتعلق هذه المعلومات بأصل الكون وعمره ومكوناته، بل وحتى بمستقبله.

اكتشاف بمحض الصدفة
تم اكتشاف CMB بالصدفة عندما كان ويلسون وبينزياس في مختبرات بيل في نيوجيرسي Bell Labs in New Jersey، يستخدمان تلسكوباً لاسلكياً ذا حساسيةٍ عاليةٍ بهدف البحث عن شيء مختلفٍ كلياً عن CMB وقتها، وهو الهيدروجين المحايد (neutral hydrogen)، حين التقط التلسكوب الخاص بهما إشارةً غريبة.
ومن أجل التعرف على إشارةٍ غامضةٍ مثل هذه، كانا بحاجةٍ إلى التأكد من مصدر كل جزءٍ من الإشارة التي التقطها التلسكوب. على سبيل المثال، كان عليهم حساب عددٍ من الأشياء الغريبة، مثل وجود أسلاكٍ معزولةٍ تالفة، أو حتى احتمال وجود فضلات الحمام في بوق الهوائي!
وبعد قيامهم بحساب كل شيء، بقي أمامهم جزءٌ واحد من الإشارة لم يستطيعوا استبعاده، وقد التقطوا إشارة هذا الجزء ليلاً ونهاراً، وعلى مدار السنة بغض النظر عن الاتجاه الذي كانوا يحركون فيه الهوائي، مما جعلهم في حيرةٍ تماماً حيال ماهيته.
وللخروج من وضعهم المحير، قام بينزياس بالتواصل مع بيرنارد بيورك Bernard Burke، وهو عالم في الإشعاع الفلكي، يعمل في قسم مغناطيسية الأرض في العاصمة واشنطن Department for Terrestrial Magnetism in Washington DC، وعلى متن الطائرة نصحه بالاتصال مع بوب ديك Bob Dicke من جامعة برينستون Princeton University.
كان ديك وفريقه من العلماء يبحثون في الواقع عن الـ CMB، وذلك نظراً لأن نماذجهم النظرية قد أشارت إلى احتمال قيام كونٍ حديث النشوء وحار وكثيف، بإنتاج مثل هذه الأشعة. لقد كانوا على بعد أشهرٍ فقط من إجراء قياساتهم الخاصة، عندما تمكن ويلسون وبينزياس من الوصول إليها. وحينما سمع ديك بالخبر، أغلق سماعة الهاتف، ثم ذهب إلى زملائه وقال: "يا رفاق، لقد أصبحنا موضوع سبقٍ صحفي".
نُشر هذا الاكتشاف في إصدار شهر يوليو/تموز من مجلة Astrophysical Journal، وقد ظهرت المقالة بأبسط وأوضح عنوانٍ في تاريخ الفيزياء A measurement of excess antenna temperature at 4080 Mc/s، لكن يكمن وراء هذه الكلمات البسيطة أحد أهم الاكتشافات في تاريخ العلوم، وأول دليلٍ مباشرٍ على أن نشأة الكون قد بدأت مع حدوث الانفجار العظيم.
تبين لاحقاً أن فريقاً من واضعي النظريات الروس بقيادة جورج غامو George Gamow، قد توقع وجود أشعة CMB وذلك في عام 1948. ولم يكن ديك على علمٍ بهذا عندما نشر اكتشافه عام 1965. لذا عندما ظهرت الدراسة قام غامو بالكتابة إلى ديك، مشيراً إلى الأبحاث الأولى التي قام بها فريقه في هذا المجال. ومنذ تلك اللحظة، أصبح يُشار إلى الفريقين العلميين سويةً باعتبارهما صاحبا الفضل في هذا الاكتشاف.
وفي عام 1978، مُنح كل من ويلسون وبينزياس جائزة نوبل في الفيزياء لمساهمتهما في اكتشاف أشعة CMB، بينما لم ينل ديك أوغامو أي شيءٍ إطلاقاً.

فك رموز CMB
على مدار الخمسين سنة الماضية، تواصلت جهود علماء الفلك من أجل دراسة الـ CMB ومعرفة المزيد من التفاصيل عنها. وفي مطلع السبعينيات من القرن الماضي، أدرك بعض العلماء مثل جيم بيبلز Jim Peebles من جامعة برينستون، ورشيد سوناييف Rashid Sunyaev وياكوف زيلادوفيتش Yakov Zel'dovich من روسيا، أن تلك الأشعة تحتوي على بنيةٍ تركيبيةٍ تُدعى الخلايا متباينة الخواص (anisotropies).
يمكن استخدام هذه البنية في تحديد أهم المتغيرات حول الكون. ويتضمن ذلك تحديد كثافته العامة، وعمره، ومصيره في المستقبل. ومع ذلك، سوف تتجلى أهمية هذه البنية التركيبية في تحديد التغيرات الضئيلة في درجة الحرارة، وهو شيء كان من المستحيل كشفه باستخدام التلسكوبات الأرضية.
في عام 1989، أطلقت وكالة ناسا مستكشف الخلفية الكونية Cosmic Background Explorer ، أو اختصاراً COBE، والذي أكد القياسات السابقة لـ CMB بدقةٍ عاليةٍ وذلك في عام1990. وفي عام1992، شوهدت الخلايا المتباينة لأول مرة، ولقد أشاد العالم جورج سموت GEORGE SMOOT، المختص في جهاز COBE، بهذه النتيجة ووصفها بقوله: "إنها أشبه برؤية بصمات الله". ومع ذلك، لم يمتلك جهاز COBE الحساسية الكافية كي يحدد ويوضح هندسة الكون، والتي يرتبط مصيرها بنظرية أينشتاين عن الجاذبية.
وبعد عقدٍ من الزمن، طبقت تجربة بوميرانج Boomerange، التي تم فيها إعداد تلسكوب للإقلاع بواسطة البالون. وقد كانت أول من استطاع قياس وتحديد هندسة الكون باستخدام CMB، ثم تبعها مشروعٌ أشرفت عليه وكالة ناسا وهو مسبار ويلكنسون لتباين الأشعة الكونية Wilkinson Microwave Anisotropies Probe، أو اختصاراً WMAP.
وقد أكد مسبار ويلكنسون صحة نتائج تجربة بوميرانج، مع مزيدٍ من الدقة في تحديد عمر الكون وتكوينه ومستقبله. وأخيراً جاءت تجربة القمر الصناعي الأوروبي "بلانك" Europe's Planck satellite، التي أكدت نتائج مسبار ويلكنسون بمزيدٍ من الدّقة. وبواسطة قمر "بلانك"، تم الحصول على قياسات ذات دقة عالية لاستقطاب الخلفية الإشعاعية الكونية CMB، وذلك في المراحل الأولى لبداية الكون.
وفي آذار عام 2014، كانت الإثارة على أشدّها، عندما أعلن فريق العلماء المسؤول عن تجربة BICEP2، أن التلسكوب الخاص بهم والموجود في القطب الجنوبي استطاع التقاط أول دليلٍ مباشرٍ على حدوث التضخم الكوني COSMIC INFLATION، ويقصد بهذه الفكرة، أن الكون تضخم بشكلٍ سريعٍ جداً في الجزء الأول من الثانية (بعد حدوث الانفجار العظيم).
لكن في خريف عام 2014، اتّضح أن هذا الإعلان تتخلّله بعض العيوب والشكوك، باعتبار أن الإشارة التي رصدها العلماء كانت أشبه بالغبار الكوني الموجود في مجرتنا. ولم ينجح الفريق في استبعاد فرضية كون الإشارة التي التقطوها هي للغبار الكوني.
الاكتشافات القادمة
لا يزال السعي حثيثاً لإيجاد إشاراتٍ على حدوث التضخم الكوني من خلال الـ CMB، ويعمل الباحثون على معالجة الظروف القاسية في القطب الجنوبي، والحرارة المرتفعة في صحراء أتاكاما في تشيلي، للبحث عن أدلةٍ تخبرهم قصة التضخم الكوني. وقد بلغت الدراسات المتعلقة بأشعة CMB مستوىً متطوراً من النُضج والتقدم، حيث دخلنا إلى عصرٍ جديدٍ نستطيع فيه إجراء قياساتٍ دقيقةٍ تُمكننا من صياغة توقعات محددةٍ حول نظرية الانفجار العظيم، والحصول على دليلٍ على الأمواج الثقالية (gravitational waves)، وبالتالي التضخم الكوني، باعتباره الأكثر أهمية.
وبعد خمسين عاماً من اكتشافها، ليس من المبالغة القول أننا تعلمنا عن خصائص الكون من خلال دراسة الـ CMB أكثر مما تعلمناه بواسطة أي نوعٍ أخر من الرصد. إن أول اكتشافٍ لها في عام 1965، يُعدّ إحدى العلامات الفارقة في مجال العلوم في القرن العشرين.