البشر والرئيسيات: نموذجٌ جديدٌ للكائنات الحية لعلم الأحياء التنموي التطوري

إذا كانت الحيوانات في رواية مزرعة الحيوانات الخاصة بجورج أورويل عبارة عن علماء أحياء، ربما كانوا ليعلنوا أن جميع الكائنات الحية فريدةً من نوعها، والبعض منها فريدةً أكثر من الأخرى. ولربما وبقليل من التبرير، نطبق نحن البشر هذا المبدأ الجوهري على أنماطنا الظاهرية المثيرة للاهتمام؛ فنحن الوحيدون من بين الكائنات الذين نملك قدمين ونمشي، ولا نملك ذيولاً. نحن أيضاً نملك نشأةً تطوريةً طويلةً بشكلٍ سخيفٍ بالنسبة لحجوم أجسامنا، وتملك أدمغتنا حجماً أكبر بـ 6 مرات مما هو متوقع لحيوانٍ ثديي يملك نفس كتلة جسمنا، ولدينا القدرة على التحدث بلغةٍ معقدة، وعلى التخطيط، وعلى تكوين نظرياتٍ للعقل، وهلم جراً. ويمكن للقائمة أن تطول أكثر، كما نملك جميعاً سماتٍ بشريةٍ فريدة خاصة مفضلة لنا (كالغدد العرقية، وحجم القضيب، إلخ...).

يعد تميُّزُ الإنسان جديراً بالدراسة لعدة أسباب، أسبابٌ عملية وأخرى فكرية، وليس هناك نقصٌ في الاهتمام والتمعن، والبحث في التطور الحاصل في أنماطنا الظاهرية المميزة لنا، ومع ذلك فإن القليل من البحوث كانت عن التطور. بالنسبة للجزء الأكبر، فقد ركزت الأبحاث عن التطور البشري على توضيح السجل الأحفوري وأنماط قياس التباين (الوراثية والظاهرية). كما أن هناك دراساتٌ لا تعد ولا تحصى عن التطور البشري وعن النشأة التطورية للحيوانات، بما في ذلك عدة مجلدات منشورة حديثاً، ولكن معظم هذه الدراسات كانت في الأساس حول فهم كيفية تغير أنماط التطور الجنيني، (على سبيل المثال، عن طريق التحليلات المتعلقة بتغاير التوقيت [1] (heterochrony)، بدلاً من فهم الآليات الوراثية التي تكمن وراء هذه التغيرات. بكلماتٍ أخرى: بقيت ثورة علم الأحياء التطوري (والمعروف بشكل غير رسمي بـ’evo-devo‘) تطبق نادراً على تطور الرئيسيات والبشر.

هناك عدّة أسباب لهذا الوضع المؤسف. الأكثر وضوحاً هنا، هو أننا لسنا النموذج الأمثل والأسهل للتجريب. لا يمكننا التلاعب بطريقة نمو الإنسان بنفس الطريقة التي يمكننا فعلها في حالة الفأر أو الصوص أو سمك زيبرا. الرئيسيات هي أيضاً نماذج تجريبية مسببة للمشاكل من الناحية الأخلاقية والعملية.

 

وهناك مشكلةٌ أخرى من ناحية بنيوية: تحدُث بحوثُ تطور اﻹنسان والرئيسيات غالباً في أقسام الأنثروبولوجيا (علم البشريات) بدلاً من أقسام علم الأحياء. في حين أن الكثير من علماء الأنثروبولوجيا ضليعون من علم التشريح وعلم الآثار والنظرية التطورية، إلا أن العديد منهم لا يملكون التدريب المتخصص في علم الأحياء التطوري وعلم الوراثة الضروريان للقيام بعلم الأحياء التطوري. بالإضافة إلى ذلك، فإن البنية التحتية وتمويل البحوث الأساسية في التطور البشري ضئيلٌ جداً مقارنةً بما هو متوفر لعلماء علم الأحياء التطوري.

ولكن يجب النظر لهذه المشاكل كتحدياتٍ لا كأعذار. باعتبار علم الأحياء التنموي التطوري مجالاً للدراسة، نجد أنه جدّ مهمٍ لدراسة تطور البشر والرئيسيات بسبب أهمية العملية الدراسية. الأنماط الظاهرية هي نتيجة للعمليات النمائية (developmental processes). إذا كنا لا نفهم العمليات التي تُنشئ هذه الأنماط، فإننا لن نكون قادرين على اختبار الفرضيات حول ما حدث في التطور البشري.

بالإضافة لذلك، فإننا قد استخففنا بشكلٍ كبيرٍ من إمكانيتنا كنوعٍ مختلفٍ من النماذج الحيوانية من أجل علم الأحياء التنموي التطوري؛ فنحن نعلم قدراً كبيراً حول جينوم الإنسان، والتباين الوراثي البشري، وفيزيولوجيا وتشريح الإنسان. لدينا سجل أحفوري لتطور الإنسان، سجلٌ رائع ومدروس جيداً يرافقه بشكلٍ فريدٍ سجلٌ أثريٌ يحتفظ بالمعلومات حول السلوك البشري، وهو غير متوفر لأية من الأنواع الأخرى.

 

أقاربنا من الرئيسيات غير البشرية مدروسة جيداً في معظم هذه الفئات (بما في ذلك الجينوم الكامل للشيمبانزي)، موفرين بذلك مجموعةً غنيةً من المعلومات الصالحة للمقارنة. و مكنتنا التقنيات الجينية الجديدة من دراسة جيناتٍ مرشحةٍ لها علاقة بالتطور البشري في أنواعٍ حيةٍ أخرى مثل الفئران. باختصار، يجب أن يأخذ علماء الأحياء بعين الاعتبار النظر إلى البشر والرئيسيات على حدٍّ سواء كطريقة ونهاية لدراسة تطور العمليات النمائية.

مع هذا الهدف في الاعتبار، قمنا بتجميع سلسلةٍ من الأوراق حول تطور ونماء البشر والرئيسيات. حتى الآن، يعتبر علم الأحياء التنموي التطوري للإنسان والرئيسيات مجالاً صغيراً. وحتى مع ذلك، وللأسف لم نتمكن من إغراء كل من يعمل على هذا الموضوع بالمساهمة. ومع ذلك، يجب أن تقدم الأبحاث القادمة بعض الأفكار ووجهات النظر حول مجموعةٍ من المواضيع التي تثير اهتمام مجموعةٍ واسعةٍ من علماء الأحياء.

دانييل ليبرمان Daniel Lieberman


ملاحظات


[1] تغاير التوقيت heterochrony: هو التغير التطوري في توقيت أو معدل حدوث الأحداث، والتي تؤدي إلى تغير في الحجم والشكل. وتتم مقارنة العمليات التطورية زمنياً في الكائن الحي فقط بالنسبة لنفس العملية، ولكن في كائن من نوع آخر، كالمقارنة بين سرعة نمو الذيل في جنين من ”النوع أ“ مقارنة بسرعة نمو الذيل في ”النوع ب“.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات