سقى الله أيام الماضي الجميلة، حين صورت بعثة "مارس إكسبريس Mars Express" التابعة لوكالة الفضاء الأوروبية ESA ريول فاليس Reull Vallis، وهو عبارة عن بنية شبيهة بالنهر يعتقد أنها تكونت حين كان الماء يسير متدفقًا في الماضي البعيد للمريخ، مقتطعًا مسارات شديد الانحدار في طريقه نحو أرضية حوض هيلاس Hellas. ووفقًا للدراسة الجديدة أفسح غلاف جوي أكثر سماكة ويتألف من الميثان والهيدروجين بالإضافة إلى ثاني أكسيد الكربون المجال لتدفق الماء السائل على المريخ في أزمنة مختلفة من الماضي.
حقوق وملكية الصورة: (ESA/DLR/FU Berlin (G. Neukum.
إنه الماء، ودائمًا ما يكون الحديث عن الماء عندما يتعلق الأمر باحتمالية دعم كوكب ما للحياة. فالمريخ ربما يحتوي علي بعضٍ من الماء السائل العرضي على شكل تدفقات مالحة تجري أسفل جدران الفوهة، غير أن معظمها يبدو محتجزًا في جليد قطبي أو مختفيًا في أعماق الأرض. ضع الآن كوبًا من الأشياء في يوم مريخي مشمس وتبعًا للظروف، فإما أن تتجمد بسرعة أو ببساطة ستتطاير لتتبخر في غلاف الكوكب الجوي الرقيق جدًا.

ويمكن لأدلة وفرة المياه في السهول المغمورة سابقًا وقيعان الأنهار المتعرجة أن توجد تقريبًا في كل مكان على المريخ. فقد عثرت عربة كوريوسيتي -التابعة لناسا- على رواسب معدنية من شأنها أن تتشكل فقط في الماء السائل وحصي كورت من خلال تدفق قديم كان يبقبق عبر أرضية فوهة غيل. وهنا يكمن التناقض، إذ يبدو أن الماء قد تدفق بصورة عشوائية عبر الكوكب الأحمر منذ 3 إلى 4 مليارات سنة مضت، فما الذي حدث اليوم؟
يقع اللوم على عاتق الغلاف الجوي الضعيف للمريخ. إذ إن الهواء السميك واللطيف والزيادة في الضغط الجوي الذي يرافقه من شأنه أن يحافظ على الماء في هذا الكأس مستقرًا. كما سيحتجز الغلاف الجوي الأكثر سماكة الحرارة مما يساعد على بقاء الكوكب دافئًا بما فيه الكفاية لتجمع الماء السائل وتدفقه.
وقد اقتُرحت أفكار مختلفة لتفسير الترقق المفترض للهواء بما في ذلك فقدان المجال المغناطيسي للكوكب والذي يشكل خطًا دفاعيًا في مواجهة الرياح الشمسية.

ومن الممكن أن تكون تيارات الحمل الناتجة عن نواته المنصهرة والمؤلفة من الحديد والنيكل هي التي ولدت الدفاعات المغناطيسية الأولى للمريخ. ولكن أحيانًا وفي وقت مبكر من تاريخ الكوكب توقفت التيارات إما بسبب برودة النواة أو أنها تعطلت بسبب تصادمات الكويكبات. وبدون النواة المضطربة يضعف المجال المغناطيسي، الأمر الذي يسمح للرياح الشمسية بالتخلص من الغلاف الجوي جزيئًا فجزيئًا.
الرياح الشمسية تلتهم غلاف المريخ الجوي.
ويقول بروس جاكوسكي Bruce Jakosky الباحث الرئيس لبعثة مافن MAVEN mission: "تشير القياسات القادمة من بعثة مافن الحالية التابعة لوكالة ناسا إلى أن الرياح الشمسية قد انتزعت الغاز بمعدل 100 غرام (أي ما يعادل نحو ربع رطل) كل ثانية. يشبه الأمر سرقة عدد قليل من القطع النقدية من خزنة النقود كل يوم، حيث تصبح الخسارة كبيرة مع مرور الوقت.

وأشار باحثون من كلية جون بولسون للهندسة والعلوم التطبيقية Harvard John A. Paulson School of Engineering and Applied Sciences او اختصاراً (SEAS) إلى سيناريو مختلف ينطوي على عملية انتزاع أقل للغازات إضافة إلى عملية تجفاف. واستندوا في دراستهم على أن المريخ قد يكون أكثر حرارة الآن مما كان عليه سابقًا والسبب كذلك يعود إلى تأثير قوي لغازات دفيئة (تحدث ظاهرة احتباس حراري).
وفي أطروحة نشرت في Geophysical Research Letters، وجد الباحثون أن التفاعلات بين الميثان وثاني أكسيد الكربون والهيدروجين في الغلاف الجوي للمريخ في زمن مبكر من عمره ربما نتج عنها فترات دافئة حين كان من الممكن للكوكب أن يدعم وجود الماء السائل على سطحه.
وأخذ الفريق أولًا تأثيرات ثاني أكسيد الكربون بعين الاعتبار، فهي خيار جلي كونه يشكل 95٪ من غلاف المريخ الجوي في الوقت الحاضر ومن المعروف أنه يختزن الحرارة. لكن عندما تأخذ في الاعتبار أن الشمس كانت أقل إشعاعًا بنسبة تصل إلى 30 بالمئة مقارنة بما هي عليه اليوم، حينها لا يمكن أن يحسب ذلك لثاني أكسيد الكربون فقط .
ويقول روبن وردسورث Wordsworth، الأستاذ المساعد في العلوم البيئية والهندسة في كلية جون بولسون للهندسة والعلوم التطبيقية، وأول مؤلف للورقة: "بإمكانك إجراء بعض الحسابات المناخية عن طريق إضافة ثاني أكسيد الكربون، لتصل إلى مئات أضعاف الضغط الجوي الحالي على المريخ، ومع ذلك لن تحصل على درجات الحرارة التي يمكن القول بأنها قريبة من درجات الانصهار".

ولا يعد غاز ثاني أكسيد الكربون الغاز الوحيد القادر على منع الحرارة من الخروج إلى الفضاء. فالميثان (CH4) سيقوم بهذه المهمة أيضًا. فقبل مليارات السنين، حين كان الكوكب أكثر نشاطًا من الناحية الجيولوجية، من الممكن أن تكون البراكين قد اتصلت بمصادر عميقة للميثان لتطلق تدفقات من الغاز في الغلاف الجوي للمريخ.
وعلى غرار ما يحدث على القمر تيتان، فإن الأشعة فوق البنفسجية الشمسية من شأنها أن تفكك الجزيء إلى اثنين وتحرر غاز الهيدروجين في هذه العملية. وحين نظر وردسورث وفريقه إلى ما يحدث عندما اصطدام الميثان والهيدروجين وثاني أكسيد الكربون ومن ثم تفاعلهم مع أشعة الشمس، اكتشفوا أن المزيج قد امتص الحرارة بشدة.
كارل ساغان Carl Sagan هو عالم فلك أمريكي ومعمم لعلوم الفلك كان أول من خمن عام 1977 إمكانية أن يكون التسخين الهيدروجيني مهمًا على المريخ في أزمنته المبكرة، ولكن هذه هي المرة الأولى التي يتمكن فيها العلماء من حساب تأثير الاحتباس الحراري له بدقة. كما أنها المرة الأولى التي يظهر فيها غاز الميثان كغاز فعال من غازات الدفيئة في زمن مبكر من عمر المريخ.

وعندما تأخذ الميثان بعين الاعتبار، فمن الممكن أن يكون المريخ قد شهد حلقات من الدفء ارتكزت على النشاط الجيولوجي المصحوب بالزلازل والبراكين. وكان هناك ثلاثة عصور بركانية على الأقل عبر تاريخ الكوكب - أولها قبل 3.5 مليار عام (يدل على ذلك السهول القمرية التي تشبه الفرس)، وثانيها قبل 3 مليارات عام (البراكين الأصغر ذات الحواجز) وآخرها قبل 1 إلى 2 مليار عام، عندما كانت البراكين ذات الحواجز العملاقة كأوليمبوس مونس نشطة. لذلك لدينا ثلاث انفجارات محتملة من غاز الميثان هزت الغلاف الجوي لتفسح المجال أمام مريخ أنضج.
وأحدث الحجم الهائل لقمة أوليمبوس مونس عمليًا انفجارات ضخمة عبر مدة طويلة من الزمن. وخلال الفترات الفاصلة، استمر الهيدروجين -وهو غاز خفيف الوزن- في الهروب إلى الفضاء إلى أن تجدد في الاضطرابات الجيولوجية التالية.
وقال روبن وردسورث Wordsworth: "يبين هذا البحث أن تأثيرات التسخين الناتجة عن كل من الميثان والهيدروجين قد قُدرت بأقل مما كانت عليه بشكل كبير، فقد اكتشفنا أن الميثان والهيدروجين وتفاعلهما مع ثاني أكسيد الكربون قد سخنا المريخ بشكل أفضل بكثير في أزمنته المبكرة مما كان يعتقد سابقًا".
وأنا مسرور جدًا أن كارل ساغان قد سار على هذا الطريق قبل 40 عامًا. فلطالما كان لديه الأمل في الحياة على سطح المريخ. وقد سجل كارل ساغان هذه العبارات قبل عدة أشهر من وفاته في عام 1996: "قد نكون على المريخ بفضل العلم الرائع الذي بإمكاننا إنجازه هناك، فأبواب العالم العجيب مفتوحة في أيامنا.
وربما سنكون على المريخ لأنه يجب علينا ذلك، إذ يتعاظم فينا نبض عميق لرحالة خلال العملية التطورية. وفي نهاية المطاف، ننحدر من جماعات من الصيادين، و99.9%من فترة وجودنا على الأرض قضيناها هائمين. والمكان القادم الذي علينا أن نهيم فيه هو المريخ. ولكن مهما كان السبب وراء كوننا على المريخ، أنا سعيد لأنكم هناك، وأتمنى لو كنت معكم".