بروكسيما بي...مستقبل بدون غلاف جوي

"بروكسيما بي" هو كوكب بحجم الأرض يقع خارج مجموعتنا الشمسية في المنطقة الصالحة للحياة من مدارات نجمه، قد لا يتمكن هذا الكوكب من إحكام قبضته على غلافه الجوي، الأمر الذي سيترك سطحه مُعرّضَاَ للإشعاع النجمي الضارّ، كما سيجعل أهليّة سكنه قليلة.


ويُعدُّ كوكب "بروكسيما بي" proxima b أقرب جيراننا من الكواكب المعروفة الواقعة خارج المجموعة الشمسية، فهو يبعد عنا نحو أربع سنين ضوئية، إلا أنه ونظراً لحقيقة عدم مشاهدته عابراً أمام نجمه المُضِيف، يُفوِّت هذا الكوكب الخارجي فرص معرفة المزيد عن غلافه الجوي بالنسبة لطرق الدراسة المُعتادَة، وعوضاً عن ذلك يعتمد العلماء على نماذج لمعرفة ما إذا كان هذا الكوكب الخارجي قابلاً للسكن.


ستأخذ أحد هذه النماذج الحاسوبية بعين الاعتبار ما سيحدث لو كانت الأرض تدور حول بروكسيما سانتوري (Proxima Centauri) القنطور الأقرب وهو أقرب جارٍ نجميٍّ لنا والنجم المضيف لــ "بروكسيما بي"، وذلك في المدار نفسه الذي يدور فيه "بروكسيما بي".


تنصُّ الدراسة التي قامت بها ناسا والتي نُشرت في 24 تموز/يوليو عام 2017 في رسائل مجلة الفيزياء الفلكيّة (The Astrophysical Journal Letters) على أن الغلاف الجوي للأرض لن تُكتب له النجاة على هذه المقربة الشديدة من القزم الأحمر العنيف.


وتقول كاثرين غارسيا -ساغا Katherine Garcia –Saga المُعدَّة الرئيسية للدراسة وعالمة الفضاء في مركز غودارد للطيران الفضائي التابع لناسا في غرينبيلت-ميريلاند: "لقد قررنا أخْذ الكوكب الوحيد الصالح للسّكن والذي نعرفه حتى الآن، ألا وهو الأرض، لنضعه مكان بروكسيما بي".


وتجدر الإشارة إلى الدعم الذي قدمه كل من ائتلاف NExSS التابع لناسا، والذي يقود بحثاً عن الحياة على كواكب خارج نظامنا الشمسي، إضافة إلى معهد علم الأحياء الفلكية التابع لناسا أيضاً.

 

لن يدعم كوكب خارجي كــ "بروكسيما بي" بقاء غلاف جوي في مداره شبيه بغلاف الأرض. حقوق الصورة: NASA’s Goddard Space Flight Center/Mary Pat Hrybyk-Keith.
لن يدعم كوكب خارجي كــ "بروكسيما بي" بقاء غلاف جوي في مداره شبيه بغلاف الأرض. حقوق الصورة: NASA’s Goddard Space Flight Center/Mary Pat Hrybyk-Keith.


إن وجود مدار "بروكسيما بي" في المنطقة الصالحة للسكن habitable zone، وهي المسافة التي تفصله عن نجمه المضيف والتي يمكن عندها أن يتجمّع الماء السائل على سطح الكوكب، لا يعني أبداً أنه صالح للسكن، فعلى سبيل المثال لا يُأخَذُ في الحسبان ما إذا كان الماء حقاً موجوداً على سطح الكوكب، أو هل من المقدرة لغلاف جوي النجاة عند هذا المدار، فالأغلفة الجوية ضرورية للحياة على حدّ علمنا، فوجود الغلاف الجوي الصحيح يسمح بانتظام المناخ، كما يسمح بالحفاظ على ضغط سطحي ملائم للمياه، ويُشكِّل أيضاً درعاً واقياً في وجه الطقس الفضائي الضار، إضافة إلى أنه موطن لَبِناتِ البناء الكيميائية للحياة.


استخدمت غارسيا-ساغا ونماذج زملائها الحاسوبية غلاف الأرض الجوي، وحقلها المغناطيسي وجاذبيتها كمُدخَلات لــ "بروكسيما بي"، كما حسبوا متوسط كمية الإشعاع التي يُنتِجها القنطور الأقرب بناءً على عمليات رصد قام بها مرصد تشاندا العامل بأشعة إكس والتابع لناسا (NASA’s Chandra X-ray Observatory). 


سيحاكي هذا النموذج شدة إشعاع النجم المضيف والاندفاعات المتكررة التي تؤثر على الغلاف الجوي للكوكب الخارجي مع هذه البيانات.

 

ويقول أوفر كوهين Ofer Cohen عالم الفضاء في جامعة ماساتشوستس-لويل والمؤلف المشارك في إعداد الدراسة: "السؤال هو، ما مقدار الغلاف الجوي المفقود؟، وما هي السرعة التي تتم بها هذه العملية؟، سنتمكن من حساب المدة المطلوبة لهروب الغلاف الجوي بالكامل ومقارنة ذلك بعمر الكوكب في حالة تقديرنا هذا الزمن".


سينتزع نجمٌ قزمٌ أحمر ونشطٌ كالقنطور الأقرب غلافاً جوياً حين تقوم الأشعة فوق البنفسجية الحادة عالية الطاقة بتأيين غازات الغلاف الجوي، طاردةً الإلكترونات ومنتجةً رقعة كبيرة من الجسيمات الكهربائية المشحونة في هذه العملية.


ستكتسب الإلكترونات المُتشكِّلة حديثاً الطاقة الكافية التي تمكنها من الهروب بسهولة من جاذبية الكوكب والنفاذ خارج الغلاف الجوي، وستتجاذب الجسيمات المتعاكسة بالشحنة، لذا مع مغادرة المزيد من الإلكترونات ذات الشحنة السالبة للغلاف الجوي، ينتج عنها فاصلٌ مشحونٌ وفعالٌ يَجذُب معه الأيونات ذات الشحنة الموجبة، وذلك نحو الخارج إلى الفضاء.


يواجه "بروكسيما بي" نوبات الأشعة فوق البنفسجية الحادّة في المنطقة الصالحة للسكن حول القنطور الأقرب أكبر بمئات المرات من تلك التي تواجهها الأرض قادمة من الشمس، إذ تُولِّد هذه الإشعاعات طاقةً لا تكفي لانتزاع الجزيئات الأخف كالهيدروجين فحسب، بل وبمرور الوقت تنتزع جزيئات أثقل كالأوكسجين والنتروجين.


ويُظهِر النموذج كيفية قيام الإشعاع القوي القادم من القنطور الأكبر باستنزاف الغلاف الجوي الشبيه بغلاف الأرض الجوي بسرعةٍ تُقدَّر بــ 10000 ضعف السرعة التي يحدث بها ذلك على الأرض.


تقول غارسيا: "كان ذلك عملية حسابية سهلة قمنا بها على أساس الفعالية المتوسطة للنجم المضيف، وهي لا تأخذ بعين الاعتبار الاختلافات من قبيل التسخين الشديد في الغلاف الجوي للنجم أو الاضطرابات النجمية العنيفة الحاصلة في المجال المغناطيسي للكوكب الخارجي، ونعتقد أنها أمُورٌ تسهم في المزيد من الأشعة المؤيِّنة وهروب الغلاف الجوي".


نظر العلماء إلى عامِلَيْن آخرين يُفاقِمَان فقدان الغلاف الجوي لمعرفة الكيفية التي يمكن بها للعملية أن تكون مختلفة، فأولاً، أخذوا بعين الاعتبار درجة حرارة الغلاف الجوي المحايد المُسمَّى بالثيرموسفير (Thermosphere) ووجدوا أنه كلما سُخِّن بواسطة المزيد من الإشعاعات النجمية يتزايد هروب الغلاف الجوي.


وثانياً، أخذوا بعين الاعتبار حجم المنطقة التي تحصل بحدودها عملية هروب الغلاف الجوي، والتي تُسمى بالفجوة القطبية (Polar Cap)، فالكواكب أكثر حساسية تجاه التأثيرات المغناطيسية عند أقطابها المغناطيسية، فعند تَقارُب خطوط الحقل المغناطيسي عند القطبين تكون الفجوة القطبية محدودة وتبقى  الجسيمات المشحونة مُحتجزَة بالقرب من الكوكب، ومن ناحية أخرى يحدث هروب أكبر حين تتباعد خطوط الحقل المغناطيسي لتُقدِّم طريقاً وحيد الاتجاه نحو الفضاء.


ويقول شون دوماغال غولدمان Shawn Domagal-Goldman عالم الفضاء من غودارد وهو عضوٌ لم يشترك في الدراسة: "تُلقِي هذه الدراسة نظرةً على عاملٍ نال تقديراً أقل من غيره بالنسبة لصلاحية السكن، ألا وهو فقدان الغلاف الجوي، وذلك في سياق الفيزياء النجمية، فللكواكب العديد من الأنظمة المختلفة المتفاعلة، ومن المهم التأكُّد من تضميننا لهذه التفاعلات في نماذجنا".


ويُبيِّن العلماء أنه مع أعلى درجات الحرارة للثيرموسفير وبمجال مغناطيسي مفتوح بالكامل، من الممكن أن يَفقِد "بروكسيما بي" مقداراً من غلافه الجوي بحجم الأرض بكاملها في غضون 100 مليون عام، وهذا جزء يسير من عمر "بروكسيما بي" المُقدَّر الآن بأربعة مليارات سنة، وقد هربت هذه الكتلة الكبيرة على مدار ملياري عام عند افتراض العلماء لدرجات حرارة أقل وحقلٍ مغناطيسيّ مغلق.


ويقول جيرمي دريك Jeremy Drake الفيزيائي الفلكي في مركز هارفارد-سميثسونيان للفيزياء الفلكية والمؤلف المشارك في الدراسة: "يمكن أن تغدو الأمور مثيرة للاهتمام في حال كان الكوكب الخارجي يدعم بقاء غلافه الجوي، إلا أن معدلات هروب الغلاف الجوي لــ "بروكسيما بي" مرتفعةٌ جدّاً بحيث تغدو قابلية السكن أمراً غير وارد أبداً، ويضع ذلك أهلية سكن الكواكب حول مثل هذه الأقزام الحمراء موضع مُساءلة عموماً".


عادة ما تكون النجوم القزمة الحمراء كالقنطور الأقرب أو ترابيست –1 (TRAPPIST-1) هدفاً للعثور على الكواكب الخارجية لأنها أبرد النجوم وأصغرها، إضافة إلى أنها الأكثر شيوعاً في المجرة، وبسبب برودتها وخفوتها، على الكواكب أن تحافظ على مدارات مُحكَمَة لضمان وجود الماء السائل.


ولكن يجد العلماء في كثير من الأحيان أن هذا القرب الشديد لا يُعدّ بقاءً أو استدامة لغلاف جوي ما لم يُبطَل فقدان الغلاف الجوي عبر عملية أخرى كمقدار هائل من النشاط البركاني أو القذف بالمذنبات.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المنطقة السكنية (المنطقة الصالحة للحياة) (habitable zone): هو مصطلح في علم الفلك وعلم الأحياء الفلكي يُشير إلى المنطقة الموجودة حول نجم ما وفي الوقت نفسه تمتلك الظروف المناسبة للسماح بتواجد الماء السائل فوق سطح الكواكب الموجودة فيها والمشابهة للأرض. وعلى اعتبار أن الماء هو عنصر أساسي لوجود جميع أنواع الحياة التي نعرفها، تُعتبر الكواكب الواقعة في هذه المنطقة من الكواكب التي قد تحتضن نوع من أنواع الحياة خارج كوكب الأرض. تعتمد تلك المنطقة من جهة أخرى على شدة أشعة النجم الواصلة إليها حيث تكون في المتوسط نحو 10 درجات مئوية وكذلك على نوع الضوء الصادر منه، بحيث لا يغلب في طيفه مثلا أشعة فوق البنفسجية أو أشعة سينية، فكلاهما لا يصلح للحياة. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات