إحياء ميكانيكا الكمّ

منذ صدور كتاب "ما هي الحياة؟" لإروين شرودنغر Erwin Schrödinger عام 1944، يحاول العلماء جاهدين تطبيق ميكانيكا الكمّ في الأنظمة البيولوجية. باعتبار أن قوانين الديناميكا الحرارية ليست مناسبة تماماً لشرح العمليات البيولوجية (مثل الوراثة) التي تعتمد على عددٍ صغير نسبياً من الجسيمات، فتح شرودنغر المجال للبحث عن الآثار الكمومية في علم الأحياء. ولكن هل أحرزنا أي تقدمٍ في السنوات الـ 71 الماضية في فهم كيف يمكن للفيزياء الكمومية أن تفسر أسرار الحياة؟ نعم، هكذا يجادل جيم الخليلي Jim Al-Khalili وجانجيه ميكفادين Johnjoe McFadden في كتابهما الأخير للإجابة عن هذا السؤال.

في كتاب "حياة على الحافة: نهوض عصر البيولوجيا الكمومية"، يأخذنا المؤلفان (أحدهما عالم في الفيزياء النووية النظرية والآخر عالم وراثة جزيئية) في رحلة مربكة للعقل للبحث حول التأثيرات البيولوجية العديدة والتي بدأت ميكانيكا الكم في تفسيرها. بعض الأمثلة التي طرحاها في الكتاب تتمتع بدعم قوي وفرته التجارب.

 

على سبيل المثال، من المعروف أن الأنزيمات (البروتينات المنتشرة التي تعمل على تسريع التفاعلات الكيميائية الحيوية) تعتمد على ظاهرة نفق الإلكترونات والبروتونات الكمومي لزيادة معدل التفاعلات. كما يمكن لميكانيكا الكم أن تساعد في تفسير الكفاءة العالية لأحد أهم التفاعلات الحيوية على سطح الأرض، ألا وهو: حصاد الطاقة الضوئية من قبل المجمعات الضوئية في النباتات.

 

فبعد أن يمتص جزيء الكلوروفيل الفوتون يتكون زوج إلكترون-ثقب، وعلى هذا الزوج أن ينتقل على طول سلسلة من الجزيئات الحيوية من أجل الوصول إلى موقع حدوث تفاعلات الأكسدة الضوئية. يمكن لزوج الثغرات الإلكترونية أن لا يسلك طريق الحركة الكلاسيكية البطيئة والعشوائية، وإنما الطريقة الكمومية الأكثر فعالية. في الواقع، يمكن للزوج أن ينتقل إلى مكان التفاعل عن طريق جميع السبل الممكنة.

بعض أفضل الأجزاء في الكتاب تتعلق بتطبيقاتٍ ليست مفهومة بعد تماماً لميكانيكا الكم في علم الأحياء. على سبيل المثال، إن القدرة على تمييز الروائح لها صلةٌ كمومية، كما أن سبب اختلاف روائح الجزيئات ليس واضحاً تماماً.


قد تكون الآلية الرئيسية، على ما يبدو، متمثلة بالترددات الرنانة للروابط الجزيئية للرائحة، ولكن كيف يمكن للجسم الشعور بذلك؟ تنص إحدى النظريات الرائدة على أن كل مستقبل جزيئي في الأنف يصبح نشطاً إذا ارتبط بجزيء الرائحة بطريقة الاهتزاز الجزيئي الصحيحة، تلك الطرق التي تتيح تبادل الطاقة مع إلكترونات النفق الكمومي بين مواقع مختلفة على جزيئات المستقبِل.


المدهش أيضاً، هو السرد التاريخي لكيفية توصل العلماء إلى فهم الآليات التي تستخدمها العديد من الحيوانات (وأبرزها الطيور المهاجرة) لتوجيه نفسها بالاعتماد على المجال المغناطيسي للأرض.

 

إن التفسير الأكثر إقناعاً الذي يقترحه المؤلفان، يتعلق بالتفاعلات الكيميائية التي تحدث في البروتين الموجود في عيني الحيوان. تعتمد هذه التفاعلات على نفق الإلكترونات الكمومي، حيث أن المعدل الذي تحدث فيه هذه التفاعلات حساسٌ للغاية للمجالات المغناطيسية الضعيفة - ما يعطي الحيوان بوصلة كمومية ذات طبيعة كيميائية.

حوالي ثلث الكتاب مُكرّس لتطبيقات تكهن بها المؤلفون في فيزياء الكم، وعلاقتها بالمشاكل الرئيسية التي لم تحل بعد في العلوم البيولوجية. هل يمكن لنفق البروتونات الكمومي عبر أزواج قاعدة DNA أن يسبب طفرات وراثية تلقائياً؟

 

هل ظهرت الحياة على الأرض في فترة زمنية قصيرة نسبياً، لأن الجسيمات التي كونت الجزيئات الحيوية البدائية كانت متشابكةً كمومياً، ما يتيح لها إجراء بحث كمومي عال لتكوين هيئةٍ ذاتية الاستنساخ؟ هل يمكن تفسير الوعي الجزئي عن طريق تأثير المجالات الكهرومغناطيسية على أيونات تنتقل عبر النفق الكمومي خلال القنوات الغشائية في الخلايا العصبية؟.

 

في معظم الحالات، ليست هذه المقترحات أكثر من مجرد تكهنات من قبل المؤلفيْن، كما يوضحان في الكتاب. مع ذلك، قاما بتقديم هذه التكهنات بشكل مسّلٍ وواضح، حيث إنها تعطي المؤلفان عذراً مفيداً لتقديم لمحات عامة مثيرة للاهتمام عن بعض المشاكل المثيرة في علم الأحياء.

 

 
اعتاد علماء الفيزياء ربط الآثار الكمومية مع الأنظمة المعزولة ذات درجات الحرارة المنخفضة في المختبر في ظروف مسيطر عليها جيداً. بالنسبة للكثيرين، إن السؤال الأكثر دهشة في الكتاب هو كيف يمكن للتماسك الكمومي الاستمرار لفترة طويلة بما فيه الكفاية في المنظومات البيولوجية الفوضوية الساخنة لإحداث تأثيرات كمومية خاصة هناك.
 
لمعالجة هذه المسألة، يقدم المؤلفان مجموعة من الأدلة على أن الضوضاء البيولوجية في الواقع تلعب دوراً في تعزيز الإطار الزمني للتماسك الكمومي في النظم البيولوجية، بدلاً عن الحد منها. يشرح هذا الاقتراح عنوان الكتاب: وجود حياة على الحافة، بالاعتماد على ظروف مضبوطة بعناية (على الأرجح من قبل التطور) للسماح للآثار الميكانيكية الكمومية بالتأثير على العمليات البيولوجية.
 
ولكن ذلك يثير أسئلةً من نوع مختلف أيضاً. هل يمكن لفهمٍ أفضل للظروف المحيطة بالنظم البيولوجية الكمومية أن يقودنا إلى تكنولوجيات جديدة؟ هل يمكننا، على سبيل المثال، إنشاء مولدات طاقة تحاكي عملية البناء الضوئي بكفاءة تفوق حدود دورة كارنو؟ بل هل يمكن لها أن تكون مفتاحاً لخلق أشكالٍ من الحياة الاصطناعية؟

إن الكم الهائل من العلوم والمنح الدراسية المعروضة في الكتاب أمرٌ رائع. استخدم المؤلفان في الكتاب كماً وافراً من الحكايات ذات طبيعة وثائقية، وذلك على الأرجح لتقليل ملل القارئ. لكن هذا على كل حال، يبطئ وتيرة الكتاب، فقد يفضل القارئ الأكثر انشغالاً لو أن المؤلفين قد تركا هذه القصص. على الأغلب، بعض القراء قد فعلوا ذلك دون وصفٍ مفصلٍ لمفاهيم الأحياء والفيزياء التمهيدية، خصوصاً عندما يتم التغاضي أحياناً عن تفاصيل عدد قليل من آثار الكم البيولوجية إلى حد ما.

من ناحية أخرى، يمكن اعتبار الكتاب مميزاً بسبب الطريقة التي يدمج بها المعلومات من المؤلفات العلمية المنشورة قبل بضعة أشهر والتي ساهمت في ترك انطباع مثير عن مجال البيولوجيا الكمومية. بحلول نهاية الكتاب، سيتوق معظم القراء لجزءٍ آخر من الكتاب في غضون السنوات القليلة المقبلة، حيث ستتم الإجابة عن بعض الأسئلة البيولوجية المتروكة في هذا الكتاب، إضافة إلى المزيد من الأسئلة المثيرة التي تنتظر التفسيرات، إذا كان المؤلفان على حق ستشمل هذه التفسيرات على الأرجح ميكانيكا الكمّ.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات