محاكاةٌ لتسريع بوزيترونات ذات طاقةٍ عاليةٍ في غازٍ متأيِّن، أو بلازما: طريقةٌ جديدةٌ من الممكن أن تساعد في التحكُّم بالجيل المُقبِل من مصادم الجسيمات؛ وتُظهر هذه الصورة البنية البلازمية عاليةَ الكثافة والموضَّحة باللون الأخضر والبرتقالي حول شعاع البوزيترون المتحرك من أسفل اليمين إلى اليسار العلوي. تعبر إلكترونات البلازما شعاعَ البوزيترونات على طول مسارات تُشبه الأمواج.
Credit: W. An/UCLA
يُمثِّل تسريع الجسيمات بواسطة البلازما خطوةً جديدةً نحو الوصول إلى مصادمات جسيماتٍ أرخص وأقصر؛ وقد أظهرت دراسةٌ جديدة أجراها باحثون من وزارة الطاقة الأمريكية DOE في مختبر المسرِّعات الوطني SLAC، وجامعة كاليفورنيا بلوس أنجلوس، وسيلةً ناجحةً وفعالةً لتسريع البوزيترونات (positrons)، التي تُمثِّل المادة المضادة (antimatter) للإلكترونات؛ وقد تساعد هذه الطريقة الجديدة في تعزيز الطاقة وتقليص حجم مصادمات الجسيمات الخطيِّة المستقبلية، وهي مُسرعاتٌ قويةٌ يُمكن استخدامها لكشف النقاب عن خصائص لبنات البناء الأساسية للطبيعة.
برهن العلماء سابقاً على القدرة على زيادة طاقة الجسيمات المشحونة عبر حصولهم على موجةٍ من الغاز المؤيّن أو البلازما، وبيَّنوا أن هذه الطريقة تعمل بشكلٍ جيدٍ للإلكترونات، وفي الوقت الذي يؤدّي فيه هذا الأسلوب إلى الحصول على مسرعاتٍ أصغر حجماً، إلا أن الإلكترونات تمثّل نصف المعادلة للمصادم المستقبلي. الآن، أنجز الباحثون هدفاً آخر عبر تطبيق هذه التقنية على منشأة SLAC للاختبارات التجريبية المتقدمة للمسرعات (FACET) الموجودة في قسم الطاقة.
يقول مارك هوجان Mark Hogan أحد المشاركين في SLAC، وبتأليف تلك الدراسة المنشورة بمجلة نيتشر: "تُعتبر الدراسة الجديدة -جنباً إلى جنب مع إنجازاتنا السابقة- خطوةً مهمةً جداً نحو الجيل المُقبل من مصادمات إلكترون-بوزيترون أصغر حجماً وأقل تكلفةً". ويضيف قائلاً: "FACET هو المكان الوحيد في العالم الذي سيمكّننا من تسريع الإلكترونات والبوزيترونات بهذه الطريقة".
ويُعلق مدير SLAC تشي تشانغ كاو Chi-Chang Kao: "يلعب باحثونا دوراً بارزاً في تطوير مجال المسرِّعات المبنية على البلازما منذ عام 1990، وتُمثِّل النتائج الأخيرة إنجازاً كبيراً للمختبر، فهي تستمر بالمضي بعلوم وتقنيات المسرِّشع إلى مراحل متقدمة".
تقليص مصادم الجسيمات
يدرس الباحثون المكونات الأساسية للمادة والقوى الناشئة بينها، من خلال صدم حُزَمٍ من الجسيمات عالية الطاقة بعضها ببعض، التصادمات الحاصلة بين الإلكترونات والبوزيترونات ذات جاذبية خاصة لأنها -وعلى النقيض من البروتونات المتصادمة بمصادم الهادرونات الكبير بسيرن حيث اكتُشف بوزون هيغز Higgs boson عام 2012- غير مصنوعةٍ من أجزاء أصغر.
يقول مايكل باسكين Michael Peskin أحد علماء الفيزياء النظرية في SLAC، الذي لم يشارك بتلك الدراسة: "هذه التصادمات أبسط وأسهل للدراسة، وسيجري إنتاج جسيماتٍ جديدةٍ وغريبةٍ بنفس المعدَّل الموجود بالنسبة للجسيمات المعروفة في مصادم الهدرونات الكبير، الذي تكون فيه نسبة تلك الجسيمات الغريبة أقل بمليار مرة".
على أية حال، ومن أجل بناء مصادم إلكترون-بوزيترون، ستحتاج التكنولوجيا المتاحة إلى مسرِّعاتٍ طويلة، إذ يصل طولها إلى عشرة كيلومترات. ويتطلَّع الباحثون لبناء مسرعاتٍ أقصر وأكثر اقتصاداً عبر الاعتماد على تسارع الحقل الذيلي من البلازما (Plasma wakefield acceleration). أظهرت الأعمال السابقة أن هذه الطريقة تعمل بكفاءةٍ مع الإلكترونات: هذا عندما تدخل حزم إلكترونات FACET المُحكمة بشدةٍ في الغاز المؤين، فإنها تخلق ذيلاً من البلازما يستخدمه الباحثون لتسريع حزمةٍ إضافيةٍ من الإلكترونات.
بالنسبة للبوزيترونات (الجسيماتُ الأخرى المطلوبة والمكوِّن الأساسي لمصادم إلكترون-بوزيترون) فإن تسارع الحقل الذيلي للبلازما يكون أكثر صعوبةً. في الواقع، يعتقد العديد من العلماء أنه لا يهم أين يتمُّ وضع حزم البوزيترونات المُحكمة هذه في أثر البلازما، مع أنها قد تفقد قوتها وتركيزها وقد يؤدي ذلك بنهاية الأمر إلى إبطاء حركتها.
يقول الباحث المشارك في الدراسة تشاندرا سيخار جوشي Chandrashekhar Joshi من جامعة كاليفورنيا: "هدفنا الرئيسي هو إيجاد نظامٍ جديدٍ يسمح لنا بتسريع البوزيترونات في البلازما بكفاءة".
وبدلاً من استخدام حزمتين منفصلتين من البوزيترون، اكتشف الفريق أن حزمةً واحدةً تكفي للتفاعل مع البلازما بمثل هذه الطريقة، ويحدث ذلك الأمر بعد أن تقطع البوزيترونات مسافة أربع بوصاتٍ داخل البلازما.
يقول سباستيان كوردي Sébastien Corde، وهو باحث سابق في SLAC والمؤلف الأول للدراسة، والذي يعمل حالياً بمدرسة التكنولوجيا في فرنسا: "في مثل هذه الحالة المستقرة، يكتسب ما يقرب من مليار بوزيترون طاقةً مقدارها خمسة مليارات إلكترون فولت بعد مسافة 1.3 متر فقط". وأضاف قائلاً: "لقد قاموا بعملٍ جيدٍ وعلى كفاءةٍ عاليةٍ وبشكلٍ موحَّد، مما أدى في نهاية الأمر إلى حزمةٍ مُسرّعةٍ وذات طاقةٍ محددةٍ بشكلٍ جيد".
النظر إلى المستقبل
كل هذه الخصائص هي الصفات والمميزات الهامة لحزم الجسيمات في المسرعات، وفي الخطوة التالية، يتطلع الفريق إلى تحسين تلك التجربة وتطويرها.
يقول المؤلف المشارك آرن موري Warren Mori من جامعة كاليفورنيا: "أجرينا محاكاة لفهم كيفية خلق تلك الحالة المستقرة". وأضاف قائلاً: "بناءً على هذا الفهم، يمكننا الآن استخدام المحاكاة في البحث عن سبلٍ أفضل لتحسين تلك الطريقة، وسيؤدي ذلك إلى أفكارٍ لتجارب مستقبلية".
على الرغم من أن مصادم الجسيمات المعتمدة على البلازما لن تُبنى في المستقبل القريب، إلا أنه يمكن استخدام تلك الطريقة لتطوير ورفع مستوى المُسرعات الموجودة في وقتٍ أقرب بكثير. يقول كوردي: "من الوارد أن يُعزَّز أداء المسرعات الخطية بإضافة مسرع بلازما قصيرٍ جداً في النهاية". وأضاف قائلاً: "هذا من شأنه أن يضاعف طاقة المسرِّع دون بناء هيكلٍ كاملٍ بشكلٍ كبير".