أشعة كونية غامضة: ما هو مصدرها؟

تصور فني يظهر وابلاً من الأشعة الكونية فوق محطة هوائي مصفوفة الترددات المنخفضة.

المصدر: ASTRON/KIT/Radboud


الأشعة الكونية هي جسيمات بطاقة عالية تسقط على الارض من أعماق الفضاء ويلتفها بعض الغموض، ممّا تتكون؟ ومن أين تأتي؟ وكيف تكتسب طاقة هائلة أعلى من التي تحققها أفضل مسرّعات الجسيمات في العالم؟ قد يساعد التلسكوب اللاسلكي، والذي صمم أصلاً لدراسة الكون المبكر، في الإجابة على بعض هذه الأسئلة أو لعله ربما يساهم في زيادة غموضها.

تتكون الأشعة الكونية عادة من بروتونات أو نواة ذرية لعناصر مثل الهيليوم أو الكربون أو الحديد. أكثرها طاقة تحتوي على طاقة أكبر بـ 10 مليون مرة من مصادم الهادرونات الكبير the Large Hadron Collider، وهو أقوى مصادمات الذرة في العالم. علماء الفيزياء غير متأكدين حول ماهية آلية الفيزياء الفلكية التي قد تسرّع الجسيمات إلى هذه الطاقة، قد يكون السبب بقايا السوبرنوفا (المستعر الأعظم) وهي الانفجارات التي تحدث عندما ينفذ الغاز من النجوم الكبيرة وتموت، والنوى المجرية النشطة، والمجرات عالية السخونة التي تحتوي ثقوباً سوداء هائلة في مركزها وتصدر الطاقة بكميات هائلة.

تعد دراسة الاشعة الكونية أمراً صعباً، فخلال رحلتها عبر الفضاء تنحرف من مسار إلى آخر بسبب المجالات المغناطيسية ما يجعل اكتشاف منشئها أمراً صعباً للغاية. الأشعة ذات الطاقة العالية نادرة جداً كما أنها لا تبتعد كثيراً، فحالما تصل الغلاف الجوي للأرض، تتحطم فوراً بسبب تصادمها مع الهواء في علو شاهق.

 

ولدراسة الأشعة الكونية الأكثر طاقة يستخدم علماء الفيزياء مجموعة واسعة ومتنوعة من أجهزة كشف الجسيمات على الأرض لالتقاط "زخات الهواء" من الحطام الذي حصل بسبب التصادمات في العلو الشاهق، أو يستخدمون التلسكوبات لرصد ومضة من الضوء ناجمة عن جسيمات الحطام عند تباطئ حركتها في الغلاف الجوي.

لكن هناك الآن طريقة جديدة للكشف عن الأشعة الكونية. فقد استخدم أحد الفرق مجموعة من التلسكوبات اللاسلكية المعروفة باسم مصفوفة التردد المنخفض (Low Frequency Array) أو اختصاراً LOFAR، وهي تقع في هولندا لكن لديها أكثر من موقع في دول أوروبا الشمالية. لا يوجد لدى LOFAR أطباق قابلة للتوجيه كما هو الحال في التلسكوبات الأخرى، لكنّها عوضاً عن ذلك تتألف من آلاف من هوائيات الأسلاك المنتشرة في عشرات المحطات.

 

تلتقط الهوائيات وبشكل أساسي كل ما يأتي من الفضاء ثم تنتقل إلى كتلة المعالج فائق السرعة والذي تكمن مهمته في التدقيق في البيانات والتركيز على ظاهرة معينة أو على جزء من السماء.

الهدف الأساسي من LOFAR هو دراسة الفترة المبكرة للكون حيث كانت النجوم والمجرات الأولى تتشكل وتحول الغاز بين النجمي الموجود حولها إلى أيونات. لكن فريق الأشعة الكونية تمكّن من استعمال الرصد الفلكي المعتاد في بحثه عن زخات الهواء. فعند اصطدام حطام جسيمات الأشعة الكونية بالغلاف الجوي، ينتج تفاعلها مع بعضها ومع المجال المغناطيسي للأرض إشارات راديوية يمكن التقاطها بهوائيات LOFAR.

 

لا يمكن للفريق أن يقوم بالبحث في كل البيانات ٢٤ ساعة على مدار الأسبوع لأنها كثيرة جداً، لذلك قام الباحثون بوضع كاشف للجسيمات في الأرض ينبه النظام بأنّ زخات من الهواء قد حصلت للتو. عندما يشغل الكاشف المنبه يقوم نظام الأشعة الكونية LOFAR بحفظ آخر ٥ ثوانٍ من البيانات الموجودة في مخزن النظام، وذلك لأن إشارة زخات الهواء موجودة فيها.


كان الفريق قد صنع مسبقاً نماذج لشكل هذه الإشارات الراديوية، لذلك عندما بدأوا بالمراقبة عن طريق LOFAR ووجدوا ما يبحثون عنه بسرعة كبيرة. يقول هينو فالك Heino Falcke أحد أعضاء الفريق، وهو عالم فيزياء فلكية في جامعة رادبود Radboud، نيميغن، هولندا: "إنّ نصف أرصادنا كانت متوافقة ومتناسبة تماماً مع النماذج وهي تجربة نادرة في الفيزياء التجريبية".

 

تمكن الباحثون باستخدام هذه التقنية من قياس المدى الذي نزلته سلسة الجسيمات هذه في الغلاف الجوي قبل أن تصل إلى أقصى حجم لها. بالتالي يمكن لهذا العمق أن يدلّهم على نوع الجسيمات التي تشكّلت منها هذه الاشعة الكونية سواء كان بروتوناً، أو نواة هيلوم أو شيئاً ما أثقل من ذلك.

تقول تقارير العلماء في مجلة Nature إن حوالي ٨٠% من أكثر من ١٢٠ حدث قاموا بتحليله، تبيّن أنّها أشعة كونية خفيفة من البروتون أو نواة الهيليوم، وهذا شيء متوقع إلى حد ما. وقد قام الفريق بسبر طاقة الجسيمات بمعدل بين \(10^{17}\) و \(10^{17.5}\) إلكترون فولت. يقول فالك: "إنها شيء مجهول حقاً"، وهو أمر يصعب الوصول إليه عن طريق تقنيات أخرى "فالبيانات التركيبية متفرقة جداً".

هذا النطاق يحتل مرتبة وسطى بين الأشعة الكونية ذات الطاقة المنخفضة، ويتوقع أن يكون من مصادر في مجرتنا بالإضافة إلى الأشعة الكونية ذات الطاقة المرتفعة القادمة من مجرات أبعد بكثير. وتشير النظرية الحالية إلى أنّ الأشعة الكونية ذات الطاقة العالية هي في معظمها بروتونات بدلاً عن نوىً أثقل. لكن يقول الباحثون إنهم لا يتوقعون اكتشاف نسبة كبيرة تقدر بـ ٨٠% في طاقات أدنى من \(10^{17.5}\) eV.

يقول فلاك Falcke إن هنالك إشارات في توزيع الجسيمات عبر نطاق الطاقة الذي قاموا بدراسته وتظهر أنّ بعض الأشعة الكونية الخفيفة يمكن أن تكون قد نشأت من مصادر في مجرتنا، وهذا أمر مفاجئ لأنّه العلماء لم يعتقدوا بقدرة مسرعات الجسيمات المحلية كبقايا السوبرنوفا (supernova) على تحقيق طاقات للبروتونات أعلى من \(10^{15}\) eV.

يعترف فلاك Falcke أنّ هذا التفسير "مازال عبارة عن تخمينات، أو إنه بمثابة الخطوة الأولى" حسب قوله. وفي حال تم إثباته سيصبح غموض الأشعة الكونية أكبر بكثير لأنّ ذلك يعني وجود أجسام وآليات مجهولة في مجرتنا قادرة على زيادة سرعة الجسيمات إلى هذا الحد الكبير.

سيكون هذا الاستنتاج "تحدياً" للتفسيرات الفيزيائية الفلكية الحالية، حسبما يقول أندرو تايلور Andrew Taylor، وهو عالم فيزياء فلكية في معهد دبلن للدراسات المتقدمة Dublin Institute for Advanced Studies. يعتقد تايلور أن الأدلة لم تحسم بعد ما إذا كانت الأشعة قادمة من مصدر في مجرتنا عوضاً عن مصدر خارج المجرة، ويقول معلقاً على هذا الأمر: "إنّه لمن السابق لأوانه أن نقوم بالإدلاء ببيانات نهائية وحاسمة، فكلا النظريتان مثيرتان للاهتمام".

يعتقد تايلور Taylor أن التقنية الجديدة ستكون واعدة جداً في المستقبل بسبب قدرتها على تحديد أنواع الجسيمات بالإضافة إلى حقيقة أنه يمكن أن تعمل ليلاً ونهاراً وفي كل ظروف الطقس (التقنيات البصرية لمراقبة زخات الهواء تعمل فقط في الليالي التي يغيب فيها ضوء القمر).

 

ويختتم تايلور حديثه بالقول: "يمكن للاسلكي أن يجمع البيانات بشكل أسرع بكثير، حيث ستقوم هذه التقنية بتأمين مجموعة كبيرة من فرص الاستكشاف".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المستعرات الفائقة (السوبرنوفا) (supernova): 1. هي الموت الانفجاري لنجم فائق الكتلة، ويُنتج ذلك الحدث زيادة في اللمعان متبوعةً بتلاشي تدريجي. وعند وصول هذا النوع إلى ذروته، يستطيع أن يسطع على مجرة بأكملها. 2. قد تنتج السوبرنوفات عن انفجارات الأقزام البيضاء التي تُراكم مواد كافية وقادمة من نجم مرافق لتصل بذلك إلى حد تشاندراسيغار. يُعرف هذا النوع من السوبرنوفات بالنوع Ia. المصدر: ناسا

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات