حركة المشتري فسحت المجال أمام تشكُل الأرض

يبدو أن هناك شيئاً ما غير طبيعي في مجموعتنا الشمسية! إذ لسبب غير معروف، تدور معظم الكواكب الكُبرى على مسافة بعيدة نسبياً من الشمس، في حين أن العوالم الصخرية الصغيرة، بما في ذلك الأرض، تدور على مسافة قريبة منها.

لا ينطبق ذلك على كثير من المنظومات الكوكبية الأخرى التي اكتُشفت حتى الآن، فقد عُثر في بعض الحالات على ما يُدعى المُشتريات الحارة (hot Jupitors) ، وهي كواكب غازية عملاقة تجول قريباً من نجومها. وفي حالات أخرى شوهدت كواكب أكبر قليلاً من الأرض، ولكنها قريبة من نجومها لدرجة أنها غير قابلة للسكن.

 


فهل كانت مجموعتنا الشمسية تبدو على هذا الشكل في يوم من الأيام، أو هل كانت في بدايتها مختلفة قليلاً عما هي عليه اليوم؟


نظراً لأننا لم نكن موجودين في تلك الحقبة لنشهد تشكُل مجموعتنا الشمسية، قبل نحو 4.5 مليارات سنة، فإن المحاكاة الحاسوبية تُشكل الوسيلة الأفضل للكشف عن هذا السر، وتشير سلسلة جديدة من سيناريوهات المحاكاة الحاسوبية إلى أن المشتري ربما يكون قد تشكل في مدارٍ بعيد، ولكنه اجتاح المنطقة المدارية الحالية للأرض بشكل مؤقت قبل أن يهاجر مجدداً نحو الخارج.

من المحتمل أن كوكب المشتري قد تنقل بين مدارات متعددة في بداية تاريخ المجموعة الشمسية، مما سهّل تشكل الكواكب الصغيرة. المصدر: ناسا.
من المحتمل أن كوكب المشتري قد تنقل بين مدارات متعددة في بداية تاريخ المجموعة الشمسية، مما سهّل تشكل الكواكب الصغيرة. المصدر: ناسا.


يمكن لهذه النظرية أن تفسر سبب عثور المركبة كبلر (Kepler)، وهي بعثة ناسا المسؤولة عن اصطياد الكواكب التي تدور حول نجوم أخرى، على أنماط مختلفة من الأنظمة الكوكبية حول نجوم أخرى، حسب ما يقول قسطنطين باتيغين Konstantin Batygin، وهو الأستاذ المساعد في علوم الكواكب في معهد كاليفورنيا للتقانة، يقول باتيغين: "تدور الكواكب التي اكتشفتها كبلر أخيراً على مسافة قريبة من نجومها، بحيث تقل الفترة المدارية النموذجية عن 100 يوم، وهذه الكواكب أثقل من الأرض، غير أن الأمر المثير بالفعل هو أن هذه الكواكب غنية بالهيدروجين".

يشير وجود الهيدروجين في هذه الكواكب -على حدِّ قوله- إلى أنها قد حصلت عليه من سُحب الغاز الأصليَّة التي تشكلت المنظومة الكوكبية منها. ويردف باتيغين قائلاً: "يختلف ذلك بشكل مطلق عما هو الحال في المناطق الداخلية من مجموعتنا الشمسية، فالكواكب الأرضية هي كواكب فقيرة بالهيدروجين، والذي يمكن تفسيره على أنه إشارة إلى تشكل هذه الكواكب من قرص من المادة تَشكَل بعد مرحلة السحابة الغازية".

وقد نُشر في آذار/مارس بحثٌ حول هذا الموضوع بعنوان "الدور الحاسم للمشتري في المناطق الداخلية من المجموعة الشمسية في المراحل المُبكرة من تطورها" وذلك في مجلة Proceedings of the National Academy of Sciences.

على الرغم من العثور على كواكب بحجم الأرض في أنظمة كوكبية أخرى، فإن معظم هذه الكواكب تدور على مسافة قريبة للغاية من نجومها، بحيث لا يَسمح ذلك بوجود حياة عليها. المصدر: NASA/Ames/JPL-Caltech
على الرغم من العثور على كواكب بحجم الأرض في أنظمة كوكبية أخرى، فإن معظم هذه الكواكب تدور على مسافة قريبة للغاية من نجومها، بحيث لا يَسمح ذلك بوجود حياة عليها. المصدر: NASA/Ames/JPL-Caltech


تشكلت الشمس والكواكب، كما في المجموعات الشمسية الأخرى، من سحابة هائلة من الغاز والغبار، ويُعتقد أن برودة هذا الغاز وزوال الضغط الحراري باتجاه الخارج، والذي كان يمنع السحابة من الانهيار تحت تأثير ثقالتها هو الذي أدى إلى انهيار السحابة الغازية على بعضها وتشكل الشمس.

ومع الوقت بدأت حُبيبات الغبار ترتطم بعضها ببعض، وتتجمع بعضها فوق بعض، لتتحول إلى صخور، وهذه نمت بدورها تدريجياً من خلال الارتطامات المتكررة، لتتشكل بذلك النوى الصخرية لكواكب المجموعة الشمسية. وفي الوقت نفسه بقيت سحابةُ الغاز موجودة لبضعة ملايين من السنين على الأقل، مما وفَّر كمية كبيرة من المادة لتشكُل الكواكب الغازية الكبيرة وأغلفتها الجوية.

ولكن لا تزال هناك بعضُ الأسئلة حول نظرية تشكُل المجموعة الشمسية، حيث كان العلماء في الماضي يعتقدون أن الكواكب الصخرية الأقرب من الشمس قد تَشكلت في الوقت نفسه الذي تشكلت فيه العمالقةُ الغازية، وبذلك فإن الغاز، ولسببٍ ما، لم يكن متوافراً في المناطق الداخلية من النظام الشمسي، على الرغم من أنه كان متوافراً في المناطق الخارجية منها، وقد كانت الفكرة السائدة هي أن طاقة الشمس قد شتتت الغاز القريب منها، مما جعله غير متوافر في المناطق الواقعة داخل مدار كوكب المشتري. فإذن كيف يمكن للغاز أن يتوافر في المناطق القريبة من النجم في الأنظمة الكوكبية الأخرى؟

بحسب السيناريو الذي طرحه باتيغين لا يوجد إلا تفسير واحد: في البداية تَشكل المشتري، ثم اقترب من الشمس بسبب التفاعلات المدّية مع الغاز. بعد ذلك تشكل زحل وبدأ بسحب المشتري باتجاه مداره الحالي من خلال تفاعل معقد بين الجاذبية والقرص الكوكبي.

يقول باتيغين: "على الأرجح أن كوكب المشتري قد تشكل في نقطة تقع بعدَ خط التجمد نسبة إلى السديم الشمسي، وذلك على مسافة تبلغ -على الأقل- ثلاثة أرباع وحدة فلكية (Astronomical Unit)، وهي وحدة تُعبر عن المسافة بين الأرض والشمس، ولكن من المحتمل كثيراً أن المشتري قد اقترب إلى مسافة تبلغ 1.5 وحدة فلكية دفعة واحدة، قبل أن يعود ويبتعد إلى مسافة 5.2 وحدة فلكية".

ويتابع باتيغين مفسراً بأن حركة المشتري باتجاه الداخل ثم باتجاه الخارج" قد أدت إلى فوضى عارمة في المجموعة الشمسية". لقد ركل العملاقُ الغازي بعض الطلائع الكوكبية باتجاه الشمس، وأدى إلى زعزعة مدارات البعض الآخر منها، مما أفضى إلى ارتطامها بعضها ببعض، ولو كانت أي كواكب أرضية فائقة (superearth) - وهي كواكب أكبر بقليل من الأرض- قد تشكلت في تلك الحقبة، لكانت قد دُمرت أيضاً.

تعتبر الكواكب الشبيهة بالأرض، والكواكب الأرضية الفائقة شائعة للغاية في المنظومات الكوكبية الأخرى خارج المجموعة الشمسية.(المصدر: ناسا).
تعتبر الكواكب الشبيهة بالأرض، والكواكب الأرضية الفائقة شائعة للغاية في المنظومات الكوكبية الأخرى خارج المجموعة الشمسية.(المصدر: ناسا).


ولكن مع خروج المشتري من الجوار، فإن بعضَ الكُتل الصخرية الكبيرة قد بقيت في مداراتٍ مستقرة، وكانت الجاذبيةُ الهائلة لهذا الكوكب بمنزلة درعٍ يمنعُ ارتداد الشظايا الأخرى باتجاه المساحات الداخلية من المجموعة الشمسية، ويحمي الكتل الصخرية الداخلية من أي إزعاج.



تشكل الكواكب الصخرية:


الآن أصبحت الطلائع الكوكبية تدور في منطقة قليلة الغاز، صار بوسعها أن ترتطم بعضها ببعض لتُشكل الكواكب الداخلية كما نعرفها اليوم: عطارد، والزهرة، والأرض، والمريخ.

يقول باتيغين: "إن هذا السيناريو يربط بشكل أنيق بين الهجرة المبكرة للكواكب العملاقة، وبين تشكُل الكواكب الداخلية الصخرية". ولكن هذا السيناريو يحتاج إلى وجود كوكبين عملاقين في القرص نفسه، بحيث يكون الكوكبُ الخارجي (وهو زحل في حالتنا هذه) أقلَّ كتلة من الكوكب الداخلي (المشتري)، حيث تؤدي الجاذبيةُ المشتركة إلى تفاعل الكواكب بقوة أكبر مع الجزء الداخلي من السحابة الغازية مقارنة بالجزء الخارجي منها، مما يسمح بحدوث الهجرة ويُمهد الطريقَ أمام تشكُل الكواكب الأصغر.

يضيف باتيغين أن الموضوع يحتاج إلى المزيد من الدراسة، فهذا السيناريو يعتمد فقط على ثلاثة محاكِيات عالية الدقة، اعتُبر فيها أن أحجام الطلائع الكوكبية تبلغ 1000 كيلومتر، أو 100 كيلومتر، أو 10 كيلومتر، وسيحاول الباحثون في المحاكِيات المستقبلية تقليد نشوء النظام الشمسي بشكل كامل.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الوحدة الفلكية (Astronomical Unit): هي المسافة الفاصلة بين الأرض والشمس وتساوي 149 597 871 كيلومتر.
  • المشتريات الحارة (hot Jupitors): المُشتري الحار أو الساخن، ويُعرف أحياناً بالكوكب المشوي (roaster planets)، وهي كواكب موجودة خارج النظام الشمسي، وتُمتلك مميزات مشابهة لتلك التي يتمتع بها المريخ، عدا أنّ درجة حرارتها السطحية فائقة السخونة بسبب دورانها على طول مدار قريب من نجمها.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات