تمَّ التنبؤ بوجود إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ (cosmic microwave background) أو اختصاراً (CMB) للمرة الأولى من قبل رالف آلفيرن Ralph Alpherin، وذلك في عام 1948 أثناء إجرائه لأبحاثٍ في مجال المحاكاة النووية للانفجار العظيم مع روبرت هيرمان (Robert Herman) وجورج غاموف George Gamow.
رُصِد هذا الإشعاع للمرة الأولى بالصدفة في عام 1965 من قبل آرنو بينزياس Arno Penzias وروبرت ويلسون Robert Willson في مختبرات بيل للاتصالات، في موراي هيل-نيوجيرسي. في ذلك الوقت أدت الضوضاء الناجمة عن هذا الإشعاع إلى التشويش على مُستقبِلات الأشعة الراديوية.
بمحض الصدفة، فقد كان هناك فريقٌ من جامعة برينستون يقوده روبرت ديك Robert Dicke ويتضمن ديف ويلكينسون Dave Wilkinson من الفريق العلمي لمهمة (WMAP)، وكان ذلك الفريق يُجري تجربة مخصصة للبحث عن CMB.
عندما سمع الباحثون بنتيجة مختبرات بيل، فقد أدركوا أنه تمَّ اكتشاف إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ، وتمثَّلت النتيجة في اثنتين من الأوراق العلمية اللتين نُشرتا في مجلة الفيزياء الفلكية Astrophysical Journal في عددها رقم 142 لعام 1965. وقد نُشرِت إحدى الورقتين من قبل بينزياس وويلسون وكانت تُفصِل الأرصاد، أما الثانية فقد نُشرِت من قبل ديك، وبيبلس، ورول، وويلكينسون، التي تم فيها عرض التفسير الكوني للنتائج، وعلى إثر هذه الأبحاث فقد تقاسم كلٌ من بينزياس وويلسون جائزة نوبل للفيزياء عام 1978 عن اكتشافهما هذا.
يُعتبر إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ اليوم بارداً جداً، حيث تصل درجة حرارته إلى 2.725 درجة فوق الصفر المطلق، وبالتالي فإن هذا الإشعاع يحتل بشكلٍ رئيسي القسم الميكرويّ من الطيف الكهرومغناطيسي (electromagnetic spectrum)، وهو غير مرئي بالعين المجردة.
على أية حال، فإن هذا الإشعاع يملأ الكون ويُمكن كشفه في كل مكانٍ ننظر إليه. في الحقيقة لو أمكننا مشاهدة الأمواج الميكروية (microwaves)، فإن كامل السماء ستتوهج بشكلٍ لامع ومتجانس في كل الاتجاهات.
تُظهِر الصورة الموجودة في اليسار صورة بالألوان الكاذبة لدرجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ في كافة أرجاء السماء، حيث تمَّ إسقاطه على شكلٍ بيضاوي بشكلٍ مشابه لخريطة للأرض.
تتميز درجة الحرارة هذه بأنها متجانسة بدرجةٍ أفضل من جزء في الألف، ويُمثِل هذا التجانس أحد الأسباب المهمة التي تدفعنا لتفسير هذا الإشعاع على أنه بقايا حرارية للانفجار العظيم (Big Bang)، وسيكون من الصعب جداً تخيل مصدر محلي للإشعاع متجانس إلى هذه الدرجة. في الحقيقة فقد حاول الكثير من العلماء ابتكار تفسيرات بديلة لمصدر هذا الإشعاع لكن لم ينجح أيٌ منهم في ذلك.
لماذا ندرس إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ
نظراً لمحدودية سرعة الضوء، فإن العلماء الذين يرصدون الكون البعيد هم في الواقع يشاهدون الماضي، ومعظم النجوم المرئية للعين المجردة في سماء الليل تقع على بعد يمتد بين 10 إلي 100 سنة ضوئية، وبالتالي فنحن نشاهد حالها قبل 10 إلى 100 سنة من الآن.
حين نرصد مجرة أندروميدا (المرأة المسلسلة)، وهي أقرب المجرات إلينا إذ تبعد حوالي 2.5 مليون سنة ضوئية، فنحن نراها كما كانت عليه قبل 2.5 مليون سنة. يستطيع علماء الفلك الذين يرصدون الكون البعيد باستخدام تلسكوب هابل الفضائي رؤية تلك المجرات على الحال التي كانت عليه بعد بضعة مليارات الأعوام من الانفجار العظيم.
وقد صدر إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ قبل 13.7 مليار عام من الآن، أي بعد بضعة مئات آلاف السنين من الانفجار العظيم، وقبل وقتٍ كبيرٍ من تشكُّل النجوم والمجرات؛ وبالتالي يُمكننا عبر دراسة الخواص الفيزيائية بشكلٍ مُفصّل معرفة المزيد عن الظروف التي كانت سائدة في الكون على المدى الواسع في بداية تاريخه، وكل ذلك بفضل رؤيتنا للإشعاع الذي انتقل لكل هذه المسافة الكبيرة.
أصل إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ
كان اكتشاف توسُّع الكون أحد أهم اكتشافات القرن العشرين، ويؤكد هذا التوسُّع أن الكون كان أصغر وأكثر كثافةً وسخونةً في الماضي البعيد عندما كان الكون المرئي بنصف حجمه الحالي، فقد كانت كثافة المادة تبلغ ثمانية أضعاف كثافتها الحالية، وكانت سخونة إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ تفوق نظيرتها الحالية بمقدار الضعف.
عندما كان حجم الكون مساوياً لجزء من المائة من حجمه الحالي، كان إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ أسخن بمائة مرة مما هو عليه الحال الآن، أي كانت قيمته مساوية لـ 273 درجة كلفن فوق الصفر المطلق (أو 32 درجة فهرنهايت)، وهي درجة حرارة تجمد الماء وتحوله إلى جليد فوق سطح الأرض.
بالإضافة إلى إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ، فقد كان الكون في مراحله المبكرة مليئاً بغاز الهيدروجين الساخن الذي يمتلك كثافة تصل إلى 1000 ذرة في السنتيمتر المكعب، وعندما كان حجم الكون مكافئاً لجزء من مائة مليون من حجمه الحالي كانت درجة حرارته تبلغ حوالي 273 مليون درجة فوق الصفر المطلق، وكانت كثافة المادة فيه مكافئة لكثافة الهواء فوق سطح الأرض، وكان الهيدروجين مُؤيَّناً بالكامل تحت درجات الحرارة المرتفعة هذه، بمعنى أنه كان مُكوَّناً من إلكترونات وبروتونات حرة.
لم تكن هناك ذرات في المراحل المبكرة من عمر الكون؛ وذلك لأنه كان ساخناً بدرجةٍ كبيرة جداً، ووُجِد حينها القليل من الإلكترونات والنوى المُؤلَّفة من بروتونات ونيوترونات. في تلك المرحلة تشتت إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ بسهولة على الفوتونات؛ لذلك فقد تحركت تلك الفوتونات في كافة أرجاء الكون المُبكر بشكلٍ مشابه لحركة الضوء البصري داخل الضباب الكثيف. في الواقع فقد تمَّ قياس ذلك بدقةٍ كبيرةٍ باستخدام التجربة FIRAS التي أجريت بواسطة القمر الصناعي COBE التابع لناسا.
بيّنت هذه التجربة أن طيف طاقة إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ الذي تتنبأ به نظرية الانفجار العظيم مطابقٌ للطيف الذي تم رصده، وقد تم في تجربة FIRAS قياس الطيف في 34 نقطة فضائية منفصلة على طول منحني الجسم الأسود (blackbody curve)، وقد كان الخطأ الموجود في البيانات صغيراً إلى درجة أنه لم يُشاهَد في المنحني الذي تم التنبؤ به والموجود في الشكل، ولم يكن هناك أي نظرية بديلة تتنبأ بوجود هذا الطيف، وشكَّل القياس الدقيق لشكل الطيف اختباراً مهماً آخر لنظرية الانفجار العظيم.
سطح التشتت الأخير
في نهاية المطاف بَرد الكونُ بشكلٍ يسمح بتجمُّع الإلكترونات والبروتونات معاً لتُشكِل الهيدروجين الحيادي، وحدث ذلك بعد 400 ألف سنة من الانفجار العظيم، حين كان حجم الكون يصل إلى 11% من حجمه الحالي. في تلك المرحلة تفاعلت فوتونات إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ بشكلٍ ضعيف جداً مع الهيدروجين الحيادي؛ مما سمح لها بالتحرك على طول خطوطٍ مستقيمة.
كان سلوك فوتونات الـ CMB المتحركة في أرجاء الكون المبكر مشابهاً لانتشار الضوء المرئي داخل الغلاف الجوي للأرض؛ حيث تقوم قطرات الماء الموجودة في السُّحب بتشتيت الضوء بشكلٍ فعال، في حين أن فوتونات الضوء المرئي تتحرك بشكلٍ حر في الهواء الخالي من السُّحب، ولذلك يمكننا في يومٍ ضبابي النظر عبر الهواء نحو السُّحب، لكن لا يُمكننا الرؤية عبر السحب المُعتِمة.
بالمثل يُمكن لعلماء الكون الذين يدرسون إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ أن ينظروا في أعماق الكون وصولاً إلى المرحلة التي كان مُعتِماً فيها، أي إلى المرحلة التي تلت الانفجار العظيم بـ 380 ألف سنة.
يُعرف هذا الجدار الضوئي بسطح التَشتُّت الأخير (surface of last scattering)، وذلك لأنها كانت المرة الأخيرة التي تَشتَّت فيها فوتونات الـ CMB بشكلٍ مباشرة على المادة، وعندما نصنع خرائط لدرجة حرارة الـ CMB، فإننا نرسم خريطة لسطح التَشتُّت الأخير.
وكما هو موضح سابقاً، فإن أهم مميزات إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ هو تجانسه، إذ ليس بمقدور علماء الكون كشف الاهتزازات الموجودة في درجة حرارة الـ CMB إلا باستخدام أدوات علمية فائقة الحساسية مثل COBE وWMAP، وبإمكانهم عبر دراسة تلك الاهتزازات معرفة المزيد عن أصل المجرات والبني الكونية الهائلة للمجرات، ويستطيعون أيضاً قياس البارامترات الأساسية لنظرية الانفجار العظيم.