قامت مجموعة من العلماء بوضع خرائط ثلاثية الأبعاد لشريحة من الكون اليافع، معتمدين على الضوء شديد الخفوت القادم من مجرات تبعد عنا بحوالي 10.8 مليار سنة ضوئية، و توضح الخريطة شبكة من غاز الهيدروجين تتغير درجة كثافته من المنخفضة إلى المرتفعة في الوقت الذي كان فيه الكون مُشَكّل من جزء من المادة المظلمة التي نراها اليوم.
ستُنشر هذه الدراسة التي قادها غي-غان لي (Khee-Gan Lee) من معهد ماكس بلانك لعلم الفلك، بالتعاون مع باحثين من مختبر بيركلي في جامعة كاليفورنيا، في العدد القادم من مجلة Astrophysical Journal Letters.
يعتقد ديفيد شليغل (David Schlegel) من مختبر بيركلي أن هذا العمل يبرهن صحة تقنية جديدة من أجل وضع خرائط كونية عالية الدقة، بالإضافة إلى تقديمه خريطة جديدة لجزء من الكون خلال المراحل المبكرة من تاريخه، و كذلك وفقاً لشليغل، فإن هذه التقنية التي تَستخدم المجرات البعيدة بُغْية الحصول على إضاءة خلفية لغاز الهيدروجين واعدة جداً من أجل المستقبل، إذ يُمكن لمثل هذا المشروع أن يقود إلى اقتراح محلل طيفي للطاقة المظلمة (DESI) و يمتلك هذا المحلل الذي يُديره مختبر بيركلي هدفاً اساسياً يتمثل في إنتاج الخرائط الأكثر اكتمالاً لكوننا حتى الآن.
يقول شليغل: "صُمم DESI دون وجود احتمالية لاستخراج مثل تلك المعلومات القادمة من المجرات الخافتة و البعيدة جداً، نعرف الآن أن هذا الأمر ممكن و يعدنا DESI بأنه سيكون أقوى بكثير".
أُنشِأت أول خريطة ثلاثية الأبعاد للكون بالاعتماد على بيانات قادمة من المسح الرقمي للسماء سْلُووَان Sloan أو اختصاراً (SDSS) الذي بدأ في العام 1998، و مع مرور السنين قدم المسح بيانات كافية من أجل الحصول على خريطة دقيقة للكون المجاور و الموجود ضمن محيط يبلغ مداه تقريبا 1 مليار سنة ضوئية. وسّعت التحديثات الجديدة الخاصة بالتلسكوبات من قدرتنا على وضع خريطة للكون يصل مداها إلى حوالي 6 مليار سنة ضوئية و لكن و وفقاً لشليغل، هي خريطة أولية جداً تتضمن بيانات غير مكتملة في بعض المناطق. سينتج الجيل القادم من الخرائط عن مشروع DESI الذي من المقرر البدء بتشغيله في العام 2018 بانتظار التمويل، و سيسمح DESI للعلماء بتصوّر حجم أكبر بحوالي 10 أضعاف من ذلك الموجود في SDSS و سيوسع من المدى المرئي ليصل إلى حوالي 10 مليار سنة ضوئية.
ووفقاً لشليغل فإن الخريطة ستصبح متشتتة عند أبعاد تفوق 10 مليار سنة ضوئية، و يكمن السبب في أن الفلكيين يخططون لاستخدام تقنية مألوفة، و تعتمد هذه الأخيرة على الضوء اللامع للكوازارات (quasars) التي تتواجد لسوء الحظ بشكلٍ متبعثر و نادِر، تَستخدم تلك التقنية ظاهرةً تُعرف بامتصاص غابة ألفا-ليمان (Lyman-Alpha Forest Absorption) الذي يعتمد على حقيقة تواجد سحب هيدروجينية واسعة بين الأرض و الكوازارات البعيدة و المجرات.
يعتمد قياسها عند مسافة معينة على انزياح الضوء نحو الأحمر، يُمكن للفلكيين أن يحددوا كثافة الهيدروجين بالاعتماد على امتصاص ضوء الكوازار، لكن تكمن المشكلة في أن هذا القياس يُقدّم فقط معلومات حول وجود الهيدروجين على طول خط النظر و ليس عند حجمٍ أكبر من الفضاء.
يشرح شليغل: "إنها خريطة غريبة جداً لأنها ليست ثلاثية الأبعاد في الواقع، فهي تشابه أسهم، نملك صورة لما تحتويه على طول الخط فقط و ليس ما بين الكوازارات".
يعتقد الباحثون بأن تقنيتهم الجديدة التي تَستخدم الضوء الخافت و القادم من عدد كبير من المجرات البعيدة بدلاً من الكوزارات المتبعثرة يُمكنها أن تملأ الفجوات الموجودة بين تلك الأسهم.
وحسب شليغل فقبل هذه الدراسة، لم يعرف أحد أنه بإمكان المجرات التي تبعد عنا بأكثر من 10 مليار سنة ضوئية، تقديم ضوء كافي و مفيد، و لكن سابِقا هذا العام، جمع الفريق أربع ساعات من البيانات القادمة من تلسكوب كيك-1 و التي أُخذت عند حصول فَجْوَة قصيرة الأمد في السماوات الغائمة. يقول شليغل: "تَبين أنه لدينا وقت كافي من أجل إثبات إمكانية قيامنا بذلك".
طبعاً كان الضوء القادم من المجرات خافت جداً، و من أجل استخدامها في الخريطة، احتاج الباحثون إلى تطوير خوارزميات من أجل حذف الضوء القادم من السماء و الذي يُحجب الإشارات المجرّية. طوّر شليغل خوارزميةً من أجل القيام بذلك الأمر، في حين قام كل من كيسي ستارك (Casey Stark) و مارتن وايت (Martin White) من جامعة كاليفورنيا في بيركلي بتعديل الخوارزمية الموجودة، المعروفة بمرشح وينر (Wiener Filter) من أجل خلق خريطة ثلاثية الأبعاد في دقيقة واحدة على حاسب محمول عادي.
يُخطط الباحثون من أجل الاستخدام المستقبلي لتلسكوب كيك-1 لأن مشروعهم كان عبارة عن إثباتٍ للمفهوم، و سيساعد الاستخدام التالي لكيك في توسيع حجم الفضاء الذي يضعون خريطةً له. يقول غي-غان لي: "هذه التقنية فعالة جداً و لن تتطلب الكثير من الوقت من أجل استخلاص بيانات كافية لتشمل أحجام تصل إلى مئات ملايين السنين الضوئية من كل جانب".
دُعم البحث بواسطة مكتب العلوم في وزارة الطاقة الأمريكية و استخدم منشآت المركز الوطني للحساب العلمي لأبحاث الطاقة (NERSC) الموجود في مختبر بيركلي.