ثوابت الفيزياء جوهر لكون داعم لوجود الحياة

أدلة جديدة على النظرية الإنسانية التي تقول بأن الثوابت الأساسية في الفيزياء هي السر الكامن وراء الكون الداعم للحياة
حقق الفيزيائيون النظريون على مدار نصف قرن سلسلة من الاكتشافات، التي تنص على امتلاك ثوابت محددة في الفيزياء الأساسية لقيم مُولفة بشكلٍ استثنائي لتسمح بنشوء كون مناسب للحياة.
 
قادت الثوابت، التي تتقاطع مع النموذج القياسي في فيزياء الجسيمات، عملية تشكل نُوى الهيدروجين أثناء الانفجار العظيم؛ بالإضافة إلى ذرات الكربون والأكسجين، التي وُجدت بدايةً في مراكز نجوم الجيل الأول فائقة الكتلة؛ حيث نتجت هذه العناصر عن انفجار تلك النجوم على شكل سوبرنوفات، لتؤسس هذه العمليات بدورها لمرحلة الأنظمة الشمسية، والكواكب القادرة على دعم الحياة، ذات الأساس الكربوني، والمعتمدة على الماء والأكسجين.
 
كان براندون كارتر (Brandon Carter) أوَّل من اقترح النظرية، التي تنص على أنَّ المبدأ الإنساني (Anthropic Principle) يُوجه فيزياء وتطور الكون، عندما كان طالب دراسات ما بعد الدكتوراه في مجال الفيزياء الفلكية بجامعة كامبريدج. بعد ذلك، ناقش هذه النظرية عالم كامبريدج ستيفن هوكينغ وشبكة كبيرة من علماء الفيزياء من كافة أنحاء العالم.
 
يُضيف العالم الألماني أولف مايزنر  (Ulf-G Meißner)، عالم الفيزياء النووية النظرية في معهد هلموهولتز بجامعة بون، سلسلة من الاكتشافات التي تدعم هذا المبدأ الإنساني.
 
في دراسة جديدة بعنوان "الاعتبارات الإنسانية في الفيزياء النووية" نُشرت في مجلة Science Bulletin ، التي يُوجد مقرها في بكين حملت المجلة في السابق اسم  (Chinese Science Bulletin)، يُقدم البروفسور مايزنر مراجعة للمبدأ الإنساني (AP) في الفيزياء الفلكية والفيزياء التجريبية ويُصرِّح: "في الواقع، يُمكن للشخص إجراء اختبارات الفيزياء على تعبير AP بالنسبة لعمليات محددة مثل توليد العناصر''.
 
يشرح مايزنر: "يُمكن القيام بذلك باستخدام مساعدة الحواسيب عالية الأداء، التي تسمح لنا بمحاكاة عوالم، تأخذ فيها البارامترات الأساسية للفيزياء النووية، قيم مختلفة عن تلك الموجودة في الطبيعة''.
 
ويضيف: "المشاكل الفيزيائية المحددة التي نُريد مواجهتها هي تحديداً: مقدار حساسية ولادة العناصر الخفيفة، التي نشأت أثناء الانفجار العظيم، للتغيرات الحاصلة في كتلة الكوارك الخفيف m_q؛ وأيضاً أن نعرف مدى متانة شروط الرنين في عملية ألفا الثلاثية –أي قُرب ما يُعرف بحالة هولي من طاقة4He+8Be - عند حصول تغيرات في  m_q، وثابت البنية الدقيقة الكهرومغناطيسي  α_EM
 
في البداية، وضع براندون كارتر النظرية: "يجب أن يكون الكون (وبالتالي البارامترات الأساسية التي يعتمد عليها) في مرحلة مما سمح بنشوء الراصدين داخله".
 
يُوسع ستيفن هوكينغ (Stephen Hawking)، الخبير في الانفجار العظيم والتضخم الكوني، الحوار في مجال المبدأ الإنساني عبر سلسلة من الأوراق والكتب. في كتابه "تاريخ موجز للزمن"، تطرق إلى سلسلة من ظواهر الفيزياء الفلكية، والثوابت التي تبدو وكأنها تدعم نظرية AP، ومن ثمَّ يسأل: "لماذا نشأ الكون في حالة قريبة جداً من المعدل الحرج للتوسع، الذي يفصل بين نماذج مختلفة: إذ يقول قسم منها بعودة الكون للانهيار ونماذج أخرى تقول بالتوسع الأبدي؛ وهو ما يحصل الآن وسيستمر بالحصول على امتداد عشرة آلاف مليون عام قادم؛ إذ يستمر الكون بالتوسع بقيمة قريبة من المعدل الحرج؟".
 
يشرح هوكينغ: "لو كان معدل التوسع، الذي حصل بعد ثانية من الانفجار العظيم، أصغر بنسبة جزء من مائة ألف مليون مليون، لكان الكون قد انهار من جديد قبل أن يصل إلى حجمه الحالي''.
 
يقول مايزنر شارحاً دراسته الجديدة الرائدة: "يُوصف الكون، الذي نعيش فيه، ببارامترات محددة وتأخذ قيم مولفة بشكلٍ دقيق من أجل جعل نشوء الحياة –بما فيها على الأرض –أمراً ممكناً. على سبيل المثال، يجب أن يكون عمر الكون كبيراً بشكلٍ كافٍ من أجل السماح بتشكل المجرات، والنجوم، والكواكب، وتشكل الجيل الثاني والثالث من النجوم، التي احتوت الكربون والأكسجين، اللذان انتشرا جراء الانفجارات المبكرة للنجوم".
 
ويُضيف: "عند الأحجام المجهرية، يجب أن تأخذ بارامترات أساسية ومحددة في النموذج القياسي –مثل كتل الكوارك الخفيف وثابت البنية الدقيقة الكهرومغناطيسي –قيماً تسمح بتشكل النيوترونات، والبروتونات، والنوى الذرية".
 
وفي الوقت الذي أدت فيه الصناعة النووية للانفجار العظيم إلى نشوء نوى الهيدروجين وجسيمات ألفا (نواة الهليوم-4)، وُلدت العناصر، التي يُنظر إليها على أنها أساسية للحياة بما في ذلك الكربون والأكسجين، في وقتٍ لاحق داخل النجوم فائقة الكتلة، التي ماتت بسرعة –بعضها عبر انفجار سوبرنوفا نشر هذه العناصر لتُشكل الأجيال اللاحقة من الأنظمة النجمية.
 
في سلسلة من التجارب، التي تضمنت عمليات محاكاة حاسوبية معقدة باستخدام (JUQUUEN) الموجود في مركز يوليش للأبحاث (Forschungszentrum Jülich)، قام البروفسور مايزنر وزملاؤه بتغيير قيم كتل الكوارك الخفيف من أجل تحديد مدى قوة التغيير على منع تشكل الأكسجين والكربون داخل النجوم فائقة الكتلة؛ ليستنتج: "من غير المرجح أن تكون التغييرات، التي تصل إلى 2-3%، كارثية بالنسبة لعملية تشكل كل من الأكسجين والكربون الأساسيان للحياة''.
 
في وقتٍ أبكر وخلال ولادة النُوى وتشكُّل أخف عنصرين في الجدول الدوري أثناء الانفجار العظيم، يُلاحظ مايزنر: "بالاعتماد على وفرة العناصر المرصودة، وحقيقة أن التفكك الحر للنيوترونات يحصل خلال 882 ثانية تقريباً، وأن النيوترونات الناجية سيتم أسرها في الغالب من قبل الهليوم-4، يُمكن للشخص أن يجد صلة قوية بتغيرات كتلة الكوارك الخفيف... وذلك في ظل افتراضات منطقية تقول بأن كتل كل الكواركات، واللبتونات تظهر عند مستوى التفكك بيتا للنيوترونات – عدا القيم الاستثنائية لفراغ هيغز".
 
ويضيف: "بالتالي، قامت الصناعة النووية للانفجار العظيم بوضع حدود مقيدة جداً على التغيرات الحاصلة في كتلة الكوارك الخفيف؛ ويدعم مثل هذا التوليف الدقيق جداً النظرة الإنسانية لكوننا. وبوضوح، يُمكن لأي شخص أن يفكر بالأكوان المتعددة، والعوالم العديدة حيث تأخذ البارامترات الأساسية فيها قيماً مختلفة، وتقود إلى بيئات مختلفة كثيراً عن بيئاتنا''.
 
يقول البروفسور ستيفن هوكينغ أنه بوجود تغيرات صغيرة جداً في الثوابت المؤيدة للحياة في الفيزياء الأساسية للأكوان المتعددة الافتراضية، سيؤدي ذلك إلى "ظهور أكوان لن تحتوي، على الرغم من جمالها الشديد، كائناً يتساءل عن هذا الجمال''. يوافق البروفسور مايزنر على ذلك قائلاً: "وفقاً لهذا الوعي، يمتلك كوننا حالة مفضلة، وهذا هو أساس ما يُعرف بالمبدأ الإنساني''.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات