كيف أثبتت فيرا روبن وجود المادة المظلمة؟

الشابة فيرا روبن أثناء رصد النجوم قبل تخرجها في كلية فاسار، حيث نالت درجة الباكالوريوس في علم الفلك عام 1948 


مصدر الصورة: Archives & Special Collections, Vassar College Library


حفرت هذه الفلكية المشهورة عن جدارة مكانتها في التاريخ، ومع ذلك كان للجنة جائزة نوبل وجهة نظر أخرى ، فما السر وراء ذلك ؟

 

في أواخر سبعينيات القرن الماضي، كان كل من فيرا روبن Vera Rubin وكنت فورد Kent Ford من معهد كارنيجي في واشنطن يحدقان بإمعان ممزوج بالحيرة في بطاقتهما المثقبة الناتجة عن عمليات رصد مجرة أندروميدا Andromeda galaxy، فقد بدت الأشكال الحلزونية الواسعة الامتداد وكأنها تدور على نحو خطأ ، كما أن الأجسام عند الأطراف كانت تتحرك بسرعة مماثلة للسرعة التي تتحرك بها الأجسام في المركز، وظاهريًا، كان هذا الأمر مخالفًا لقوانين نيوتن في الحركة (التي تحكم أيضًا حركة الكواكب حول الشمس). ورغم أنَّ تفسير هذا السلوك لم يتَّضح لروبن إلا بعد عامين من ذلك ، فقد قدمت هذه النتائج المطبوعة أول دليل على وجود المادة المظلمة.

أما الآن، فالعلماء يعرفون أن المادة المظلمة تؤلف ما يقارب 84 % من المادة في الكون، إذ تتدافع جزيئاتها غير المرئية وتسبح وتصطدم عبر الكون بأكمله. وهي تؤثر على كيفية حركة النجوم ضمن المجرات، وكيفية انجذاب المجرات نحو بعضها البعض، وفي المقام الأول تؤثر على الطريقة التي تجتمع فيها هذه المادة كلها مع بعضها. إذ تمثل في الكون ما يمثله الهواء في الأرض بالنسبة للإنسان، فهي ضرورة ملازمة وغير مرئية، غير أنها محسوسة.

 

ويستحق اكتشاف هذه المادة الغريبة جائزة نوبل، لكن الأمر مختلف بالنسبة لروبن؛ فلم يحصل شيء من هذا، على الرغم من كونها الفضلى ولفترة طويلة وكان من المتوقع فوزها بالجائزة .


ففي السنوات القليلة الماضية، حصل علماء على تلك الرحلة المجانية إلى السويد لإيضاحهم أن النيوترون مادة لها كتلة، ولاختراعهم المصابيح الضوئية الزرقاء، ولعزلهم طبقات الكربون الغرافيني، ولاكتشافهم الطاقة المظلمة. هذه الأفكار جميعها تستحق الثناء والمكافأة، كما اعتبر بعضها – كالطاقة المظلمة – عنوانا لمحور فهمنا للكون، ولكن بدا العمل على الغرافين في العام 2004، أما رصد الطاقة المظلمة فقد حدث في أواخر التسعينيات، وحدد العلماء كتلة النيوترون في تلك الآونة تقريبا، وظهرت المصابيح الزرقاء قبل بضع سنوات من ذلك .

 

أما أعمال روبن حول المادة المظلمة فحدثت في أواخر السبعينيات. ويبدو أن ملاحظة هذه الأعمال أمر يفوق مدى رؤية اللجنة ، على الرغم من أن معظم الفيزيائيين الفلكيين كان لديهم الإحساس بقدرها.


عمر روبن الآن 87 عاما، وتتردد بشدة بشأن إجراء المقابلات، ولأن جائزة نوبل تُمنح للأحياء فقط، فالوقت ينفد منها. تقول إيميلي ليفيسك Emily Levesque، الفلكية من جامعة واشنطن في سياتل، والتي جاهرت بفقدان روبن الملحوظ لجائزة نوبل: "إن وجود المادة المظلمة أحدث ثورة كلية في مفاهيمنا عن الكون، وفي مجالنا بشكل تام، والجهد المستمر لإدراك دور المادة المظلمة ولد ميادين فرعية كاملة في الفيزياء الفلكية وفيزياء الجسيمات في هذا المجال. وتصف وصية ألفريد نوبل جائزته في الفيزياء بأنها تمييزٌ للاكتشاف الأكثر أهمية في مجال الفيزياء. فإذا لم يكن هذا الوصف ينطبق على المادة المظلمة ، فعلى أي شيء آخر ينطبق ؟"


ولا سبيل لمعرفة سبب بقاء روبن بدون الجائزة. بينما نجد إحدى صفحات الانترنت تظهر لنا فائزين سابقين يبدون مثل فتيان المدارس الإعدادية المُعاد لم شملهم للمرة الخمسين ، في حين لم تنل أية امرأة جائزة نوبل في الفيزياء منذ العام 1963 حيث قاسمتها حينئذ ماريا جويبرث ماير Maria Goeppert Mayer مع يوجين ويجنر Eugene Wigner و ج. هانس جينسن Hans Jensen لقاء عملهم على البنية الذرية والنظرية الذرية. ما عدا ماير فقد نالتها امرأة أخرى هي ماري كوري Marie Curie. وبإحصائيات كهذه، يصعب التصديق بان الجنس لا يؤثر أبدا على اتخاذ القرار.


ودعا البعض، كتشاندرا بريسكود- فينشتاين Chanda Prescod-Weinstein من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إلى عدم قبول أي من الرجال للجائزة إلى حين منحها لروبن. ولكن بأخذ الغرور الإنساني بعين الاعتبار وما يقارب جائزة المليون دولار، يبقي ذلك موضع الدعوات على الانترنت أكثر من أن تصبح فعلًا.

 
لا مكان للنساء 

أكثر أشكال التمييز التي عانتها روبن علنًا كانت من لجنة جائزة نوبل، إلا أنَّها عرفت أشكالا أخرى من التمييز أيضًا، فقد روت زميلتها السابقة نيتا باكول Neta Bahcall من جامعة برينستون إحدى الروايات عن رحلة لروبن إلى مرصد بالومارPalomar Observatory خارج سان دييغو في وقت مبكر من حياتها الوظيفية. ولعدة سنوات، كان المرصد مغارة للباحثين الرجال. وكانت روبن من أوليات النساء اللواتي سمح لهن بالوصول إلى عموده ذي الحدين المنحوت بالذهب. ولكن في الوقت الذي سُمح فيه بوجودها، لم يكن في المبنى غرف استراحة للنساء، ووجدت فقط دورات مياه بمبولة.


وتضيف:" لقد ذهبت إلى غرفتها، وقصت ورقة على شكل تنورة، لتلصقها على صورة صغيرة لشخص على باب الحمام ، حيث كتبت (حسناً ، الآن لديكم حمامات للسيدات) ، كانت فيرا من هذا النوع ."


وواصلت روبن مناصرتها لحقوق المرأة- ولحقوقها داخل علم الفلك- وتواصل باكول : "وكثيرا ما كانت تتفرّس قائمة المتحدثين في المؤتمر، فتجد قلة أو قد لا تجد متحدثات من النساء مطلقـًا ، فتبلغ المنظمين بأن لديهم مشكلة ينبغي حلها."


" لقد طفح الكيل، إذ المشكلة أنه لا شيء يتغير، أو قد يتغير ببطء." هذا ما صرحت به للكاتبة العلمية آن فيكبينييرAnn Finkbeiner من مجلة علم الفلك Astronomy في العام 2000.

بداية مبكرة 


ولدت روبن عام 1928، وبداية اهتمامها بعلم الفلك كانت منذ انتقال عائلتها إلى واشنطن، العاصمة، حيث اصطفت النوافذ على الجدار المقابل لسريرها، فكانت تراقب النجوم وهي تتحرك، قصّية وبعيدة المنال. وقد قالت لدافيد ديفوركن David DeVorkin عام 1995 في جزء من سلسلة التاريخ الشفوي للمعهد الأمريكي للفيزياء : "ما سحرني هو أنني حين كنت أفتح عينيّ ليلا كانت النجوم جميعها تتعاقب حول القطب، وجدت ذلك لا يصدق وهذا ما أسرني."


بدأت بمراقبة زخات الشهب ، ورسمت خرائط للخطوط التي أضاءت السماء ثانية و انطفأت. وصنعت تلسكوبا واختارت مواضيع فلكية لمواضيع حصة اللغة الانجليزية، معتبرة كل موضوع فرصة للنظر بشكل أعمق في الكون ، إذ كانت تتساءل دوما وأعادت ذلك لديفوركن: "كيف يمكن أن تحيا على هذه الأرض بدون رغبة في معرفة هذه الأمور؟"


و في الوقت الذي دعمها فيه والداها، كانت القصة مختلفة في المدرسة، فعلى سبيل المثال، عندما أخبرها مدرس الفيزياء عن تلقيها منحة دراسية من كلية فاسار Vassar أجاب: "ستبقين بخير، طالما تبقين بعيدة عن العلم!!!"


إلا أنها لم تفعل.....

 

روبن وكينت فورد - ذو القبعة البيضاء- يتفحصان أجهزتهما في مرصد لويل عام 1965 أثناء إحدى عمليات الرصد التي قاما بها سويا مصدر الصورة: Carnegie Institution, Department of Terrestrial Magnetism
روبن وكينت فورد - ذو القبعة البيضاء- يتفحصان أجهزتهما في مرصد لويل عام 1965 أثناء إحدى عمليات الرصد التي قاما بها سويا مصدر الصورة: Carnegie Institution, Department of Terrestrial Magnetism


 دوران الكون 

بعد نيلها درجة الباكالوريوس في جامعة فاسار، التحقت روبن بكلية [طلبة الدراسات في علم الفلك] في جامعة كورنيل في إيثاكا، نيويورك. وأثناء استغراقها في وديان إيثاكا وعملها مع الفلكية مارثا ستار كارينترMartha Stahr Carpenter، بدأت روبن بالبحث عن فكرة لتعمل عليها من أجل عرض الماجستير، كانت مارثا مهووسة بالمجرات وكيفية عمل أجزائها الداخلية، وتقول روبن عن ذلك: "وجهني منهج حركية المجرة بالفعل في الطريق الذي سلكته في سائر مسيرتي المهنية."


وذات يوم، قدم لها زوجها الجديد، روبرت روبن Robert Rubin مقالاً صحفيًا كتبه عالم الفلك جورج غامو George Gamow، وفيه يتساءل غامو: "ماذا لو طبقنا الطريقة التي تدور بها الأنظمة الشمسية على دوران المجرات في الكون؟"


وتساءلت روبن: "ما الذي سيكون حقا؟" وخطت بهذا التساؤل خطوات أبعد، فبدأت بمراقبة حركة المجرات. هل من الممكن أن تدور بعض العناقيد المجرية أثناء انتقالها مع بعضها في الكون حول قطب، كما تدور الكواكب حول الشمس؟ هل ذلك ممكن؟ هل كان ذلك عشوائيا؟


وأثناء جمعها للبيانات، وجدت منطقة أكثر كثافة بالمجرات من المناطق الأخرى. لم تكن تعرف ماهيتها في ذلك الوقت، ولم يكتشفها أحد بعد ذلك عدة سنوات، ولكنها حددت (المنطقة المجرية الضخمة) والتي تشكل خط الاستواء لعنقود المجرات الفائق الذي نحن فيه.


وحين قدمت أطروحتها، قال لها ويليام شو William Shaw أحد مرشديها أمرين فقط، الأول: أن كلمة بيانات جمع وليست مفردة، والثاني: أن عملها كان فوضويًا. ولكنه أضاف ، إن عليها تقديم عملها في اجتماع الجمعية الفلكية الأمريكية (AAS)، أو يمكنها أن تطلب من أحد أن يقدم عملها نيابة عنها. ولأنها كانت حاملا بطفلها الأول، وموعد الولادة قبل الاجتماع بشهر، كما أنها ليست عضوًا في الجمعية، تطوع شو ليقدم مؤتمرًا عن نتائجها، وأوضحت لديفوركن: "طلب أن يتحدث باسمه وليس باسمي، حينها قلت له: يمكنني أن أذهب إلى المؤتمر وأقدمه بنفسي."


كان عنوان خطابها (دوران الكون) والذي يندرج تحت العنوان الطموح (حماس الشباب)، كما تذكر. لم تكن تعرف أحدا في اجتماع الجمعية، الأمر الذي جعلها تظن نفسها تنتمي إلى تصنيف جديد للبشر، وتقول حول ذلك: "لقد وضعت هؤلاء الناس في طبقة خاصة جدًا، إذ كانوا فلكيين محترفين، الأمر الذي لم يكن ينطبق علي"


مما جعلها تبدي حالة طبيعية من متلازمة عدم التصديق أو الاحتيال والخداع، وهي الظاهرة الطبيعية التي لا يشعر فيها البشر باستحقاقهم لإنجازاتهم ومكانتهم، فيفضح أمرهم في النهاية باعتبارهم مخادعين. وتتابع روبن:" أحد مشكلاتي الكبرى خلال تلك السنوات هي محاولتي الجادة للإجابة عن سؤالي الداخلي: هل سأصبح يومًا ما عالمة فلك بحق؟"


حسنا، لقد انقض (الفلكيون الحقيقيون) على نتائجها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مارتن سوارتشيلد Martin Schwarzschild، الذي وضّح مدى كبر حجم الثقوب السوداء كان استثناء من ذلك ، وتذكر في ذلك لديفوركن: "تلا ورقتي مناقشة حادة نوعـًا ما، لم أكن أعرف أحدًا، وبالتالي لم أعرف من هؤلاء الناس الذين كانوا ينهضون لقول ما قالوه، وكما أذكر، كانت كل التعليقات سلبية."


ولم ينشر بحثها أبدًا


عودة إلى الميدان 

لزمت روبن منزلها بعد ولادة طفلها الأول لمدة ستة أشهر. ولكن في الوقت الذي أحبت فيه أن تكون أمًا، جعلها البقاء في المنزل تشعر بالفراغ، فبكت وكانت تبكي كلما وصلت دورية الفيزياء الفلكية إلى منزلها، وفي حديثها لديفوركن نفسه تقول: "لقد أدركت أنه بالمقدار الذي أحببنا كلانا فيه الطفل، لم يكن يخطر في ذهني أن أتوقع أن زوجي، سيخرج كل يوم إلى العمل ليفعل ما يحبه، وأنه سيكون علي البقاء في المنزل مع هذا الطفل المحبب، لقد وجدت ذلك صعبًا، صعبًا جدًا. وكان هو من أصر على عودتي للدراسة."

وقُبلت في برنامج درجة الدكتوراه في جامعة جورج تاون في العاصمة واشنطن، واكتشفت أن المجرات تتجمع بالفعل مع بعضها البعض، كبرادة الحديد، ولم يكن تدافعها فوضويا. وقُوبل عملها بالتجاهل لعقود، على الرغم من كونه الآن جزءا من التيار الرئيس في علم الفلك ، ومن الممكن أن يكون غياب الدعم والتشجيع قد ساهم في شعورها الطويل والمزيف بعدم كونها عالمة فلك حقيقية. 


إذ تصف الأمر كذلك : "لطالما سمع زوجي سؤالي، هل سأصبح يوما بحق عالمة فلك؟ فكرت أنني سأصبح كذلك بعد نيلي درجة الدكتوراه، لكن بعد نيلي درجة الدكتوراه ، بقيت أتساءل عما إذا كنت سأغدو عالمة فلك حقيقية."

روبن تشغل التلسكوب ذا قطر المترين وواحد من عشرة ، في مرصد كيت بيك الوطني، وكان مطياف كنت فورد متصلا بالتلسكوب وبالتالي كان بإمكانهم قياس سرعة المادة عند أبعاد مختلفة من مراكز المجرات.
روبن تشغل التلسكوب ذا قطر المترين وواحد من عشرة ، في مرصد كيت بيك الوطني، وكان مطياف كنت فورد متصلا بالتلسكوب وبالتالي كان بإمكانهم قياس سرعة المادة عند أبعاد مختلفة من مراكز المجرات.


 المسطح الغامض 


في عام 1965، وبعد أداء عملها أستاذة ً في جامعة جورج تاون، بدأت روبن عملها في دائرة المغناطيسية الأرضية في معهد كارنيجي في العاصمة واشنطن، حيث التقت الفلكي كنت فورد بمطيافه المذهل، والذي كان ذا حساسية أعلى من غيره في ذلك الوقت. 


يأخذ المطياف الضوء، ويجزئه إلى أطواله الموجية الأساسية. فعلى سبيل المثال، بدلاً من إظهار توهج الأنبوب الفلوري الأبيض فحسب، سيظهر لك هذا المطياف مقدار الضوء الأزرق في هذا الضوء و مقدار مكونه الأصفر، و الأطوال الموجية الخاصة باللون الأزرق والأصفر. 


وتميز مطياف فورد عن بقية مطاييف تلك الفترة ، إذ وظف المضخمات الضوئية الأحدث في تلك الفترة والتي سمحت للباحثين بدراسة مناطق المجرات الصغيرة، فلم تقتصر الدراسة ببساطة على الأجسام الكبيرة إجمالاً.


ومع هذا الجهاز قرر كل من روبن وفورد التركيز على الكوازارات quasars، وهي المجرات البعيدة ذات الثقوب السوداء فائقة الكتلة في مركزها، إلا أن هذا العمل حمل صبغة تنافسية، فقد اكتشفت الكوازارات في العام 1963 وكانت هويتها في تلك الأيام لغزا أراد الجميع حله. ولم يكن لروبن وفورد تلسكوبهما الخاص وكان عليهما طلب وقت لاستخدام المعدات العالمية التي كان يسمح للفلكيين الذين عملوا مباشرة لصالح المراصد بالوصول إليها متى شاءوا.

 

ولم ترُق لروبن تلك المنافسة

 

وفي مقابلة أخرى أثناء التأريخ الشفوي لمعهد أمريكي آخر في الفيزياء، صرحت روبن لآلان لايتمان Alan Lightman : "بعد عام أو اثنين من ذلك الوقت، كان من الواضح جدًا بالنسبة لي أن تلك لم تكن الطريقة التي أردت العمل بها، فقررت افتعال مشكلة لأتمكن من الذهاب والرصد وشق طريقي قـُدُمًا، وكلي أمل بأن هذه المشكلة ستثير اهتمام الناس، ولكن ليس إلى الحد الذي كان سيزعجني به أحدهم قبل قيامي بذلك" . 

واختار كل من روبن وفورد التركيز على المجرة المجاورة أندروميدا M31، ومثل ذلك عودة روبن إلى الاهتمام بحركة المجرة، وتضيف روبن: "لقد استنتج الناس كيف ينبغي أن تكون حركة المجرات، إلا أن أحدًا لم يُجر دراسة مفصلة لإثبات أنها كانت كذلك فعلا"، ويعود الفضل إلى مطياف فورد الاستثنائي، إذ تمكنوا من تحويل الاستنتاجات إلى عمليات رصد.

ولدى توجيههما التلسكوب نحو المجرة M31، توقعا مشاهدتها تدور بطريقة مشابهة لدوران النظام الشمسي، فالأجسام القريبة من المركز تتحرك بصورة أسرع من تلك القريبة من الحافة. إذ تتسبب الكتلة بوجود الجاذبية، وهي التي تحدد سرعة الدوران. وبما أن بعض النجوم والغبار والذرات -\وبالتالي الجاذبية- تتجمع في مركز المجرات، لا ينبغي أن تعاني الأجسام على المحيط الكثير من الجذب. وركزوا عمليات رصدهم على مناطق الهيدروجين -2 -وهي الأماكن التي تأين فيها غاز الهيدروجين حيث تشكلت النجوم فيها مؤخرًا- وعلى مسافات مختلفة من مركز المجرة.

ولكن مهما كان البعد الذي نظروا إليه كانت تبدو المناطق متحركة بالسرعة نفسها، ولم تكن تتباطأ. ويقول فورد: "تابعنا المضي قـُدُمًا أبعد فأبعد وانتابتنا بعض الخيبة إذ لم نشاهد شيئا "، وتضيف روبن إلى ذلك : "اذكر حيرتي في نهاية ليلتين حين كانت الأطياف جميعها مستقيمة "، وهي تشير بذلك إلى السرعة غير المتغيرة في مختلف مناطق الهيدروجين المتأين في المجرة.

لم يعرفا معنى ذلك، إن كان يعني شيئا حتى الآن.

واستمر المشروع لسنوات وتضمن رحلات شاقة نحو الغرب من أجل التلسكوبات. ويسترجع فورد رحلات الطيران إلى فلاغستاف في أريزونا، حين كان يخرج مطيافه من حجرته ، ليعمل عدة ليال في لويل، ومن ثم يلقي معداته ثانية في إحدى الضواحي ، ليتمكنا من الوصول إلى كيت بيك. ويضيف: "اعتقد كل منا أنه كان الأفضل في توجيه التلسكوب " إذ تسابقا كلاهما ليكون الأول عند عدسة التلسكوب.

وخرجت البيانات على بطاقات مثقبة، حيث قضت روبن ساعات في تحليلها في مكان مقفل تحت مجموعة من السلالم ، لتظهر جميعها الأمر نفسه. وانتقل كل من روبن وفورد من اختبار المجرة M31 إلى مجرات أخرى ومنحنيات دورانها. مثل الفنان المفتون ، طبعت كل صورة الشكل نفسه. وعلى الرغم من تعارض النتائج مع النظرية ، وعدم فهمهما لما كانت تعنيه، لم يشكك أحد في نتائجهما. وتقول روبن للايتمان: "كل ما كان عليك فعله هو أن تظهر لهم صور المطياف ، فقد تراكمت بسرعة، وسرعان ما أصبح لدينا 20 ثم 40 ثم 60 منحنى دوران وكانت كلها مستوية.


 إجابة مظلمة

 وُجدت المادة المظلمة كمفهوم ، وأوَّل من افترض وجودها فلكيان هما جان أورت Jan Oort في عام 1932 وفريتز زويكي Fritz Zwicky في عام 1933، اللذان لاحظا تناقضات في مقدار الكتلة التي أمكن للفلكيين مشاهدتها والمقدار الذي قدرت الفيزياء وجوده. إلا أنه لم يعر أعمالهم انتباهًا إلا قلة، لتكتب أعمالهم بشكل جانبي كشذوذات كونية ليس أكثر. ولم يحصل أحد قبل ذلك على دليل عليها، ولأن أحداً لم يتوقع ما قد تعنيه المادة المظلمة بالنسبة لنشاط المجرات ؛ لم يعرف فورد وروبن في البداية معنى منحنيات دورانهم المستوية.

وقالت روبن للصحفية ماريا بوبوفا Maria Popova: "مضت أشهر وأنا أحاول فهم ما كنت أنظر إليه، وأحد هذه الأيام قررت أنه علي فهم هذه التعقيدات التي أنظر إليها ، ورسمت مخططات على قصاصة ورقية، وفجأة أدركت كل شيء."


في حال أحاطت هالة من المادة المظلمة كل مجرة ، ستنتشر الكتلة عبر المجرة، بدلًا من تركزها في المركز، وستكون القوة الثقالية والسرعة المدارية هي نفسها عبر المجرة. اكتشفت روبن وفورد أشياء غير ممكن رؤيتها والتي تؤثر ليس على حركة المجرات فحسب، بل على كيفية نشوء الكون وما سيصبح عليه. وتقول ليفينسك: " لقد سلط عملي الضوء بشكل كامل على مقدار جوهرية المادة المظلمة في فهمنا الحالي للفيزياء الفلكية، ومن الصعب علي تخيل هذا الميدان أو هذا الكون بدونها."


وعلى مدى سنوات من عمليات رصد M31، قدم فيزيائيون كجيرمي أوستريكر Jeremiah Ostriker وجيمس بيبلس James Peebles الإطار النظري الذي يدعم ما أظهره كل من فورد وروبن، لتستقر المادة المظلمة وبثبات في مكانها المرموق في الكون.


وفي السنوات الأخيرة ، قاس القمر الصناعي بلانك Planck محتوى المادة المظلمة في الكون وذلك عبر البحث في الخلفية الكونية من الأشعة الميكروية [متناهية الصغر]، وهي الإشعاع المتخلف عن الانفجار الأعظم ، وتطورت صورة الكون الصغيرة ذات المجموعات المادية إلى العناقيد المجرية فائقة الكتلة التي نراها اليوم ، حيث كانت المادة المظلمة هي أول ما تجمع لتشد المادة النظامية إلى بعضها البعض.


وتؤكد البيانات من العناقيد المجرية اليوم وجود المادة المظلمة وتساعد العلماء على قياس كميتها في مجموعة معينة- وذلك صدى جديد لعمل زويكي المنسي. فعند مرور الضوء القادم من أماكن بعيدة بالقرب من عنقود، تقوم الجاذبية- الناتجة عن العنقود ذي الكتلة الضخمة - بحني الضوء كما تفعل العدسة، ويكشف مقدار الانحناء كمية المادة المظلمة.


فأيًا كانت الطريقة أو المكان الذي يختبر فيه العلماء اكتشاف روبن، يبقى عظيمًا. وبينما لا يعرف أحد ماهية المادة المظلمة كلها، اكتشف العلماء أن أجزاءً صغيرة منها تتألف من النيوترينو - وهي جسيمات صغيرة وسريعة الحركة لا تتفاعل فعليا مع المادة الاعتيادية. 


وستساعد القياسات التي أجرتها اختبارات POLARBEAR في تشيلي و BICEP2و BICEP3 في القطب الجنوبي في تحديد مقدار النيترينو الذي يعبر الكون وكم يؤلف من المادة المظلمة. وتحاول بعض المعدات، كمختبر غران ساسو الوطني في إيطاليا ومختبر الهندسة وعلوم أعماق الأرض في داكوتا الجنوبية استكشاف جسيمات المادة المظلمة بشكل مباشر، عند اصطدامها بالذرات في أوعية تبريد ممتلئة بالغازات النادرة المسيّلة.

وحتى الآن، لم يتم الترتيب لالتقاط جزيئات مادة مظلمة فعليا، إلا أنها تدخل في حسبان الباحثين - مهما تكن- لدى تفكيرهم في كيفية تطور الكون. من المحتمل أن تكون لجنة جائزة نوبل قد أهملت روبن، فمروا بها كما لو كانوا لا يرون ما يراه جميع الفيزيائيين الفلكيين، إلا أنَّ ذلك لن ينال من إرثها، على حد تعبير ليفينسك، وسينال من إرث جائزة نوبل نفسها وستفتقر دوما إلى إقرارها بمثل هذا العمل الرائد.

لم تتحدث روبن نفسها عن استحقاقها لجائزة نوبل، وتابعت ببساطة أعمالها العلمية حتى الآونة الأخيرة. ودومًا كانت تؤثر في ظهور وتطور ومسيرة علماء آخرين، إذ تقول باكول: "في حال عدم حصولهم على عمل أو عدم نشر ورقة لهم، كانت تعمل على رفع معنوياتهم، إذ كانت تواصل رواية قصتها في الصعود والهبوط مع بقائها عالقة بعمل تحبه وتواصل أداءه.


وأحبت روبن محاولة فهمها الكون، وبفعلها ذلك ، غيرت فهم الجميع له. ويحمل ذلك في طياته وزنـًا أكبر من بعض الميداليات من السويد، ولكن لنترك للسويد الاعتراف بما تستحقه هذه الجائزة

 
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الكوازارات أو أشباه النجوم (quasars): هي عبارة عن مجرات لامعة جداً وبعيدة جداً، ويُعتقد ان لمعانها ناجم عن قيام ثقب أسود فائق الكتلة وموجود في مركزها بابتلاع المادة.
  • المجرة (galaxy): عبارة عن أحد مكونات كوننا. تتكون المجرة من الغاز وعدد كبير (في العادة، أكثر من مليون) من النجوم التي ترتبط مع بعضها البعض، بوساطة قوة الجاذبية. و عندما تبدأ الكلمة بحرف كبير، تُشير Galaxy إلى مجرتنا درب التبانة. المصدر: ناسا
  • الأيونات أو الشوارد (Ions): الأيون أو الشاردة هو عبارة عن ذرة تم تجريدها من الكترون أو أكثر، مما يُعطيها شحنة موجبة.وتسمى أيوناً موجباً، وقد تكون ذرة اكتسبت الكتروناً أو أكثر فتصبح ذات شحنة سالبة وتسمى أيوناً سالباً

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات