حيث لا حياة فيها منطقة ميتة  في الأرض!

تستحضر عبارة "المنطقة الميتة" Dead Zone إلى مخيلتنا مشاهد من أفلام الخيال العلمي لسطح المريخ مثلاً، أو ما يتلو انفجاراً نووياً حيث تغيب الحياة وتتصادم الأشياء في الظلام. لكن توجد في الواقع أيضاً "منطقة ميتة" في خليج المكسيك، ولها آثار كبيرة كأفلام الرعب على سكان المنطقة.


هذه المنطقة الميتة هي عبارة عن منطقة منضوبة من الأوكسجين، وخالية من معظم أشكال الحياة البحرية، تقع في منطقة مصب نهر الميسيسبي ضمن خليج المكسيك، ورغم أن ظاهرة نقص الأوكسجين تؤثر على مناطق ساحلية عديدة حول العالم، كخليج تشيسابيك وبحر البلطيق والبحر الأسود، إلا أن المنطقة الميتة التي نتحدث عنها هي أكبر المناطق الساحلية ذات المياه المنضوبة من الأوكسجين في العالم.
 

"المنطقة الميتة" في خليج المكسيك... ظاهرة موسمية


بحيث تعتبر المنطقة الميتة في خليج المكسيك ظاهرة موسمية تتشكل في أواخر الربيع وأوائل الصيف من كل عام، ففي كل ربيع، تنجرف الكميات الفائضة من المغذيات -وبشكل رئيسي النتروجين- من حوض نهر المسيسيبي إلى مصبه في خليج المكسيك، وتحفّز بذلك نمو العوالق النباتية كالطحالب الدقيقة والنباتات الأخرى على سطح المياه، والتي تنتج أوكسجيناً يبقى قريباً من سطح المياه.


وبعد فترة من الزمن تموت العوالق النباتية، أو تتغذى عليها بعض الحيوانات الطافية وصغيرة الحجم على الأغلب، أما النواتج الثانوية المتبقية منها وهي مواد نباتية ميتة ونفايات برازية، فتسقط باتجاه قاع المحيط، حيث تقوم مستعمرات البكتيريا باستهلاكها. ولأن البكتيريا تحتاج إلى الأوكسجين لتستطيع استهلاك وتفكيك تلك المواد، فإنها تستنزف الأوكسجين المنحل الموجود في قاع المحيط مسببةً نقصاً كبيراً في تركيزه.


ومع ذلك، فلا يسبب هذا مشكلة طالما أن المياه السطحية الغنية بالأوكسجين يمكنها أن تصل إلى القاع وتجدد مياهه منقوصة الأوكسجين، لكن في أواخر الربيع وأوائل الصيف يقل تكرار حدوث العواصف، ما يجعل المياه أكثر هدوءاً، وترتفع درجات حرارة السطح أيضاً، وتشكِّل المياه الأكثر دفئاً بقليل والمتدفقة من نهر المسيسيبي إلى خليج المكسيك طبقةً منفصلةً فوق المياه المالحة والأكثر كثافة. 


وبالتالي، فإن انعدام العواصف الكبيرة التي تخلط مياه الطبقتين معاً، يجعل مستويات الأوكسجين في قاع الخليج في تلك المنطقة قليلة جداً ولا تكفي لاستمرار الحياة البحرية، وهو ما يسمى "نقص الأكسجة" hypoxia.


قد تبدو المياه منقوصة الأوكسجين طبيعية على السطح، لكن القاع يبدو مخيفاً ويخلو تقريباً من أي حيوان حيّ، بل وتتناثر فيه الضحايا المختنقة، وتصبح الرواسب سوداء عند الحالات الشديدة.


أما الكائنات البحرية، فتتفاوت مقدرتها على التلاؤم مع هذا الوضع، فبمقدور الأسماك مثلاً أن تعبر المياه منقوصة الأوكسجين أو المنطقة الميتة، إلى المناطق التي تحتوي مستويات الأوكسجين اللازمة للحياة، لكن الحيوانات البحيرة الأخرى، كالرخويات وشقائق البحر والديدان، فلا يمكنها العبور لذلك، فهي تموت وتموت معها مستويات عالية من الأحياء المائية، لتعيق بذلك المنطقة الميتة السلاسل الغذائية، وتخلّ بموائل الأحياء المائية، وتعيث خراباً بيئياً يستنزف المجتمعات الساحلية مالياً، مسببةً بذلك خسائر بمليارات الدولارات لصناعة المأكولات البحرية مثلاً.

 

 
الإدارة البيئية للمنطقة الميتة في خليج المكسيك

وتبلغ المنطقة الميتة في خليج المكسيك نقطة الذروة في أوائل الصيف، لتبدأ بالتراجع في أواخر آب/أغسطس أو أيلول /سبتمبر نتيجة لانخفاض درجات الحرارة السطحية وحدوث العواصف الاستوائية وتشكل الأعاصير، وتتفاوت مساحتها سنوياً اعتماداً على تدفق النهر والرياح والعوامل البيئية الأخرى، وقد ازدادت منذ بدء أخذ القياسات الدورية المنتظمة في عام 1985، لتبلغ في عام 2003 رقماً قياسياً، حيث وصلت إلى 8492 ميلاً مربعاً (22079 كيلومتراً مربعاً).


ربما لا يمكن القضاء على المنطقة الميتة في خليج المكسيك، نظراً لمستوى المعيشة الحالي والذي ترافقه أشكال عديدة من التلوث، كالأسمدة والمبيدات ومياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية وغيرها، لكن لجنة عمل المغذيات على الخط الفاصل بين نهر المسيسيبي وخليج المكسيك في وكالة حماية البيئية Environmental Protection Agency، طوّرت خطة عملها للتقليل من مساحة المنطقة الميتة إلى أقل من 1930 ميلاً مربعاً (5018 كيلومتراً مربعاً) أو ما يقارب نصف المعدل بحلول عام 2015، معتمدة بذلك على إدارة المسببات التي تساهم في زيادة مساحة المنطقة الميتة. 


ولعلّ المسبب الرئيسي، هو زيادة كمية النتروجين التي تصب في خليج المكسيك من نهر المسيسيبي، والتي تضاعفت ثلاث مرات عن مستواها منذ الخمسينيات، ومع معدل سنوي بلغ 1.6 مليون طن متري منذ العام 1980، حيث تشمل مصادر النتروجين الأسمدة وروث الحيوانات وجريان مياه الصرف الصحي والنفايات السائلة الصناعية والملوثات الجوية. 


ويؤكد المسح الجيولوجي للولايات المتحدة، أن أكثر من نصف النتروجين الذي يدخل خليج المكسيك من نهر المسيسيبي يأتي من مصادر زراعية، وهو أمر منطقي طالما أن القسم الرئيسي من المواد الكيميائية الزراعية المستخدمة في الولايات المتحدة يتم التخلص منه ضمن الأراضي الزراعية الواقعة في حوض نهر المسيسيبي، أكبر أحواض أميركا وثالث أكبر الأحواض في العالم بمساحة تبلغ 1.2 مليون ميلاً مربعاً (3.1 مليون كيلومتر مربع). 

أما المسبب الثاني، فهو محاولة الإنسان السيطرة على فيضان نهر المسيسيبي، الذي أعاق قدرة النهر على التخلص من المغذيات الزائدة التي تحملها مياهه. فقد كان النهر يفيض قبل ذلك على جانبيه لتتسرب المياه الفائضة إلى أحزمة الغطاء النباتي الطبيعية على طول النهر، والتي تدعى بالمناطق الضفافية riparian zones، وكذلك ضمن الأراضي الرطبة، حيث تعمل كل من المناطق الضفافية والأراضي الرطبة كالمرشحات التي تطهِّرُ مياه الفيضان من المغذيات الزائدة.


إن أفضل طريقة لتحقيق هدف الخطة هو الحد من كمية المواد المغذية وخصوصاً النتروجين، التي تدخل إلى الخليج من نهر المسيسيبي، فقد يكون من الضروري تخفيض النتروجين بنسبة (20-30)% لإنعاش الحياة البحرية، وهناك حاجة لتخفيض النتروجين بأكثر من 40% للعودة إلى مستوياته القديمة بين عامي 1955 و1970 عندما لم تكن تمثل ظاهرة نقص الأوكسجين مشكلة.


تبدو الخطة على الورق بسيطة، لكنها في الواقع ستحتاج إلى تطبيق تغييرات جذرية وكبيرة في مختلف الأصعدة، كتقليل استخدام الأسمدة في المزارع، وإنشاء الأراضي الرطبة والمناطق الضفافية قرب الجداول لامتصاص النتروجين الفائض، وتقليل التصريف من محطات معالجة مياه الصرف والمنشآت الصناعية. وبكل الأحوال، ستحدد مساحة المنطقة الميتة في كل عام فيما إذا كانت الخطة تسير بشكل جيّد.
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات