خريطة لتوزع المادة المظلمة تبدأ في كشف النقاب عن التاريخ المبكر للكون

مقطع قياسه 14× 9.5 دقيقة قوسية (arc minute) من صورة تم التقاطها بواسطة الكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam)، ويحتوي على خطوط محيطية تُوضح توزع المادة المظلمة.

مصدر: المرصد الفلكي الوطني الياباني المعروف اختصارًا باسم NAOJ/مشروع HSC


بدأ باحثون من المرصد الفلكي الوطني الياباني National Astronomical Observatory of Japan، المعروف اختصارًا باسم NAOJ، ومن جامعة طوكيو ومؤسسات أخرى بمسح منطقة واسعة للكشف عن توزع المادة المظلمة (dark matter) في الكون باستخدام الكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam)، وهي كاميرا جديدة واسعة المجال تم تركيبها في تلسكوب سوبارو (Subaru Telescope) في هاواي.

في النتائج الأولية لعمليات رصد غطّت مساحة قدرها 2.3 درجة مربعة من السماء باتجاه كوكبة السرطان constellation Cancer، اكتشف الباحثون تسعة تراكيز كبيرة للمادة المظلمة، ولكلٍ منها كتلة عنقود مجري (الفيلم، الشكل 1). تعد دراسة كيفية توزع المادة المظلمة وكيفية تغيُّر ذلك التوزع بمرور الوقت ضرورية لفهم دور الطاقة المظلمة التي تتحكم في توسع الكون.

أثبتت هذه النتائج الأولية أن الأساليب والأدوات اللازمة لفهم الطاقة المظلمة (dark energy) متاحة الآن للفلكيين، والخطوة التالية التي على فريق البحث اتخاذها هي توسيع المسح ليغطي ألف درجة مربعة من السماء، وبالتالي إزالة الغموض عن مفهومي الطاقة المظلمة وتوسع الكون.

إن وضع خريطة لتوزيع المادة المظلمة في منطقة شاسعة هو أمر ضروري لفهم خواص الطاقة المظلمة التي تتحكم في توسع الكون، وقد أثبتت هذه النتائج المبدئية أنه بفضل أساليب البحث الحالية والكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam)، فإن الفريق جاهز الآن لاستكشاف كيفية تغيّر توزع المادة المظلمة في الكون بمرور الزمن ولإماطة اللثام عن غموض الطاقة المظلمة ولدراسة تاريخ توسع الكون بشكل أكثر تفصيلاً.

لاقت قدرات الكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam) في هذا المسح إشادة مطورها الرئيسي الدكتور ساتوشي ميازاكي Satoshi Miyazaki الذي يعمل لدى مركز التكنولوجيا المتقدمة Advanced Technology Center بالمرصد الفلكي الوطني الياباني كما أنه قائد فريق البحث، فنجده يقول: "نعلم الآن أنه لدينا كل من الأساليب والأدوات اللازمة لفهم الطاقة المظلمة. ونحن جاهزون لاستخدام الكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam) في إنشاء خريطة توزع المادة المظلمة على 1000 درجة مربعة، وستكشف تلك الخريطة عن تاريخ توسع الكون مع مراعاة الدقة في التفاصيل".

استخدام المفعول العدسي الضعيف (weak lensing) بواسطة المادة المظلمة لدراسة تأثيرات الطاقة المظلمة


منذ 1929 أي عندما اكتشف إدوين هابل Edwin Hubble أن الكون آخذٌ في التوسع، استخدم الفلكيون نموذج عمل بمعدل توسع متباطئ بمرور الزمن، يعمل التجاذب التثاقلي (Gravitational attraction) –الذي حتى وقت قريب كان يُعد القوة الوحيدة المعروفة الفاعلة بين المجرات– بشكل معاكس للتوسع. لكن في التسعينات من القرن العشرين، أثبتت دراسات المستعرات الفائقة البعيدة (distant supernovae) أن توسع الكون اليوم أسرع من أي وقت مضى.

مع هذا الاكتشاف، كان لا بد من تحول جذري في فهمنا للفيزياء: بمعنى إما أنه هناك نوع معين من "الطاقة المظلمة" بقوة منفّرة تبعد المجرات عن بعضها البعض، أو أن فيزياء الجاذبية بحاجة لمراجعة جذرية.



لإزالة الغموض عن التوسع المتسارع للكون، من المفيد دراسة العلاقة بين معدل توسع الكون ومعدل تشكُّل الأجسام الفلكية. على سبيل المثال، إذا كان الكون يتوسع بسرعة، فسيمر وقت طويل حتى تتكتل المادة وتكوّن مجرات. والعكس بالعكس، إذا كان الكون يتوسع ببطء، فمن السهل تشكّل بُنىً مثل المجرات.


في الواقع، هناك صلة مباشرة بين تاريخ تشكّل البنى في الكون وتاريخ توسع الكون. تنشأ الصعوبة في عملية تأكيد وجود المادة المظلمة وتأثيرها على التوسع من حقيقة أن معظم مادة الكون مظلمة ولا تصدر ضوءًا؛ لذا لا يمكن اكتشاف المادة المظلمة مباشرةً بواسطة التلسكوبات التي تعد أجهزة جامعة للضوء.

أحد الطرق الممكنة للتغلب على هذه الصعوبة هو اكتشاف المفعول العدسي الضعيف وتحليله، فالمنطقة ذات الكثافة العالية بالمادة المظلمة تقوم بدور عدسة تحني الضوء القادم من الأجسام الأكثر بعدًا. وبتحليل كيفية حني ضوء الخلفية ذلك وكيفية تشويه المفعول العدسي لأشكال أجسام الخلفية، من الممكن تحديد كيفية توزع المادة المظلمة في المقدمة.

يُتيح هذا التحليل للمادة المظلمة وتأثيراتها للفلكيين تحديد كيفية التراكم بمرور الوقت، ويمكن ربط تاريخ تراكم المادة المظلمة بتاريخ توسع الكون، وينبغي أن يكشف هذا عن بعض الخصائص الفيزيائية للطاقة المظلمة وقوتها وكيف تغيرت بمرور الزمن.

للحصول على كمية كافية من البيانات، لابد أن يرصد الفلكيون المجرات التي تقع على بُعد أكثر من مليار سنة ضوئية، عبر مساحة تزيد عن ألف درجة مئوية (حوالي جزء من أربعين من السماء بأكملها). وبالجمع بين تلسكوب سوبارو (Subaru Telescope) وفتحته التي يبلغ قطرها 8.2 مترًا والكاميرا العملاقة (Suprime-Cam) -التي تعد الإصدار السابق لكاميرا Hyper Suprime-Cam– بمجال رؤية يساوي جزءًا من عشرة من درجة مربعة (يساوي حجم القمر بأكمله)، أصبح لدينا أحد أنجح الأدوات في البحث عن الأجسام البعيدة الخافتة (faint distant objects) على امتداد رقعة شاسعة من السماء.

لكن حتى مع هذا الدمج الفعال، فإن مسح ألف درجة من السماء بالعمق اللازم ليس واقعيًا. لذا يقول الدكتور ساتوشي ميازاكي: "هذا هو سبب قضائنا 10 سنوات في استحداث الكاميرا العملاقة (Hyper Suprime-Cam)، وهي كاميرا لها نفس جودة الصور الجيدة التي توفرها كاميرا (Suprime-Cam)، لكن بمجال رؤية أكبر بما يزيد عن سبع مرات".



كاميرا Hyper Suprime-Cam عند البؤرة المركزية لتلسكوب سوبارو (Subaru Telescope). مصدر الصورة: NAOJ/مشروع HSC
كاميرا Hyper Suprime-Cam عند البؤرة المركزية لتلسكوب سوبارو (Subaru Telescope). مصدر الصورة: NAOJ/مشروع HSC


تم تركيب الكاميرا العملاقة في تلسكوب سوبارو عام 2012. وعقب عمليات الرصد الاختبارية، أتيحت لاستخدام جمهور الفلكيين في مارس/آذار من عام 2014 (الشكل 2)، ويجري الآن أيضًا برنامج "إستراتيجي" للرصد يتكون من أكثر من 300 ليلة رصد ويمتد على أكثر من خمس سنوات.

تنقل الكاميرا المزودة بدقة 870 مليون بكسل الصور التي تغطي مساحة من السماء تماثل تسعة أقمار كاملة في تعرض واحد، مع تشويه بالغ الصغر وبدقة بالغة تساوي سبعة من آلاف من درجة "0.5 ثانية قوسية " (arc seconds).

حلل الباحثون من NAOJ وجامعة طوكيو ومساعدون البيانات الاختبارية المستمدة من مهام الكاميرا العملاقة لمعرفة مدى تمكنها من إعداد خريطة لتوزع المادة المظلمة باستخدام أسلوب المفعول العدسي الضعيف. وقد أظهرت البيانات المأخوذة من تعرض مدته ساعتين يغطي 2.3 درجة مربعة صورًا واضحة لعدة مجرات. وبقياس أشكالها الفردية، وضع الفريق خريطة للمادة المظلمة المختفية في المقدمة.

نتج عن ذلك اكتشاف تسع كتل من المادة المظلمة، يساوي وزن كل منها وزن عنقود مجري (galaxy cluster). وتأكدت موثوقية تحليل المفعول العدسي الضعيف والخرائط الناتجة لتوزيع المادة المظلمة بواسطة عمليات رصد استُخدمت فيها تلسكوبات أخرى أظهرت العناقيد المجرية الحقيقية المناظرة لكتل المادة المظلمة التي اكتشفتها كاميرا (Hyper Suprime-Cam).

للتعرف البصري على الكتل والعناقيد، تم استخدام البيانات المخزّنة لمسح المفعول العدسي العميق (Deep Lens Survey) (الباحث الرئيسي: "توني تايسون" Tony Tyson وهو أيضًا قائد فريق مشروع تلسكوب Large Synoptic Survey Telescope).

تظهر البيانات فائضًا واضحًا في المناطق المكثفة بالمادة المظلمة فوق النموذج النظري الأفضل حاليًا. في اليمين: مخطط يظهر مناطق المادة المظلمة عالية الكثافة المكتشفة في بيانات كاميرا Hyper Suprime-Cam. في اليسار: مخطط يظهر توقعات من النماذج النظرية الحالية. مصدر الصورة: NAOJ/مشروع HSC
تظهر البيانات فائضًا واضحًا في المناطق المكثفة بالمادة المظلمة فوق النموذج النظري الأفضل حاليًا. في اليمين: مخطط يظهر مناطق المادة المظلمة عالية الكثافة المكتشفة في بيانات كاميرا Hyper Suprime-Cam. في اليسار: مخطط يظهر توقعات من النماذج النظرية الحالية. مصدر الصورة: NAOJ/مشروع HSC


يفوق عدد العناقيد المجرية التي اكتشفتها كاميرا (Hyper Suprime-Cam) توقعات النماذج الحالية للتاريخ المبكر للكون (الشكل 3). ونظرًا لأن فريق البحث يوسع خريطة توزع المادة المظلمة إلى ألف درجة مربعة، وهو هدفهم، ينبغي أن توضح البيانات ما إذا كان هذا الفائض حقيقيًا أم مجرد صدفة إحصائية.

إذا كان الفائض حقيقيًا، فهذا يشير إلى أن مقدار الطاقة المظلمة خالف التوقعات السابقة مما يتيح التوسع المعتدل للكون والتشكّل السريع للنجوم والمجرات.

يعد استخدام المفعول العدسي الضعيف لوضع خريطة لتوزيع المادة المظلمة طريقة لاكتشاف الأجسام الفلكية باستخدام كتلتها، وذلك لمعرفة وجود شيء ووزنه في الوقت نفسه. وبهذا نحصل على قياس مباشر للكتلة لا يتاح عادةً عند استخدام طرق الاكتشاف الأخرى. وبالتالي، تعد خرائط كتل المادة المظلمة أداة أساسية لفهم تاريخ توسع الكون تحديدًا وبدقة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الكوكبة (Constellation): أو البرج (احياناً)، وفي علم الفلك الحديث، تُشير هذه الكلمة إلى منطقة محددة من السماء داخل الكرة السماوية التي عرّفها وحددها الاتحاد العالمي لعلم الفلك (IAU).
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernovae): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernova): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا
  • المجرة (galaxy): عبارة عن أحد مكونات كوننا. تتكون المجرة من الغاز وعدد كبير (في العادة، أكثر من مليون) من النجوم التي ترتبط مع بعضها البعض، بوساطة قوة الجاذبية. و عندما تبدأ الكلمة بحرف كبير، تُشير Galaxy إلى مجرتنا درب التبانة. المصدر: ناسا

اترك تعليقاً () تعليقات