تجارب تسعى لرصد المادّة المظلمة دون رؤيتها!

تجارب جديدة قد تكون على الطريق نحو اكتشاف المادة المظلمة بسبلٍ غير مباشرة. تسعى تجارب كثيرة للكشف عن المادة المظلمة، فالعديد من هذه الاستكشافات تجري عالمياً للبحث عن هذه المادة الغريبة، والتعرف على كلّ خصائصها الممكنة.


يعلم الباحثون بوجود المادة المظلمة نتيجةً لتأثير الجاذبية على العناصر المرئيّة المصنوعة من المادة العاديّة، كما يعرفون أيضاً أنّها موجودة بكمية كبيرة، حيث يُعتقد أنّ المادة المظلمة موجودة أكثر بخمس مرّات من المواد الأخرى في الكون، ولكنّ على ما يبدو فإنّ هذه المادة لا تزال غير مكتشفةٍ على نحوٍ كامل.

يُعتقد أنّ المادة المظلمة تتألف من جسيمات تماماً كالمادة العادية، والتخمين الأكثر احتمالاً هو أنّ هذه الجسيمات هي جسيمات ضخمة ضعيفة التفاعل WIMPs، حيث تمرّ هذه الجزيئات بالمادة العادية دون تصادم، وذلك كونها تتفاعل فقط بفعل القوّة النووية الضعيفة (weak nuclear force) -التي بدورها تؤثر فقط عند مسافات قصيرة- إلى جانب الجاذبية.

يحاول العلماء خلق تصادم بين الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل باستخدام مصادم الهدرونات الكبير Large Hadron Collider، لكن قد تكون هذه الجسيمات كبيرةً جدّاً على أن يحدث تصادم بينها باستخدام مسرّعٍ كهذا، كما يعمل العلماء إلى جانب ذلك على إيجاد (رصد) الجسيمات الضخمة باستخدام كواشف موجودة عند عمقٍ كبير، ولكن بالرغم من البحث عند هذا العمق، لم يجدوا شيئاً.

ونتيجةً لما سبق، سعى العلماء للبحث عن المادة المظلمة بطرق غير مباشرة، فبدلاً من محاولة رصد الجسيمات الضخمة بحد ذاتها، ارتأوا البحث عن إشاراتٍ أخرى لهذه المادة، وكانت أحد أشكال هذه الإشارات أشعّة غاما مضاعفة وأشعّة كونية ونيوترونات، أو على شكل أنماط مطبوعة في إشعاع الخلفية الكونية الميكروي، المتبقية مباشرة بعد الانفجار العظيم.

 أشعة غاما في الفضاء


قد تكون الجسيمات الضخمة عديمة التفاعل هي المادّة المضادة لذاتها في الوقت نفسه. ما يعني أنّه في حال تلاقى جسيما مادّةٍ مظلمةٍ مع بعضهما، سيُفني أحدهما الآخر، تاركَين خلفهما جسيمات مضيئة وأشعة غامّا، وقد تكون جسيمات المادة المظلمة غير المستقرّة هي ما ينتج أشعة غامّا عندما تضمحل.

بكل الأحوال، لابدّ لنا أن نتوقع أنّ المنطقة التي تحتوي على كميّة كثيفة من المادة المظلمة سيكون فيها معدّل وجود الأشعّة الطاقيّة أعلى من المعدّل الطبيعي، وتدعي دراسات حديثة وصولها إلى إشارات حول وجود المادة المظلمة بأشعة غاما نفسها، لكن لم يقتنع جميع العلماء بصحّة هذا الادّعاء.

يُعتبر مركز مجرتنا "درب التبانة" إحدى المناطق التي تحتوي كثافة مرتفعة من المادة المظلمة، وهنا يبحث العلماء عن زيادة حاصلة في أشعة غاما مستخدمين التلسكوب واسع المجال الموجود على متن تلسكوب فرمي الفضائي التابع بدوره لوكالة ناسا، حيث يرصد هذا التلسكوب الأرض منذ عام 2008.

في العام الفائت، أعطى التلسكوب تحليلاً حديثاً للمركز المجري، وقد شاهد العلماء فيه زيادة أشعة غاما تماماً كزيادتها في المجموعات السابقة، ولكن لم يعتمد الباحثون أي مصادرٍ للتفسير إلا المادة المظلمة بحدّ ذاتها.

"تعتبر مراكز المجرات منطقة معقدةً جدّاً"، وفقاً لما ذكره الباحث في مختبر فرمي تروي بورتر Troy Porter وهو عضو في معهد كافلي لعلم الفلك والفيزياء الفلكية، ومؤسّس مشارك بجامعة ستانفورد، والمختبر SLAC الوطني للتسريع.

كما أضاف: "تكون المراكز المجرية نشطة جداً وتحتوي على مصادر مختلفة لأشعة غاما، وبعض هذه المصادر لا زالت مبهمةً بالنسبة لنا، ولكي نكون قادرين على تحديد أي إشارة لوجود المادة المظلمة، لابد لنا أولاً أن نحدد مستوى أشعة غاما من كلّ المصادر الممكنة بدقّة كبيرة."


هناك أماكن أخرى للبحث عن المادة المظلمة، وهي المجرات القزمة التي تدور في مجرة درب التبانة، ذلك ما ذكره ماثيو وود Matthew Wood الباحث في مختبر فرمي، وفي معهد كافلي KIPAC، والذي شارك في قيادة تحليليْن عن خمسة عشرة مجرة قزمة، وثمان مجرات جديدةٍ قد تكون قزمة اكتشفت من قبل علماء بواسطة مسح الطاقة المظلمة Dark Energy Survey وجامعة كامبريدج بالمملكة المتحدة.

وأضاف :"تُهيمن المادة المظلمة على المجرات القزمة، ولا تحتوي على أي مصادر لأشعة غامّا، وهذه الكائنات التي تمتلك عدد نجوم أقل بملايين المرات من مجرتنا تعتبر أهدافاً مثاليّة لكيّ نقوم بتجارب غير مباشرة من أجل اكتشاف المادة المظلمة."

في شهر مارس، نشرت كلٌّ من جامعة كارنيجي ميلون، براون، وجامعة كامبريدج تحليلاً يدّعي بتوصلها إلى وجود زيادة في أشعة غاما في واحدة من هذه المجرات القزمة المكتشفة حديثاً، ولكن في الوقت نفسه لم يتوصل مختبر فرمي إلى أي إشاراتٍ دامغةٍ تبتّ في هذا الأمر.

 

 

 
أشعة غاما على الأرض

يستطيع تلسكوب فيرمي تحديد أشعة غاما التي تتمتع بطاقاتٍ تصل إلى بضع مئات الملايين من الإلكترون فولط، وأشعة غاما الناتجة عن الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل عادةً ما تكون ذات طاقة أكبر من غيرها. وهنا تُكتشف أشعة غاما الأرضيّة.

يقول عالم الفيزياء جيرنوت ماير Gernot Maier الذي يقود فريقاً في المركز الألماني للبحث DESY، والذي يبحث على أشعة غاما عالية الطاقة من خلال تجربة فيريتاس في ولاية أريزونا: "لرصد أشعّة غامّا ذات الطاقة المساوية لتريليون إلكترون فولط أو أكثر، نحن بحاجة إلى كواشف بمساحة سطح كبيرة -أكبر من قدرة أي مركبة فضائية على استيعابها."

استخدمت كلّ من تجربة فيريتاس، تلسكوب ماجيك MAGIC في جزر الكناري، ونظام التجسيم عالي الطاقة H.E.S.S في نامبيا مصفوفةً من التلسكوبات التي تحدد مكان الجُسيمات التي تعطيها أشعة غاما أثناء حركتها في الغلاف الجوي للأرض، لكن لم يتمكن أي منها من رصد إشاراتٍ لوجود مادة مظلمة.

في العام الحالي، سيتمّ إنشاء مرصدٍ جديدٍ على الأرض لأشعة غاما، كما ستتألف مصفوفة تلسكوب شيرنكوف Cherenkov Telescope Array من حوالي 100 تلسكوب، وهي حساسة أكثر بعشر مرّات لوجود أشعة غاما عالية الطاقة من تفاعلات المادة المظلمة.

الأشعة الكونيّة


الأشعة الكونيّة عبارة إشعاع عالي الطاقة مُكون من جسيمات مشحونة. وتماماً كما يمكن للمادة المظلمة أن تنتج أشعة غاما، يمكن لهذه الجسيمات المشحونة أن تنتج الأشعة الكونية، لذلك قد يكون هذا النوع الذي لا يمكن تفسيره من الإشعاع دليلاً على وجود المادة المظلمة.

هذا ما استدلّت به تجربة مقياس الطيف المغناطيسي ألفا Alpha Magnetic Spectrometer experiment، التي قادها الفائز بجائزة نوبل والعضو في معهد ماساشوستس للتكنولوجيا، الفيزيائي سام تينغ Sam Ting وذلك أملًا بالوصول إلى المادة المظلمة.


للسنوات الأربعة التي مضت، درست تجربة مطياف ألفا الأشعة الكونية من مركزها في محطة الفضاء الدولية International Space Station "لا تزال البيانات منسجمةً تماما مع إفناء الجسيمات الضخمة لبعضها البعض" وفقاً لما ذكره تينغ عن قياسات مطياف ألفا للإلكترونات والبوزترونات (الجسيمات المشحونة بشحنة موجبة) في الأشعة الكونية.

تجربة مطياف ألفا ليست الوحيدة من نوعها التي حاولت البحث عن المادة المظلمة في الأشعة الكونية، ففي عام 2009، قدّمت تجربة قمر باميلا PAMELA تقريرٍاً حول وجود كميّة كبيرة من الجسيمات الموجبة في الأشعة الكونية، وتمّت المصادقة على هذه النتيجة من باحثي مختبر فيرمي في عام 2011.


ذكر العالم سام تينغ أنّ مقياس طيف ألفا كشف عن نتائج توصل إليها خلال أكتوبر/تشرين الأول 2015.

النيوترينوهات الشمسية (النيوترينوهات الموجودة في الشمس)


قد يُنتج إفناء جسيمات المادة المظلمة لبعضها البعض أحياناً جسيمات "عديمة" الكتلة تدعى النيوترينوات. تستخدم التجارب الشمس للبحث عن المادة المظلمة في النيوترينو كمرصدٍ (محدد) لوجود المادة المظلمة، حيث يمكن للجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل أن تَعلق بفعل الجاذبية في مراكز النجوم الكبيرة. ومتى أصبحت كثافة هذه الجسيمات كبيرة على نحو كافٍ، يمكن لها أن تُفني بعضها وتنتج نيوترينوات.


يستخدم العلماء مراصد مثل تلسكوب أنتاريس ANTARES في البحر الأبيض المتوسط، وتلسكوب نيوترينو في بحيرة بايكل في روسيا، وتلسكوب سوبر كاميوكاندي Super-Kamiokande في اليابان، وتلسكوب آيس كيوب IceCube في القطب الجنوبيّ بهدف رصد أحداث كالتي ذكرناها.


يقول قائد تلسكوب آيس كيوب، فرانسيس هالزين Francis Halzen، من جامعة ويسكانسن- ماديسن: "يمكن للنيوترينوات أنّ تتحرك باتجاه مركز الشمس، وفي حال توصلنا إلى إشارة نيوترينو عالية الطاقة، لن نستطيع أن نؤكد فيما إذا كانت تلك إشارةً على وجود مادة مظلمة أم لا."

على عكس أشعة غاما والأشعة الكونية، التي يمكن أن يكون لها عدّة أصولٍ فيزيائية كونية، فالنيوترينوات عالية الطاقة تنتقل من مركز الشمس ولا يمكن أن تنتج إلا من خلال فناء جسيمات المادة المظلمة.

رصد وجودها في الشفق


يُعتبر إشعاع الخلفية الكونية الميكروي بمثابة شفق الانفجار الكبير الذي حصل منذ مليارات السنين، حيث يوجد بمثابة مسارٍ ضوئي خافت في السماء، ولو كانت الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل موجودة من قبل، لكانت تركت خلفها بصماتٍ على هذا الشعاع.

منذ عام 2009 ولحدّ الآن، سجّل تلسكوب بلانك التابع لوكالة الفضاء الأوروبيّة خريطة دقيقة لهذا الضوء. يقول العالم في مشروع بلانك جان توبر Jan Tauber: "أجرينا قياساً لمحتوى المادة المظلمة في الكون المبكر، أي عندما كان عمر الكون لا يزال حوالي 380,000 عاماً".

ركّزت الإصدارات الأخيرة لمشروع بلانك والتي كانت في شهر فبراير/شباط الماضي، على خصائص الجسيمات الضخمة ضعيفة التفاعل المفترضة، التي تطرح مشاكل على صعيد تفسير بيانات الجسيمات ذات الشحنة الموجبة، التي أعطاها تلسكوب باميلا، ومطياف ألفا، ومخبر فيرمي.


يقول توبر إن مشروع بلانك سيكشف عن المزيد من المعلومات خلال العام الجاري.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الطاقة المظلمة (Dark Energy): هي نوع غير معروف من الطاقة، ويُعتقد بأنه المسؤول عن تسارع التوسع الكوني.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات