تعرف على الأسرار المذهلة للمراحل المبكرة من عمر الكون

تخيل لو كان بمقدور عينيك رؤية جميع الفوتونات، وليس فقط تلك الموجودة في الجزء المرئي من الطيف (spectrum)، عندها ستكون قادراً على رؤية ما بين المجرات والنجوم اللامعة، ورؤية ضوء الخلفية الخافت المؤلف من أمواج ميكروية (microwaves) تنتشر في أرجاء الكون، وتتدفق نحوك قادمةً من كل الاتجاهات والأزمنة.

 

لدى تلسكوب بلانك (Planck Telescope) مثل هاتين العينين، وقد استخدم علماء بلانك في وقتٍ سابقٍ من هذا العام هذا الضوء لالتقاط صورةٍ مفصلةٍ للكون، أطلقوا عليها اسم "صورة الطفل (baby picture)"، كاشفين بذلك أن الكون أقدم مما كنا نتصور، ويحوي مقداراً من المادة أكثر مما كنا نعتقد سابقاً. وإذا كانت هذه القفزة في فهمنا للكون غير كافية، فإن تلسكوب بلانك لا زال لديه الكثير من البيانات في طياته.

 

 وميض من الضوء


تشكل التوهج الخافت الذي يراه تلسكوب بلانك بين النجوم والمجرات منذ زمنٍ بعيد، عندما كان عمر الكون 370 ألف سنة، في ذلك الحين وقبل أن يكون هناك كواكب أو نجوم، ملأت ضبابةٌ من بلازما الهيدروجين والإشعاع الكون، ومن ثم توسع الكون شديد الحرارة والكثافة وبردت الأشياء بشكل كافٍ، مما سمح للبروتونات والإلكترونات بالتجمع وتشكيل الذرات. 


وهذا ما جعل الكون شفافاً للمرة الأولى، وبالتالي سمح للضوء بالسفر لمسافاتٍ شاسعة دون عوائق، وعند تلك اللحظة، انطلق وميضٌ إشعاعيٌّ يحمل طبوغرافيا الكون، وعُرف بإشعاع الخلفية الكونية الميكروي (The cosmic microwave background).

 

وعبر النظر إلى توزع الشذوذات في هذه النسخة الظلية للكون المبكر، يأمل الباحثون أن يستخلصوا حالة الكون في ذلك الوقت، وأن يفهموا القوانين التي كانت تحكم حركته.

 

توسع سريع


نشر العلماء القائمون على مهمة بلانك الفضائية في وقتٍ مبكرٍ من هذا العام، الخريطة الأكثر تفصيلاً للخلفية الكونية الميكروية، وقد اكتشفوا في تقلبات حرارتها الضئيلة -التي تعود إلى التقلبات في كثافة الكون المبكر- أن الكون يحوي على كميةٍ أكثر قليلاً مما كنا نعتقد من المادة، وكمٍّ أقل من الطاقة المظلمة (dark energy). وكشفت هذه الخريطة أيضاً أن الكون أقدم بحوالي 100 مليون سنة مما اعتقدنا، وأن معدل توسعه أبطأ مما كنا قد حددناه سابقاً.

 

تُظهر الخريطة أيضاً كيفية توزع المادة في الكون، وتثبت صحة النظريات القائلة بأن عملياتٍ عشوائيةً جرت خلال الفترة الزمنية التي كان فيها الكون يتوسع بسرعة، مما يرفع كفة النظريات البسيطة المتعلقة بذلك التضخم (inflation) فوق تلك النظريات الأكثر تعقيداً.

 

تساعد هذه المعلومات الجديدة الباحثين على اختبار نماذج مفصلة عن كيفية تطور الكون وتشكله، وهي نماذج تتضمن في الوقت نفسه معلوماتٍ عن مستقبل الكون.

 

توضح صورة بلانك هذه أقدم ضوء موجود في كوننا، وتكشف عن المظهر الذي اتخذه الكون قبل 13.8 مليار سنة.
توضح صورة بلانك هذه أقدم ضوء موجود في كوننا، وتكشف عن المظهر الذي اتخذه الكون قبل 13.8 مليار سنة.

 

 البصمة الكاشفة للسر

يوجد في جعبة تلسكوب بلانك الكثير من المعلومات التي يوفرها لنا، فبالإضافة لتحديده لتغيرات الحرارة، بإمكانه تحديد استقطاب ضوء إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. 

تُستقطب أشعة الضوء عندما يُرشح الضوء عبر مواد محددة، أو عندما يتشتت داخل المادة. تكون الحقول الكهربائية لمعظم الأمواج الضوئية غير مترابطة، لكن الحقول الكهربائية للأمواج الضوئية المستقطبة تمتلك نفس التوجه، وتكون هذه الأمواج موازيةً لبعضها البعض. 


فمثلاً، تستخدم النظارات الشمسية المستقطبة هذه الخاصية لتحجب فقط الضوء المستقطب في مستوٍ أفقي، وهو نمط الضوء الذي يسبب الوهج، بينما تسمح لبقية الأنماط بالعبور.

لا تسمح دراسة ضوء إشعاع الخلفية الكونية الميكروي للباحثين برؤية مظهر الكون عندما كان عمره 370 ألف سنة فحسب، وإنما بمعرفة ماذا حصل له منذ ذلك الوقت أيضاً.

 التموجات في الزمكان


يقول العالم في مختبر وكالة الفضاء الأمريكية ناسا للدفع النفاث شارلز لورانس Charles Lawrence، بأن الطريقة الوحيدة لإنجاز ذلك، هي بالبحث عن دليلٍ على وجود الأمواج الثقالية (gravitational waves) المختبئة داخل أنماط الضوء المستقطب في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي. 

الموجات الثقالية هي تموجاتٌ في الزمكان (space-time)، يعتقد العلماء أنها نتجت عن توسع الكون بشكلٍ سريعٍ خلال جزءٍ صغيرٍ من الثانية بعد الانفجار العظيم (big bang) فيما يسمى بعملية التضخم، إن دراسة تلك الموجات ورصدها، تمكّن العلماء من معرفة كيفية نمو الكون وتطوره على مدار الـ 13.8 مليار سنة.

وبحسب لورانس، لفهم ذلك نحن بحاجة لأن نأخذ بالاعتبار أن ضوء الخلفية الكونية يسافر في أرجاء الكون في نفس الوقت الذي يتطور فيه الكون عبر الزمن، ويُضيف: "ذلك مشابهٌ لانطلاق عربةٍ في عام 1973، مسافرةً من فيلاديلفيا إلى لوس أنجلوس بسرعةٍ بطيئةٍ جداً بالمقارنة بسرعة تطور أمريكا، ستشاهد تلك العربة تاريخ البلاد يتكشف أمامها ويتطور قبل أن تصل إلى لوس أنجلوس، وبالطريقة نفسها يستطيع ذلك الضوء أن يحدثنا عن مراحل محددة من تاريخ كوننا".

قلصت الأمواج الثقالية ومددت الأطوال الموجية للضوء، التي استُقطبَت بعد ذلك جراء تفاعلها مع الإلكترونات في البيئة البدائية للكون المبكر. وباستطاعة ذلك الضوء المستقطب من الماضي إخبار العلماء كيف تشكلت الأمواج الثقالية، تماماً مثل الشقوق والغبار والأضرار التي يسببها الماء على العربة التي تجتاز الولايات المتحدة ببطء، والتي قد تخبرنا بقصةٍ عمليةٍ عن رحلتها. وهذا بدوره قد يساعد الباحثين على فهم كيفية تطور الكون بشكلٍ أفضل، والإجابة عن العديد من الأسئلة مثل كمية الطاقة التي دخلت ضمن عملية التضخم.

 

 
 النجوم الأولى

ينبع نوعٌ آخر من الضوء المستقطب -الذي يستطيع تلسكوب بلانك رصده- من الحقبة الزمنية التي تشكلت فيها أول الأجسام المضيئة، ويعتقد العلماء أن ذلك حدث حوالي 400 مليون سنة بعد الانفجار العظيم، أي عندما بدأت الذرات بالاجتماع مع بعضها لتشكل أجساماً مشعةً للطاقة مثل النجوم.  وفي ذلك الوقت، أحاطت بلازما مؤلفة من ذرات الهيدروجين بتلك الأجسام وامتصت الطاقة التي أشعتها.

حررت تلك العملية الإلكترونات التي كانت تدور حول ذرات الهدروجين (بسبب الطاقة التي امتصتها الذرات)، وجعلتها تسافر عبر الفضاء، حيث اصطدمت بضوء الخلفية الكونية الميكروية المستقطب.

ووفقاً للورانس، في المثال الآخر "مثال العربة"، فإن ذلك الضوء لا بد وأنه مضى في طريقه إلى يومنا الحاضر أثناء توسع الكون. وبالتالي، فدراسته تجعل من إمكانية تحديد التطورات الرئيسية أمراً محتملاً، بما في ذلك النقطة التي تشكلت عندها أولى الأجسام المضيئة في الفضاء. بدأ تلسكوب بلانك نشر بياناته عن الاستقطاب منذ عام 2014.

 صورة أفضل


سيأخذ بلانك، كما لم يفعل أي تلسكوب مشابه من قبل، قياساتٍ تعد الأكثر حساسيةً في مجال التقلبات الحرارية والاستقطاب معاً، ويمكن للعلماء -عبر استخدام هذه البيانات- تعلم الكثير عن الكون في فترة شبابه، وكيف نما منذ ذلك الحين. وقد تسمح تلك القياسات للعلماء بالاستدلال على وجودٍ لجسيماتٍ جديدةٍ أو قوى أو أبعاد كانت قد وُجِدَت في لحظات الكون الأولى. وإذا ما تم ذلك، ستقدم تلك المعرفة فهماً أفضل للقوانين التي تحكم الكون اليوم.

يقول لورانس: "سنحصل بفضل بلانك على بياناتٍ أكثر وقيود أفضل، وفوق كل ذلك، على قياساتٍ أكثر دقةً لتاريخ كوننا". صورة طفولة كوننا تزداد وضوحاً ووضوحاً.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background): أو اختصاراً CMB، وهو الإشعاع الحراري الذي خلفه ورائه الانفجار العظيم، وهي موجودة في كل الاتجاهات بالكثافة نفسها، وتعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن.
  • الأمواج الثقالية (gravitational waves): عبارة عن تموجات في الزمكان، نشأت عن حركة الأجسام في الكون. أكثر المصادر التي تُنتج مثل هذه الأمواج، هي النجوم النترونية الدوارة، والثقوب السوداء الموجودة خلال عمليات الاندماج، والنجوم المنهارة. يُعتقد أيضاً بأن الأمواج الثقالية نتجت أيضاً عن الانفجار العظيم. المصدر: ناسا
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات