اللعب في عوالم متعددة – الجزء الأول

هذه المقالة هي جزء من مشروعنا "الخيال العلمي والحقيقة العلمية"، لاستكشاف عالم الأكوان المتوازية الغريب والرائع.

هل ستراهن بثروتك لـ 100 مقابل 1 على شخص غريب؟ على الأغلب لا. ولكن ماذا لو، في مكان ما في كون موازٍ، أتت هذه الرغبة الملحة أولاً؟ هل ستفوق السعادةُ التي تشعر بها في هذا الكون، الألمَ الذي تشعر به في الكون الذي خسرت رهانك فيه؟

إن الأسئلة التي تشغل علماء الفيزياء ليست مختلفة عن هذا السؤال، وذلك لأسباب جديرة بالاحترام تماماً. تشير ميكانيكا الكم إلى أن الواقع غامض، على الأقل عند المقاييس الصغيرة جداً، ويمكن للجسيمات أن تكون في حالة تراكب (Superposition) ، أي أنها تجمع ما بين خصائص عادةً ما نعتبرها متعارضة. على سبيل المثال، بوسعها أن تتواجد في العديد من الأماكن في آن واحد.

كيف ستراهن في كون موازٍ؟
كيف ستراهن في كون موازٍ؟

إن السؤال الكبير هو، لماذا لا نرى التراكب أبداً في الحياة اليومية؟ تقول التفسيرات التقليدية لميكانيكا الكم أنّه عندما نُجري القياسات -على سبيل المثال البحث عن موقع جسيم- فإن التراكُب ينهار بطريقةٍ ما، وتبقى حالة واحدة فقط من حالات التراكب متحققةً في الواقع. ونحن لا ندري أي من الحالات هي تلك، لكن تزوّدنا ميكانيكا الكم بالاحتمالات، وتعرف المنهجية التي تَستخرج تلك الاحتمالات من رياضيات ميكانيكا الكم بـ "قاعدة بورن'' (Born rule). 

يتخذ تفسير العوالم المتعددة (many-worlds) نهجاً مختلفاً، فهو يقترح أنه عند إجراء القياس، فإن العالَم ينقسم إلى فروع منفصلة، وفي كل فرع من الفروع ترى واحدة من النتائج المحتملة.

لكن، ماذا إذن عن قاعدة بورن؟ إذا ما تحقق كل احتمال ممكن، فليس من المنطقي الحديث عن فرصة حدوثه -هذه الفرصة تساوي 1. وإذا ما أُخِذ تفسير العوالم المتعددة على محمل الجد، ستكون قاعدة بورن بحاجة إلى تفسير جديد. فما الذي تعنيه الأرقام التي تسم بها القاعدة النتائج المختلفة، والفروع المختلفة من العالم؟


الاعتناء بنفسك:

إن الاحتمالية مفهوم مراوغ، حتى من وجهة نظر العالم الواحد العادي للواقع. ومع ذلك، فكلنا، حين نفكر في قرار ما، نستخدم تصور ما منها. إنْ كان هذا التصور غامضاً على الأرجح، سواءً تعلَّق الأمر بشراء منزل أو بالبت في الذهاب إلى موعد، فإننا نجري نوعاً من التقييم لمدى احتمال سير الأمور بشكل جيد. وبالجمع بين هذا والتقدير لمدى اهتمامنا بمسار الأمور؛ نتخذ القرار. إن ما نبحث عنه ونحن نحاول اتخاذ القرار، هو في أغلب الأحيان، رفاه ذواتنا المستقبلية.

وسيبقى هذا سارياً إذا كنت تعيش في عالم من العوالم المتعددة. "إذا اعتقدت أنني أعيش في واقع متفرع، وعرفتَ أنه ستكون هناك نسخ متعددة منّي بعد التفرع، فستكون أسباب عنايتي بتلك النسخ المختلفة مني، هي نفس الأسباب التي تفرض عليّ العناية بالنسخة الوحيدة مني، إن لم يكن هناك أي تفرع"، كما يقول ديفيد والاس David Wallace، وهو مختص في فلسفة الفيزياء بجامعة أكسفورد. ويتابع: "لذلك يمكنني أن أسأل: ما الذي أفضله من بين الإجراءات المختلفة التي يمكنني الاختيار بينها؟"، تكمن هذه الفكرة الآسرة في صميم محاولة فهم قاعدة بورن ضمن سياق العوالم المتعددة، والتي ابتكرها عالم الفيزياء ديفيد دويتش David Deutsch في تسعينيات القرن العشرين.

كيف تراهن بحكمة في عالم واحد؟ 


إنه لمن المعقول أن نصيغ كل هذا في لغة المراهنة. لنفترض أنك كنت على وشك إجراء قياس لنظام كمومي. على سبيل المثال، للإلكترونات خاصية كهرومغناطيسية تدعى "السبين" (spin)، وعند قياس هذه الخاصية فقد ينتهي بها الأمر إلى أن تشير إلى الأعلى أو الأسفل. الآن، سيراهنك شخص: إذا أشارت إلى الأعلى، ستفوز بـ 10 جنيهات استرلينية، أما إذا أشارت إلى الأسفل، فستخسر 10 جنيهات استرلينية.

 

وجه، ظهر، أو كلاهما؟
وجه، ظهر، أو كلاهما؟

هناك طريقة عقلانية لمقاربة هذه المشكلة من وجهة النظر العادية للعالم الواحد، حيث ليست هناك تفرعات وستحصل فقط على تدويم إلى الأعلى spin-up أو إلى الأسفل spin-down، وليس كليهما معاً. أولاً، يجب عليك أن تقدر مدى تفضيلك أو عدم تفضيلك لكل نتيجة ممكنة من نتائج الرهان -أي، في اللغة الفنية، أن تربط كل نتيجة بمنفعة ما.

يمكنك، ببساطة، أن تقدر كل نتيجة من حيث قيمتها النقدية، وهذا يعني+10 لـ spin-up و-10 لـspin-down. ولكنك، قد تكره خسارة 10 جنيهات إسترلينية أكثر من استمتاعك بربحها. في هذه الحالة، يمكنك أن تقدر قيمة spin-up فقط بمقدار ربما 5 و spin-down بقيمة -10. عليك أن تقدر أيضاً قيمة عدم قبول الرهان. اكتب (u(up و (u(down للإشارة إلى المنافع التي ربطتها بالسبين للأعلى وللأسفل، وأكتب (u(no bet للإشارة إلى المنافع التي ربطتها بعدم قبول الرهان.

الآن، افترض أنك تعتقد أن احتمال spin-up هوP. وعليه، فإن احتمال spin-down هو P-1، والمنفعة المتوقعة من عدم قبول الرهان هي:
 

\(E_p=p \times u(up) +(1-p) \times u(down)\)

 

تقيس هذه الكمية متوسطَ مقدار المنفعة أو الرضا، الذين تتوقع الحصول عليهما إذا كررت الرهان مرات عديدة. أما المنفعة المتوقعة من عدم قبول الرهان فهي، ببساطة، (u(no bet.

هناك نتيجة رياضية تقول بأن الشخص العقلاني -الملتزم بمبادئ عقلانية معينة- يجب أن يستهدف تعظيم منفعته المتوقعة. أي، إذا كانت منفعتك المتوقعة من قبول الرهان أكبر من تلك المتوقعة من عدم قبوله \(p \times u(up) +(1-p) \times u(down)> u (no bet) \)، فعليك أن تقبل به، وإلا فلا تفعل.

كيف تراهن بحكمة في عوالم متعددة:


لنعد الآن إلى حالة العوالم المتعددة. أنت تعرف أن العالم سينقسم إلى فرعين في لحظة قياسك لسبين الإلكترونات. وسوف ترصد في أحد الفرعين spin-up بينما سترصد في الآخرspin-down. لذلك، إن قبلت الرهان، ستربح 10 جنيهات إسترلينية في فرع، وستخسر 10 جنيهات إسترلينية في الآخر.

كيف تتصرف الآن؟ قد تحسب متوسط مقدار ربحك من الرهان في كلا الفرعين.

 

\(E_{\frac 12}={\frac 12} u(up) +{\frac 12} u(down)\)

 

ثم قارن ذلك بالمنفعة من عدم قبول الرهان. إن هذه هي الحسابات عينها التي سيجريها شخص في كون غير متفرع، حيث الاحتمالات لكل من spin-up وspin-down هي 2/1.

لكنك ربما شعرت بالأسى على نفسك التي في الفرع الخاسر. في هذه الحالة، قد تتخذ قرارك بناءً على الكمية.



\(E_{\frac 14}={\frac 14} u(up) +{\frac 34} u(down) \)

 

حيث spin-down أكثر أهمية من spin-up، وستتصرف مثل شخص في كون غير متفرع، حيث احتمالية spin-up هي 1/4 واحتمالية spin-down هي 3/4.

إن السؤال عن الوزن الذي يجب أن يعطى لكل نتيجة، سواءً كان بمقدار 2/1 لكليهما أو 4/1 لأحدهما و4/3 للآخر، قد يكون سؤلاً دقيقاً للغاية طبعاً -إلى أن تدرك أن ميكانيكا الكم تحمل بين طياتها تلميحاً داخلياً بشأن الأوزان. فقاعدة بورن تضع رقما لكل نتيجة، لنقلP لِـ spin-up وP -1 لِـ spin-down. هذا ما فسرته وجهة النظر التقليدية بالاحتمالية. إذن، لماذا لا تُستخدم هذه الأرقام للأوزان؟ حينها، وكشخص في كون غير متفرع، ستتخذ قرارك بناء على الكمية.



\(E_p=p \times u(up) +(1-p) \times u(down) \)
 

وسوف تقبل الرهان إذا كانت (\(E_p\)) أكبر من المنفعة المتوقعة من عدم قبوله.

 

سُمّيت قاعدة بورن نسبة لعالم الفيزياء ماكس بورن Max Born (1882 – 1970
سُمّيت قاعدة بورن نسبة لعالم الفيزياء ماكس بورن Max Born (1882 – 1970

من خلال نتيجة مثيرة للاهتمام، وبناءً على عمل دويتش، بيّن والاس أنه في الواقع، هذه هي الطريقة العقلانية الوحيدة للمضي قدماً. "[إذا كنت تعرف أنك تعيش في كون متفرع] وتعتقد أن القوانين الضمنية الأساسية للفيزياء هي [تلك التي قدمتها] ميكانيكا الكم -كما يوضح والاس -فإنه ليس من المطلوب عقلياً أن تراهن بناء على بعض الاحتمالات فقط، بل إنه من المطلوب عقلياً أن تراهن وكأن الاحتمالات هي [الأرقام التي أعطتها قاعدة بورن]"، وأي شيء آخر سوف ينتهك واحداً من المبادئ المتعددة للعقلانية -سنلقي نظرةً فاحصةً على البعض من هذه المبادئ المثيرة للجدل حقاً، في المقالة القادمة.

لا تنطبق هذه النتيجةُ على مثال اللعبة البسيط عن قياس السبين فقط، بل تنطبق أيضاً على أوضاع أكثر عمومية. لنفترض أن الكون على وشك الانقسام إلى عدد من الفروع، ستعطي قاعدة بورن كل فرع منها رقماً. ثم إذا واجهت رقماً لفعل محتمل -أن تراهن أو لا تراهن- فإنك مجبر عقلياً على اختيار الرقم الذي سيعظم من منفعتك المتوقعة، والتي ستحسب باستخدام الأرقام التي تقدمها قاعدة بورن.

لكن، كيف يمثل هذا "تفسيراً" لقاعدة بورن في سياق العوالم المتعددة؟ هذا ما سنبحث فيه في المقالة القادمة.


عن هذه المقالة


ماريان فرايبيرغر Marianne Freiberger هي محررة Plus، وقد قابلت ديفيد والاس في كانون الأول/ ديسمبر 2012.
والاس هو المحرر المشارك في كتاب “Many Worlds?: Everett, Quantum Theory & Reality

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات