هل ستقضي التكنولوجيا فعلًا على المزيد من الوظائف أكثر من أي وقت مضى؟

لا داعي للخوف!

قد تكون سمعت بعبارة الروبوتات سوف تستولي على عملك! إنها عبارةٌ لازمةٌ ومتكررةٌ نُشرت في عناوين مقالات وخطب الكثير من المشاهير أمثال إيلون ماسك وستيفن هوكينغ. ويتوقع بعض الخبراء أن يكون ما بين 38 إلى 57 في المئة من الوظائف ستُشغل آليًا في العقود القليلة القادمة، وهذا يعتمد على من وُجّه له السؤال، فالوظائف لا تقتصر على صناعةٍ واحدةٍ.

وفقًا لتقرير صدر مؤخرًا عن تقريرٍ تلفزيونيٍّ لشبكة بي أس أم إن نظام التشغيل الآلي يُهدد بالقضاء على الوظائف أو الحد منها مثل موظفيّ الانتظار وسائقي الشاحنات وعمال المصانع والمحاسبين وأمناء الصندوق وموظفيّ البيع بالتجزئة. بالنسبة للخبراء الآخرين فإن هذه التنبؤات المروعة مبالغٌ فيها بل والأسوأ من ذلك إنهم يخشون من أن تُبطِئ مثل هذه التحذيرات من التقدم في الابتكار وتترك المجتمع بحالٍ أسوأ.


قرر اقتصاديان من مؤسسة تكنولوجيا المعلومات والابتكار (إيتيف) (Information Technology and Innovation Foundation (ITIF حسم الجدل نهائيًا، ففي أيار/مايو نشر روبرت أتكينسون Robert Atkinson وجون وو John Wu تقريرًا بعنوان "الإنذار الكاذب: الاضطراب التكنولوجي وسوق العمل في الولايات المتحدة ما بين عامي 1850-2015". من خلال تحليل البيانات حول الاتجاهات المهنية لعموم التعداد الرسمي لسكان لولايات المتحدة على مدى 165 عامًا الماضية ، وخلص الثنائي إلى أن تلك التنبؤات المظلمة للعمالة المستقبلية تستند إلى منطقٍ خاطئٍ وتحليلاتٍ غير صحيحةٍ.

وركز الباحثان في تقريرهم على تحديد الزيادة والنقصان في المهن التي يمكن أن تُعزى إلى الابتكارات التكنولوجية. فعلى سبيل المثال، حُدّدت الزيادة الكبيرة في عدد عمال إصلاح السيارات بعد إنتاج السيارة موديل تي T وانخفاض عدد العاملين في المنازل بعد اختراع الغسالة، هذان المثالان هما عينةٌ عن التغيير الناجم بسبب التكنولوجيا.

اعترف الباحثان في هذا التقرير بأن هذه الطريقة لتحديد ما إذا كانت التكنولوجيا قد أثرت على نموٍ أو تراجعٍ في عدد الوظائف هي دعوةٌ واضحةٌ لإصدار أحكامٍ تبقى قابلةً للأخطاء".


استنادًا إلى هذه المنهجية فقد توصل أتكينسون و وو إلى ثلاثة استنتاجاتٍ أساسيةٍ:


أولًا: إن العدد الإجمالي للوظائف قد تغير بنسبةٍ قليلةٍ جدًّا على مدى العشرين سنةً الماضية.

ثانيًا: إن النمو في الصناعات الحالية عوّض عن الوظائف التي فُقدت بسبب التشغيل الآلي، فعلى سبيل المثال فإن
المصانع استبدلت الآلات بالعمال علي الجانب الإنتاجي، ولكنها استثمرت الأموال التي وفرتها في وظائف جديدةٍ في المبيعات والتسويق.

ثالثًا: ما بين عامي 2010 و2015 فقدت الولايات المتحدة العدد الأقل من الوظائف لصالح التشغيل الآلي.

إن العديد من الخبراء قد أيدوا ما جاء في تقرير الباحثَين. وقد أشاد التقني الاستراتيجي سيمون واردلى Simon Wardley بالتقرير واصفًا إياه بأنه "قراءةٌ رائعةٌ". كما مدح الصحفي في الاقتصاد وإدارة الأعمال روبرت ج. سامويلسون Robert J. Samuelson التقرير لتذكيره القرّاء بأنه قد تم الاستغناء عن جميع المهن في الماضي ولم يغرق المجتمع في البطالة.
 

نخسر اليوم بعض الوظائف أكثر من أي وقت خلال المئة وخمسين سنة الماضية  عمود بياني يمثل درجة التغيرات المهنية  المصدر: أتنكسون – أر دي أت أل -2017 آي تي آي أف
نخسر اليوم بعض الوظائف أكثر من أي وقت خلال المئة وخمسين سنة الماضية عمود بياني يمثل درجة التغيرات المهنية المصدر: أتنكسون – أر دي أت أل -2017 آي تي آي أف


يوافق آخرون بأن التاريخ يُعتبر سببًا جيدًا جدًّا لتكون مُرتابًا ومشككًا حول فكرة أنّ التكنولوجيا تؤدي إلى خسارة الوظائف على نطاق واسع.

يقول روبرت فريدل Robert Friedel، أستاذ تاريخ التكنولوجيا والعلوم في جامعة ميريلاند في مقابلة مع ميري تاك MeriTalk، وهو موقعٌ مكرسٌ لخبراء تكنولوجيا المعلومات الحكومية: "الحقيقة هي أن هناك موجاتٍ من التغيير التاريخي في التكنولوجيا والكثير من الشد والجذب ولا شيءٌ حتميًّا حولها"، ويضيف: "ليس لدينا أي سببٍ على الإطلاق للإشارة إلى إن هذا النمط سوف ينهار بشكلٍ دائمٍ".

موقف خاطئ


لقد لاحظ كلٌّ من أتكينسون و وو إن هناك عواقبَ حقيقيةً بسبب الاعتقاد بتلك التوقعات المشؤومة. في الواقع إن مثل هذه التحذيرات حول الاضطرابات التكنولوجية يمكن أن تكون في نهاية المطاف ضارةً كفكرة هيمنة الروبوت نفسه.

يؤكد الباحثان في تقريرهما على إنه من الممكن أن يصبح الناس حذرين من التكنولوجيا إذا سمعوا أن أشخاصًا محطّ ثقةٍ يصرحون بأن الروبوتات قد تستولي على وظائفهم، وبالتالي يؤدي ذلك إلى توقف التقدم التكنولوجي، وفي نهاية المطاف يُمكن أن تتقبل البشرية موضوع العزوف عن الابتكار.

هذا الموقف المعادي للتكنولوجيا هو أبعد ما يكون عن موقف الرجعيين أو معارضي الآلات الذين برزوا بين عامي 1811 وَ 1813 فقد قاموا بتحطيم الآلات في إنكلترا احتجاجًا على نظام التشغيل الآلي. وفي عام 1830 هاجم عمال الزراعة البريطانيون آلات طحن القمح التي حولتهم إلى أشخاصٍ لا قيمةً لهم.


من الصعب تجاهل مثل هذه الأصداء في أيامنا هذه، ففي عام 2014 قام سائقو سيارات الأجرة في باريس بتمزيق إطارات سائقي سيارات شركة أوبر في محاولةٍ منهم لإبعادهم عن المنافسة التي تدعم التكنولوجيا. وقد حظرت بعض الحكومات تطبيقات ride-share apps الخاصة بتأجير سيارات الأجرة خوفًا من ترك سائقي سيارات الأجرة في حالةٍ من عدم الاستقرار والهزيمة، بينما يضع آخرون بالفعل تشريعاتٍ لحظر السيارات ذاتية القيادة خوفًا من أن يؤدي ذلك إلى فقدان المزيد من السائقين لوظائفهم.

وفي معرض ٍلتقريرهما، يحث أتكينسون وَ وو صناع القرار على تشجيع الإبداع التكنولوجي والرد على أيّ منظماتٍ أو عمالٍ يسعون إلى إعاقة ذلك. يبدو أن معظم قادة الفكر يوافقون على هذه الناحية. لقد كتب مارك زوكربيرج Mark Zuckerberg مقالًا في مجلة Wired يقول فيه: "إذا قمنا بإبطاء عجلة التقدم من أجل الخضوع لمخاوف لا أساس لها فإننا نقف في طريق المكاسب الحقيقية". من جانبه قال بيل غيتس Bill Gates في تصريحٍ له للكوارتز Quartz: "يمكن أن يفوت المجتمع على نفسه الأثر الإيجابي للتكنولوجيا إذ أن الخوف ينسف الحماس ويمنع الابتكار".

على المنظمين وقادة الصناعة بعد ذلك أن يسيروا باتجاهٍ واضحٍ ودقيقٍ، ينبغي دعم التقدّم التكنولوجي ومساعدة المجتمع على اعتماده و تبنيه. وفي نفس الوقت سيكون من الحماقة عدم الاستعداد لإمكانية أنّ يحل التشغيل الآلي محل الملايين من العمال.


الاستعداد يبدأ من الأعلى


لقد دون أتكينسون وَ وو في تقريرهما إنه على قادة الحكومات أنّ يترأسوا هذه التحضيرات، وإذا أدى التشغيل الآلي إلى تعطيل القوى العاملة بشكلٍ عميقٍ سيتعين على المشرعين النظر في السياسات التي من شأنها أن تخفف من هذا الاضطراب بشكلٍ أفضل. وقد اقترح بيل غيتس فرض الضرائب على الروبوتات.

أما آلان باربر Alan Barber، مدير السياسة المحلية في مركز البحوث الاقتصادية والسياسية فيعتقد أنه بإمكان مبادرات تقاسم العمل تقديم نوعٍ من المساعدة، في حين اقترح جيرليند ويسكيرشن Gerlind Wisskirchen نائب رئيس معهد التوظيف العالمي التابع لنقابة المحامين الدولية تخصيص حصصٍ بشريةٍ من شأنها أن تمنع خضوع بعض الوظائف للتشغيل الآلي مثل العاملين في مجال رياض الأطفال.

بإمكان الحكومات أيضًا أن تعزز البرامج التعليمية المصممة لتدريب العمال على الوظائف التي من المرجح أن تكون موجودةً في السنوات القادمة. وفي تقرير نُشر عام 2016 أشار رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين في إدارة أوباما إلى أن تعزيز المهارات التي يحتاجها العمال للحصول على وظائف هو أفضل وسيلةٍ لمنع البطالة الناجمة عن التكنولوجيا. وتحقيقًا لهذه الغاية يشير التقرير إلى التأكيد على دعم برامج التعليم الحر أس تي إي أم STEM في المدارس الابتدائية والثانوية حيث يوفر عامين من التعليم الجامعي والتثقيف المجاني للطلاب المجتهدين مع زيادةٍ كبيرةٍ في تمويل التدريب على العمل. وقد كتب ديفيد كيني نائب رئيس شركة آي بي إم IBM في واتسون في مقالةٍ نُشرت في مجلة Wired في وقتٍ سابقٍ من هذا العام بخصوص هذا الموضوع إن زيادة عدد البرامج التدريبية المتاحة للمواطنين الأمريكيين يمكن أن يغطي ما يقارب مليون وظيفةٍ بحلول عام 2020.

لقد حظي مفهوم الدخل
الأساسي العالمي يو بي آي Universal basic income UBI الذي يمكن القول بأنه كان مفهومًا هامشيًا في الولايات المتحدة لفترةٍ طويلةٍ من القرن المنصرم وحاز على قدرٍ كبيرٍ من الاهتمام في السنوات الأخيرة. وإذا استُبدِلت نظم التشغيل الآلي بجزءٍ كبيرٍ من القوى العاملة في العالم فإن هؤلاء الناس لن يكونوا قادرين على إعالة أنفسهم أوإعالة أسرهم في ظل البنية الاقتصادية الحالية. وفقًا لما ذكره باحثون في معهد روزفلت فان المؤيدين لمفهوم (يو بي آي) يعتقدون أنه لا يُوفر للمواطنين العاطلين عن العمل الجدد وسائل البقاء على قيد الحياة فقط بل يمكن أن يعود بالنفع على الاقتصاد ككلٍّ. وقد بدأت حكومتا كندا وفنلندا بالفعل بتطبيق برامج تجريبية لبرنامج يو بي آي، في حين تخطط شركة tech incubator Y Combinator للقيام باختبارٍ من مرحلتين في الولايات المتحدة لم تُسميَّا بعد.

إن أحداث التاريخ لا يمكن أن تحكم على المستقبل بطبيعة الحال، ومع إن التكنولوجيا لم تعطل في السابق القوى العاملة فهذا لا يعني أنها لن تفعل ذلك في المستقبل، وعلى الرغم من أننا لا نستطيع توقُّع كيفية تأثير التكنولوجيا على القوى العاملة في المستقبل، إلا أنه يمكننا البدء في تبني السياسات والمواقف الصحيحة عند، أو في حال حدوث، التغييرات.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات