الفيزياء (على وجه التحديد فيزياء الكم) عالم مليء بالعجائب والغرائب، فالاختفاء من مكان ما والظهور في آخر، والتواجد في مكانين مختلفين في الحين ذاته، والتواصل وإرسال المعلومات بسرعة تبدو أسرع من سرعة الضوء، كلها حقائق من بلاد العجائب، ألا وهي بلاد فيزياء الكم.
لكن، هل لمثل هذه العجائب تأثير بشكل ما على ما نراه من حولنا في الحياة، كالورود، أو هجرة الطيور، أو رائحة البيض المتعفن؟ إذا كنت مهتماً بمثل هذه الأسئلة، فمرحباً بك في مجال علم الأحياء الكمومي.
علم الأحياءالكمومي هوعلم حديث في بداية تكوّنه.ومع ذلك، فإن ما يتعلمه العلماء من هذا العلم كفيل بإشعال ثورة في مجالات عدة كالأدوية، والحواسيب ،والعطور، كما أنه قد يساهم بشكل كبير في معركة البشرية التاريخية ضد مرض السرطان.
حتى مؤخراً وعبر تجارب مُحكمة فقط، تم الوصول إلىحالات المادة التي توقّعتها ميكانيكا الكم مثل عزل الجسيمات عند درجات حرارة منخفضة جداً أو تحت ضغط يكاد يُعادل ضغط الفضاء الخارجي السحيق.
لذا فإن فكرة دراسة علم الأحياء عبر تجارب مشابهة قد تبدو نوعاً من الهذيان والهرطقة لأي فيزيائي عادي، لأنه يراه كعالَم فوضوي ودافئ ورطب مقارنة بالأوضاع التي تُجرى فيها التجارب الفيزيائية المُشار إليها (حيث أن البيئة مُتَحَكّمٌ بها بشكل كبير وهي تحت السيطرة).
لكن أفاد الدكتور لوكا تورين Luca Turin، من معهد فِليمنغ باليونان،أن هناك بعض الأدلة التى تجعل من فكرة دراسة الأحياء عبر عيون فيزياء الكم فكرةً جديرة بالاهتمام، حيث قال لهيئة الإذاعة البريطانية BBC:"هناك ثلاثة مجالات (في علم الأحياء) اتّضحت صبغتها الكمومية بشكل جلي.بَدّدت تلك المواضيع الثلاث بشكل قاطع الفكرةَ القائلة التي تقول ولأن لا علاقة بين ميكانيكا الكم وعلم الأحياء".
الموضوع الأكثر بروزاً من بين هذه المواضيع هو "عملية التركيب الضوئي" (Photosynthesis)، وهي عملية حيوية عالية الكفاءة، تَبني بواسطتها النباتاتُ وبعض أنواع البكتريا كل الجزيئات (Molecules) التي تحتاج إليها باستخدام الطاقة الشمسية. المبدأ الفيزيائي الكمومي الأقرب للتعبير عن هذه العملية الحيوية هو مبدأ التراكب (Superposition). ولتبسيط هذا المبدأ، فهو يتيح تواجد الجسيم دون الذري في عدة أماكن في ذات الوقت.
كشفت المراقبة الدقيقة لعملية التركيب الضوئي، عن حزمٍ من الطاقة تبدو كأنها تسعى للعبور باستخدام كل الطرق الممكنة لتصل إلى هدفها المنشود، ومن ثَمتختار الطريق الأكثر فعالية. قال ريتشارد كوغدل (Richard Cogdell) من جامعة غلاسكو في إفادة لـ BBC: "يبدو أن علم الأحياء قادر على العمل وفق مبدأ التراكب الكمومي في وسط بيئي دافئ ورطب.لكن كيف يتحقق ذلك؟ لا نعرفه حتى الآن".
ولمزيد من الدهشة، فإن الأمر لا يتوقف عند النباتات فقط. فهناك أيضاً إشارات جديرة بالاعتبار في مملكة الحيوانات، منها عملية التوجيه الملاحي (Navigation) عند الطيور في هجرتها عبر الدول والقارات، والتي تصل أحياناً لدرجة الهجرة بين القطبين (الشمالي والجنوبي)، وهي عملية سلوكية جديرة بالانتباه.
في هذا الشأن، أوضحت التجارب أن طيور الحناء الأوربية (European robins) توجّه هجراتها عبر الاستدلال ببعض ألوان الضوء. لكنّ هذه الألوان عبارة عن موجات راديوية ضعيفة، وهو الأمر الذي يفترض أن يؤدي إلى ضياع وجهة هذه الطيور، وكذلك أنيؤثر سلباً على البوصلة القياسية التي ظن العلماء بوجودها في خلايا الطيور سابقاً. التفسير الأكثر معقوليّة لهذه الظاهرة هو مبدأ التشابك الكمومي الفيزيائي. وفقاً لهذا المبدأ، فإنه يمكن لجسيمين دون ذريين التشابك معاً بشكل فوري، بغض النظر عن بُعد المسافة بينهما، كأن كل واحد منهما يعرف ما الذي ينويه الآخر. يبدو أيضاً أن التشابك الكمومي يتيح التواصل المعلوماتي بين الجسيمين بسرعة تفوق سرعة الضوء.
في ذات السياق، تشير بعض التجارب إلى أن هذا التشابك الكمومي قد يحصل على مستوى جزيئي في عين الطائر، وهو ما شرحه جون مورتون John Morton من كلية لندن الجامعية قائلاً أنّ الطريقة التي تحس بها الطيور قد تكون غريبة. ويضيف مورتون: "يمكن النظر إلى هذا الموضوع على أنه شاشة عرض (heads-up display) كتلك المتاحة للطيارين في حجرة القيادة. يعرض الجزء العلوي منها المجال المغناطيسي.''إن الفكرة تبدو غريبة-مثل الفكرة أن أنفك يقوم بعملية حيوية كمومية.
الموضوع الثالث في الأحياء الكمومية يتعلق بحاسة الشم، حيث يعتقد معظم الباحثون أن حاسة الشم في حقيقة الأمر متعلقة بتطابق أشكال جزيئات الروائح مع مستقبلات حاسة الشم في الأنف. لكنيعتقد الدكتور تورين أن تذبذب واهتزاز جزيئات الروائح هو ما يؤدي لعملية الشم، بطريقة مشابهة للمبدأ الفيزيائي الكمومي "نفق ميكانيكا الكم" (Quantum tunnelling). حسب هذا المبدأ،فإن الإلكترونات في مستقبلات حاسة الشم في الأنف تختفي من إحدى جهات الجزيء الباعث للرائحة، وتظهر في جزيء آخر لتترك خلفها كميةً ضئيلةً من الطاقة. لقد بَيّنت ورقةٌ نُشرت في 28 كانون الثاني/يناير2013 في مجلة بلوس وان Plos One، أنه بإمكان الإنسان الإحساس بالفرق بين جزيء وآخر لهما نفس الشكل لرائحة ما لكنهما يهتزّان بشكل مختلف، وهذا يؤكد أن حاسة الشم لا تعتمد على شكل جزيء الرائحة كمصدر وحيد للشم.
إن هذه المواضيع الثلاثة التي تقارب بين عمليات حيوية ومبادئ فيزيائية كمومية، جعلت الباحثين يعتقدون بوجود المزيد من الخدع الكمومية في الطبيعة، مما دعى الدكتور تورين للتساؤل:"هل يمكن أن تكون هذه المواضيع الثلاثة عبارة عن قمة جبل جليديّ ضخم معظمه مختفٍ تحت سطح الماء؟"، ويجيب: "لن نعرف الإجابة على هذا السؤال قبل المزيد من البحث في هذا الأمر".
في غاية الأهمية:
إن سؤال الدكتور تورين هذا أثارالانتباه على مستوى العالم. ففي سنة 2012، أطلقت مؤسسة العلوم الأوروبية برنامجاً تحت اسم "برنامج فاركويست" Farquest program، بغرض وضع خريطة لكل بحوث الكم الأوروبية ذات صلة بعلم الأحياء الكمومية. ومنذ سنة 2010، قامت وكالة البحث بوزارة الدفاع الأمريكية Defense Advanced Research Projects Agency أو اختصاراً دارْبا DARPA، بتشغيل شبكة قومية أمريكية خاصة بعلم الأحياء الكمومية Nationwide quantum biology network. وإضافة إلى ذلك،ظهرت إدارات مختصة بهذا الأمر في دول أخرى كألمانيا والهند.
يمكن أن يؤدي المزيد من البحث (وما سيصاحبه من نجاحات وإخفاقات) حول حاسة الشم إلى الإسهام في مجالات مختلفة، كتطوير الجيل القادم من الحواسيب الكمومية، أو تطوير تجارة العطور وتوجيه طريقة صنعها. وقد أفاد سايمون غين Simon Gane، وهو باحث في المستشفى الملكي القومي للحلق والأنف والأذن، ومؤلف رئيسي لورقة ذات صلة نُشرت بمجلة بلوس وان Plos One، أن المستقبلات الصغيرة جداً في الأنف تسمىمستقبلات البروتين-ج المقترنة G-protein coupled receptors، ويقول:"هي عبارة عن عائلة فرعية لعموم المستقبلات التي توجد في جسم الإنسان. هذه المستقبلات هي ما يتم استهدافه بواسطة الأدوية، فما الذي سيحصل إذا كان هناك شكل -نحن غافلون عنه- للتفاعل الكمومي بين هذه المستقبلات والأدوية؟ لهذا الاحتمال آثار كبيرة على تطوير الأدوية وتصميمها واكتشافها".
علاوة على ذلك، يبحث جيم الخليلي Jim Al-Khalili من جامعة سَري University of Surrey في مدى إمكانية حصول عملية نفق كمومي عند حصول التحولات الجينية في الحمض النووي الريبوزي منقوص الأكسيجين (DNA)، وهو بحث قد يقود إلى إسهامات كبيرة في سعينا المتواصل لفهم تطور الحياة، أو في بحوث السرطان. وفي مقابلة مع "BBC"، أفاد الخليلي أن مبدأ النفق الكمومي يعُتبر غريباً، لكنه قد يساعد في الإجابة على بعض الأسئلة العلمية المهمة جداً.