ما هو النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات؟

يفسر النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات كيف تتفاعل اللبنات الأولية للمادة وكيف تُحكم بواسطة القوى الأربع الأساسية.

أدت نظريات آلاف من علماء الفيزياء واكتشافاتهم ,، منذ ثلاثينيات القرن العشرين، إلى استبصار استثنائي عن البنية الأساسية للمادة: فقد تبين أن كل شيء في الكون مصنوع من عدد قليل من اللبنات الأساسية تسمى الجسيمات الأساسية (fundamental particles)، التي تحكمها أربع قوى أساسية. وينطوي النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات (Standard Model of particle physics) على أفضل ما توصلنا إليه من فهم لكيفية ارتباط هذه الجسيمات والقوى الثلاثة بعضها ببعض. وُضِعَ هذا النموذج في مطلع السبعينيات من القرن العشرين، وقد نجح في تفسير كل النتائج التجريبية تقريباً، كما تنبأ بدقة بمجموعة واسعة التنوع من الظواهر. ومع مرور الوقت ومن خلال كثير من التجارب، أُقرَ النموذج القياسي كنظرية فيزيائية أُختُبِرَت جيداً.

جسيمات المادة


كل المواد المحيطة بنا مصنوعةٌ من جسيمات أولية، هي اللبنات الأساسية للمادة. تقع هذه الجسيمات في نوعين أساسيين يسميان الكواركات (quarks) واللبتونات (leptons). تتكون كل من المجموعتين من ستة جسيمات ترتبط في أزواج، أو "أجيال" (generations). تُشكل الجسيمات الأخف وزناً والأكثر استقراراً الجيل الأول، في حين تنتمي الجسيمات الأثقل وزناً والأقل استقراراً إلى الجيلين الثاني والثالث. كل المواد المستقرة في الكون مصنوعة من الجسيمات التي تنتمي إلى الجيل الأول. وأي جسيمات أثقل تضمحل بسرعة إلى المستوى التالي الأكثر استقراراً. وترتبط الكواركات الستة في ثلاثة أجيال -يتألف الجيل الأول من "الكوارك العلوي" (up quark) و"الكوارك السفلي" (down quark)، ويليها "كوارك السحر" (charm quark) و "الكوارك الغريب" (strange quark)، ثم "الكوارك القُمي" (top quark) و"الكوارك القَعري (أو كوارك الجمال)" bottom (or) (beauty) quark. وتأتي الكواركات أيضاً في ثلاثة "ألوان" مختلفة، وتمتزج فقط على نحوٍ يؤدي إلى تشكيل أجسام عديمة اللون. وبالمثل، تترتب اللبتونات الستة في ثلاثة أجيال -"الإلكترون" و"نيوترينو الإلكترون" (electron neutrino) و"الميون" و"نيوترينو الميون" (muon neutrino)، و"التاو" و"نيوترينو التاو" (tau neutrino). ولكل من الإلكترون والميون والتاو شحنة كهربائية وكتلة كبيرة، في حين أن النيوترونات محايدة كهربائياً وذات كتلة ضئيلة.

القوى والجسيمات الحاملة للقوة


هناك أربع قوى أساسية فاعلة في الكون: القوة القوية والقوة الضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية وقوة الجاذبية. وهي تعمل على نطاقات مختلفة وبشدة قوة مختلفة. قوة الجاذبية هي الأضعف بينها، لكنها لانهائية النطاق. والقوة الكهرومغناطيسية لانهائية النطاق أيضاً، لكنها تفوق قوة الجاذبية كثيراً. أما القوى الضعيفة والقوية فليست فعالة إلا على نطاق قصير جداً وتمتد سيطرتها فقط إلى مستوى الجسيمات دون الذرية. وبصرف النظر عن اسمها، فإن القوة الضعيفة أقوى بكثير من الجاذبية، ولكنها حقاً أضعف من القوى الثلاثة الأخرى. أما القوة قوية، كما يوحي اسمها، فهي أقوى التفاعلات الأساسية الأربعة كلها.

تَنتُج ثلاث من هذه القوى الأساسية عن تبادلات الجسيمات حاملة القوى (force-carrier particles)، والتي تنتمي إلى مجموعة أوسع تسمى الـ "بوزونات" (bosons). تقوم جزيئات المادة بنقل كميات منفصلة من الطاقة من خلال تبادل البوزونات فيما بينها. ولكل قوة أساسية بوزون نظير خاص -تُحمل القوة القوية بواسطة الـ "غلوون" (gluon)، وتُحمل القوة الكهرومغناطيسية بواسطة "الفوتون" (photon)، و"بوزونات W وZ" هي المسؤولة عن القوة الضعيفة. وعلى الرغم من عدم العثور عليه حتى الآن، فيجب أن يكون الـ "غرافتون" (graviton) هو الجسيم النظير الحامل لقوة الجاذبية. ويتضمن النموذج القياسي القوى الكهرومغناطيسية والقوية والضعيفة وكل الجسيمات الحاملة لها، ويفسر جيداً كيفية عمل هذه القوى على كل جسيمات المادة. إلا أن القوة الأكثر أُلفة في حياتنا اليومية، وهي الجاذبية، ليست جزءاً من النموذج القياسي، حيث تبين أن ملائمة الجاذبية بشكل مريح ضمن هذا الإطار تُمثلُ تحدياً صعباً. إذ إنه من الصعوبة بمكان دمج كل من نظرية الكم، التي تُستخدم لوصف العالم على المستوى المجهري (micro)، ونظرية النسبية العامة، التي تُستخدم لوصف العالم على المستوى الكلي (macro)، في إطار مرجعي واحد. ولم يتمكن أحد من تحقيق التوافق الرياضي بين النظريتين في سياق النموذج القياسي. لكن، ولحسن حظ فيزياء الجسيمات، عندما يتعلق الأمر بالمقياس الدقيق للجسيمات، فإن تأثير الجاذبية يصبح على درجة من الضعف بحيث يمكن إهماله. ولا يهيمن تأثير الجاذبية إلا فقط عندما تكون المادة كبيرة الكتلة، بحجم جسم الإنسان أو الكواكب على سبيل المثال. وبالتالي، فإن النموذج القياسي لا يزال فعالاً بشكل جيد، على الرغم من الاستبعاد غير المرغوب فيه لواحدة من القوى الأساسية.

الأمور طيبة حتى الآن، ولكن ...


لم يحن الوقت بعد لكي يعلن علماء الفيزياء أنهم أنجزوا عملهم لهذا اليوم. إذ على الرغم من أن النموذج القياسي هو حالياً أفضل ما هنالك من وصف للعالم دون الذري، فإنه لا يفسر الصورة الكاملة. فالنظرية تدمج ثلاثاً فقط من القوى الأساسية الأربعة، مُسقطةً الجاذبية. كما أن هناك أيضاً أسئلة مهمة لا تُجيب عنها، من أمثال "ما هي المادة المظلمة؟"، أو "ما الذي حدث للمادة المضادة بعد الانفجار الكبير؟"، و"لماذا هناك ثلاثة أجيال من الكواركات واللبتونات بهذه الكتل مختلفة المقاييس؟"، وغير ذلك كثير. وأخيراً وليس آخراً، هناك جسيم يسمى "بوزون هيغز" (Higgs boson)، وهو عنصر جوهري من عناصر النموذج القياسي.

في 4 يوليو/تموز 2012، أعلنت تجربتا "أطلس" (ATLAS) و"ملف الميونات" (CMS) في مصادم الهادرون الكبير (LHC)، في سيرن (CERN)، أن كلاً منهما رصد جسيماً جديداً في نطاق كتلة مقارب لـ 126 جيف. ويتسق هذا الجسيم مع بوزون هيغز، ولكن الأمر سيستغرق مزيداً من العمل لتحديد ما إذا كان هو بالفعل بوزون هيغز الذي تنبأ به النموذج القياسي أو لا. يُعد بوزون هيغز، كما هو مقترح ضمن النموذج القياسي، أبسط مظاهر آلية "بروت-إنغلرت-هيغز" [1](Brout-Englert-Higgs mechanism). وقد تنبأت نظريات أخرى، تتجاوز النموذج القياسي، بأنواع أخرى من بوزونات هيغز. 

في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2013، مُنحت جائزة نوبل بالفيزياء لفرنسوا إنغليرت وبيتر هيغز معاً عن "الاكتشاف النظري للآلية التي تسهم في فهمنا لأصل كتلة الجسيمات دون الذرية، والتي ثبتت مؤخراً من خلال اكتشاف الجسيمات الأساسية المتوقعة من قبل تجربتي "أطلس" و"ملف الميونات" في مصادم الهادرون الكبير في سيرن".

إذن، وعلى الرغم من أن النموذج القياسي يصف بدقة الظواهر الداخلة ضمن نطاقه، إلا أنه لا يزال غير مكتمل. وربما كان فقط جزءاً من صورة أكبر تتضمن فيزياء جديدة مخبأة في عمق العالم دون الذري أو في خبايا الكون المظلمة. وستساعدنا المعلومات الجديدة من تجارب مصادم الهادرون الكبير في العثور على مزيد من القطع المفقودة.

ملاحظات:


[1] آلية "بروت-إنغلرت-هيغز": آلية تفسر أصل كتلة الجسيمات دون الذرية بموجب عمل بوزون هيغز كحامل للكتلة، إذ أنها تفترض وجود حقل (أصبح يعرف فيما بعد بـ "حقل هيغز"(Higgs Field)) من المفترض أن يسيطر فيه نوع خاص من الجسيمات الأولية هي بوزونات هيغز، وأن تفاعل بوزونات هيغز مع حقل هيغز، هو ما يعطي الجسيمات كتلاً مختلفة، بحسب سرعة الجسيمات ضمن الحقل. وكان البريطاني بيتر هيغز أول من أشار نظرياً، في العام 1964، إلى وجود هذا البوزون، أما البلجيكيين فرنسوا إنغلرت وروبير بروت، فقد كانا أول من أطلق البحوث العلمية في هذا المجال. 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الالكترون (Electron): جسيم مشحون سلبياً، ويُوجد بشكلٍ عام ضمن الطبقات الخارجية للذرات. تبلغ كتلة الالكترون نسبة تصل إلى حوالي 0.0005 من كتلة البروتون.
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

اترك تعليقاً () تعليقات