تناول اللحم يؤدي إلى معدة أصغر وعقل أكبر!

عالمة تعيد طرح نظريتها التي تشرح تطور الرئيسيات الأولى إلى بشر

من خلف الصناديق الزجاجية يعرض متحف مدينة بيابودي للآثار التابع لجامعة هارفرد Harvard’s Peabody Museum of Archaeology أدوات قديمة، وأسلحة، وملابس، وقطع فنية تكفي لتعيدك بالزمن إلى الوراء. 

إلا أن المتحف الموقر قدم لحظة مدوية من نوع آخر في قاعة المحاضرات الجيولوجية في 20 مارس/آذار. حيث قدمت عالمة دراسة مستحاثات أسلاف البشر، والذي يعرف بـ "باليو انثروبلوجيا"[1] (Paleoanthropology)، ليزلي آيللو Leslie Aiello محاضرة حول نظام الغذاء والطاقة والتطور. لقد كان من المؤثر رؤيتها بهيئتها الهزيلة والرصينة تقف أمام شاشة ضخمة تملؤها صور فظة "للهوميند" [2] (hominids) في السافانا وهم متجمهرين حول لعبة طريدة. 


تُظهر الصورة الباحثة ليزلي آيللو Leslie Aiello وهي تشرح نظريتها المؤثرة والتي تقول من الناحية التطورية حجم الأدمغة الكبيرة للبشر -التي تتطلب كميات هائلة من الطاقة- يتناسب عكسا مع حجم الأمعاء. المصدر: مات كريج/ مكتب هارفارد الإخباري Staff photo Matt Craig/Harvard News Office
تُظهر الصورة الباحثة ليزلي آيللو Leslie Aiello وهي تشرح نظريتها المؤثرة والتي تقول من الناحية التطورية حجم الأدمغة الكبيرة للبشر -التي تتطلب كميات هائلة من الطاقة- يتناسب عكسا مع حجم الأمعاء. المصدر: مات كريج/ مكتب هارفارد الإخباري Staff photo Matt Craig/Harvard News Office

وآيللو أيضاً -كما وصفها أحد معجبيها- هي "الأنثى الأولى" بين علماء الإنسان الذين يجرون دراسة حول أصل الإنسان. لقد شاركت في كتابة النص شائع الاستخدام "مقدمة للتشريح التطوري للإنسان" An introduction to Human Evolutionary Anatomy -Academic Press, 1990- القائم على الفكرة القائلة أنَّ سجل المستحاثات يقدم دلائل حول مظهر الهيوميند الأوائل وكيف كانوا يتحركون و حتى يأكلون.

أستاذة لمدة ثلاث عقود في جامعة غولاج في لندن University College، وحالياً رئيسة مؤسسة وينر-غرن للبحث الأنثربولوجي ومقرها مانهاتن Wenner-Gren Foundation for Anthropological Research، كانت آيللو في كامبردج تقدم محاضرة المؤسس جورج بيابودي لعام 2008. وكان مقدم آيللو دنيال إي ليبرمان Daniel E. Lieberman، وهو استاذ الأنثربولوجيا الإحيائية في هارفرد ومناصر للفكرة القائلة بأن السير على قدمين بانتصاب والجري لمسافات طويلة وضعت البشر الأوائل على طريقهم الجديدة نحو التطور.

رفع ليبرمان نسخة من كتاب آيللو وقال: "سيرتها الذاتية طويلة جداً، من الصعب معرفة من أين أبدأ،" ثم تابع ليبرمان؛ ولكن هناك فكرتين مميزتين عن البقية، واحدة تقول أنه من الناحية التطورية يتناسب حجم الأدمغة البشرية الكبيرة -التي تتطلب كميات هائلة من الطاقة- عكسياً مع حجم الأمعاء. 

هذه الفكرة -والتي تدعى "فرضية النسيج المكلف" (Tissue Hypothesis Expensive)، أو اختصاراً ETH، في الورقة البحثية لعام 1992 التي شاركت آيللو في تأليفها- تطرح بأنه منذ حوالي 1.5 مليون سنة بدأ البشر الأوائل في تناول المزيد من اللحم وهو مصدر مكتنز ذو طاقة سعرية عالية لا يتطلب جهازاً معوياً كبير. 

والفكرة الثانية المؤثرة التي طرحتها آيللو وزميلٌ آخر لها هي أن الحجم المتزايد للدماغ عنى تكاليف إنجابية أعلى للإناث -اللواتي مع الوقت عوّضن عن ذلك جزئياً عبر زيادة في الحجم بمعدل أكبر من الذكور من فصيلة هومو Homo - (إناث هومو إيريكتس  [3] (Homo erectus) منتصبات القامة امتلكن كتلة جسم أكبر بمقدار 64 بالمئة من الهومنيد الأوائل؛ ذكور هذا النوع –وعلى الرغم من أنهم أضخم من الإناث- كانوا أضخم من نظرائهم الذكور الأوائل بمقدار 45 بالمئة فقط.)

أعادت آيللو في محاضرتها طرح فرضيتها ETH لمعرفة مقدار متانتها علمياً بعد مضي أكثر من 15 عاماً من التمحيص الأكاديمي، وقالت أن الفكرة لاتزال قائمة ولكن في حقبةٍ ذات تقنيات أفضل للتجريب ودراسات متزايدة حول أصول الإنسان فإن نظرية ETH لديها منافسين نظريين يشرحون كيفية تطور أحجام أكبر للدماغ، على سبيل المثال يقول بعض العلماء أن السير بانتصاب على قدمين –[4] "bipedalism"- هي الطريقة الأكثر أهمية لدعم حجم أكبر للدماغ. (الصيادون والجامعون منتصبوا القامة كان لديهم فعالية أكبر من نظرائهم من الذين يسيرون على أربعة أطراف [5] quadripedal.) يقول آخرون أن العامل الأساسي لدعم أدمغة كبيرة هو كتلة العضلات الأصغر لدى الهومنيد مقارنة مع القرود. في حين أشار علماء آخرون إلى أن نظرية ETH ليست صحيحة لجميع الحيوانات بما فيها الطيور والخفافيش.

 

 
أجابت آيللو المتواضعة: "نحن أقرب بكثير إلى فهم تبادلات الطاقة والتطور مما كنا عليه قبل 15 عاماً." ولكن مهما يكن الأمر فإن ما يسمى
[6] "encephalization"  –نزعة بعض الأنواع لتطوير أدمغة أكبر- هي المرحلة الثالثة التي قادت البشر إلى التحضر. (المرحلة الأبكر كانت السير على قدمين بانتصاب والأقدم هي ما يعرف ب[7] "terrestriality" –انتقال الهومنيد الأوائل من الغابات المغطاة الغنية بالغذاء منخفض السعرات- إلى السافانا حيث كمّلت الطرائد الصغيرة والجيف والحشرات نظاماً غذائياً قائماً على النباتات.) 

وأضافت آيللو: منذ حوالي 1.5 مليون سنة "الكثير من الأمور كانت تحدث من ناحية التطور"؛ تغير موطن الهومنيد إلى جانب حجم جمجمة البشر الأوائل (أًصبحت أكبر) وفكهم (أصبح أصغر). 

ولكن ازدياد حجم الدماغ شكّل مشكلة استقلابية، فمقدار غرام من نسيج الدماغ يتطلب من أجل نموه والمحافظة عليه طاقة أكثر بعشرين ضعفاً من تلك التي يتطلبها مقدار غرام واحد من نسيج الكلية أو القلب أو الكبد كما تقول آيللو. نسيج الأمعاء مكلف استقلابياً أيضاً –لذا كلما ازداد حجم الدماغ تقلص حجم الأمعاء.

وأضافت آيللو، من المحتمل أنّ تناول اللحم "جعل من الممكن للإنسان أن يطور حجما أكبر للدماغ". من الممكن أن أسلاف الأنسان الأوائل استهلكوا أغذية حيوانية -نمل أبيض وثديات صغيرة- أكثر من الاثنين بالمئة من الحصة السعرية اللاحمة المرتبطة بالشمبانزي. 

وقالت آيللو أن الدلالات الاجتماعية لتناول اللحم بشكلٍ متزايد كانت مثيرة للاهتمام، فعند معظم الرئيسيات لا يوجد تشارك بالطعام بين الإناث والصغار، إلا أن صعوبة الحصول على اللحم قادت إلى تشارك تعاوني للطعام بين البشر الأوائل معززةً بذلك الرابطة بين الأنثى وأطفالها. 

تزايد استهلاك اللحم أدى على الأرجح أيضاً إلى تقسيم متزايد للعمل بين الجنسين؛ الذكور تصطاد وتؤمن الطعام والإناث –اللواتي واجهن أمومة مكثفة أكثر- تُربي الهومنيد الصغار الذين كانوا بحاجة للإعالة والرعاية لمدة أطول من تلك التي يحتاجها صغار القرود. 

ولكن هل يوجد أدلة في سجل المستحاثات على انتقال لما أطلقت عليه آيللو: "نظام غذائي قائم على تناول الحيوانات ذو جودة عالية"؟ باختصار، نعم. أولاً لأن عظام الحيوانات منذ 2.5 مليون سنة أظهرت آثار جروح يُعتقد أنها من الأدوات الحجرية الأولى. والسلالات الأولى للهومنيد الأوائل كانت تتميز بفك قوي وأسنان شبيهة بالطواحن. السلالات اللاحقة كانت أشبه بالإنسان الحديث حيث تميزت بفك أضعف ووجه وأسنان أصغر. 

وتضيف آيللو، هناك أدلة أخرى تشير إلى تناول الإنسان الأول اللحم، "الدودة الشريطية هي المفضلة عندي". يقول مؤرخوا الطفيليات –نعم يوجد البعض منهم- أن الضباع والبشر الأوائل كانوا مصابين بالنوع ذاته من الدودة الشريطية الأمر الذي يدل على أنهم تشاركوا الغنائم من الجيف. (يعتبر هذا التحليل ممكن بسبب "علم البيئة أحادية النظير" [8] isotopic ecology  وهو علم دراسة الآثار المجهرية للنظائر المتصلة بالطعام في كل من المستحاثات والكائنات الحية.)

لم يكن أسلافنا البشر لاحمين بالكامل، تقول آيللو: "سيكون ذلك أمراً سخيفاً"، وهي التي لاتجادل بأن تناول اللحم سبب زيادة حجم الأدمغة إنما جعل تناول اللحم ازدياد حجم الأدمغة أمراً ممكناً. وتابعت قائلة: منذ حوالي 1.5 مليون سنة "كان هناك تغيير غذائي مؤكد نحو الأطعمة ذات القيمة الغذائية العالية والتي كانت سهلة الهضم."

سرّعت المصادر الأفضل للغذاء والتغيرات الاجتماعية الناجمة عنها انتقال أسلافنا البشر إلى التحضر. ختمت آيللو عن أعلى فرعٍ في شجرة الرئيسيات "أيا كان ما يحصل هنا، فإن الهومنيد إيريكتس فهموا الأمر جيداً."
 
ملاحظات:

[1] paleoanthropology: البيليوانثربولوجيا: فرع من فروع الأنثروبولوجيا يدرس مستحاثات الهومنيد
[2] hominid:عائلة الرئيسيات ذوات القائمة المنتصبة والتي تسير على قدمين وتضم الإنسان الحديث والغوريلا والشمبنانزي وسلالات أخرى منقرضة
[3] Homo erectus: الإنسان منتصب. القامة وهو نوع منقرض من الهومنيد تميز بأدمغة كبيرة الحجم
[4] bipedalism: السير بانتصاب على قدمين (دون استخدام بقية الأطراف)
[5] quadripedal: السير على الأطراف الأربعة
[6] encephalization: النزعة لدى بعض الأنواع لتطوير أدمغة ذات حجم أكبر
[7] terrestriality: البرارية: الانتقال من الغابات المغطاة للعيش في الساڤانا
[8] isotopic ecology: علم البيئة أحادية النظير: علم دراسة الآثار المجهرية للنظائر المتعلقة بالطعام في كل من المستحاثات والكائنات الحية

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات