إعلان وكالة ناسا بشأن كوكب المريخ: اكتشاف وجود ماءٍ مالحٍ جارٍ على سطوح شديدة الانحدار

خيوط المنحدرات المتكررة في فوهة نيوتن على سطح المريخ

خطوط المنحدرات المتكررة هي عبارة عن معالم ضيقة (عرضها بين نصف متر و5 أمتار) وداكنة نسبياً، تتشكل في المنحدرات الحادة الواقعة في النصف الجنوبي من الكوكب. تَظهر في بداية فصل الربيع وتتمدد باتجاه منحدر نحو الأسفل خلال الربيع والصيف، ثم تتلاشى وتختفي في فصل الخريف.

المصدر: NASA / JPL / UA / Emily Lakdawalla


عقدت وكالة ناسا مؤتمراً إعلامياً مختصراً أعلنت فيه عن اكتشافٍ مثير إضافي يشكل فصلاً آخر من فصول قصة وجود الماء السائل على سطح المريخ. وقد كان هذا الاكتشاف محور دراسة نُشرت في مجلة Nature Geoscience أعده لوجو أوها Luju Ojha بالاشتراك مع عدة مؤلفين آخرين، وحملت هذه الدراسة العنوان التالي: "أدلة طيفية على وجود أملاح مميّهة في خطوط المنحدرات المتكررة على سطح المريخ''. ويطرح هذا الاكتشاف عدة أسئلة من قبيل: ما هي أهمية هذا الاكتشاف؟ وهل يستحق حقاً الهالة والحملة الإعلاميتين اللتان سبقتاه؟ ألم تكتشف وكالة ناسا وجود الماء على سطح المريخ ملايين المرات سابقاً؟ وما الذي يعنيه هذا الأمر فيما يتعلق بالأشياء التي يهتم بها هواة الفضاء، أي الحياة على سطح المريخ، ومستقبل الاكتشافات البشرية؟ 

إليكم موجزاً مختصراً لكامل القصة


  •  أصدرت وكالة ناسا قبل بضعة أيام تعميماً إلى وسائل الإعلام تحت عنوان "وكالة ناسا ستكشف عن حل لغز كوكب المريخ" ويحمل هذا العنوان في طياته الكثير من الإثارة فيما يخص "اكتشاف علمي كبير هو ثمرة الجهود المستمرة للوكالة قصد استكشاف كوكب المريخ".
     
  •  كان من الواضح جداً أن موضوع الاكتشاف يتمحور حول خطوط المنحدرات المتكررة، وذلك من خلال قائمة أسماء المشاركين في المؤتمر التي أُصدرت مع التعميم، وعلى وجه الخصوص اسم لوجيندرا أوجا Lujendra Ojha، وهو طالب دراسات عليا كرَّس معظم جهوده وأبحاثه لدراسة هذه المعالم والسمات. لعل من الجدير بالذكر أنه سيقدم أبحاثه هذه خلال انعقاد المؤتمر الأوروبي لعلوم الكواكب.
     
  •  خيوط المنحدرات المتكررة هي عبارة عن خطوط ضيقة تظهر بشكل موسمي على المنحدرات المريخية، وقد تم رصد تكونها واختفائها في مساحات واسعة على سطح الكوكب.
     
  •  أجريت عدة أبحاث سابقة حول هذه المعالم باستخدام مطياف تصوير التجربة العلمية فائق الدقة هايرايز HiRISE والموجود على متن مُستكشف المريخ المداري Mars Reconnaissance Orbiter. وقد أظهرت تلك الأبحاث أن هذه المعالم تكونت خلال المواسم الدافئة عندما تكون درجات الحرارة بين 250 و 300 كلفن، مما يشير إلى أن أصنافاً متطايرة مثل الماء كانت مسؤولة عن تشكلها.
     
  • تتضمن الدراسات التي نشرت حديثاً، بيانات مستقاة من مطياف CRISM الموجود على متن مستكشف المريخ المداري، وهي تظهر أدلة طيفيةً على وجود أملاح مميّهة (معادن تحتوي على جزيئات الماء في بنيتها) خلال أوقات تشكل الخطوط المتكررة على المنحدرات.
     
  •  المعادن التي كانت أكثر مطابقة لبيانات الصور الطيفية هي بيركلورات المغنيزيوم، وكلوريد المغنيزيوم، وبيركلورات الصوديوم.
     
  •  قد يؤدي وجود أملاح البيركلورات إلى تخفيض درجة حرارة انصهار الماء بـ 40 كلفن في ظل الظروف الموجودة على سطح المريخ، مما يجعل انصهار الماء أسهل بكثير.
     
  •  ويُعتبر هذا البحث دليلاً قوياً على أنه، في الوقت الحالي وفي أماكن واسعة النطاق على سطح المريخ، تنشأ ظروف معينة تؤدي أحياناً إلى حدوث تدفقات من الماء السائل المالح-لا ترقى لمستوى جدول صغير- لمدة وجيزة، فتساهم فقط في رطوبة التربة. 
     
  •  من الصعب تحديد آلية واحدة كامنة وراء تجديد الماء السائل تُحفّز هذا النشاط المتكرر، وذلك بسبب التنوع الشاسع بين المواقع والأماكن الجيولوجية حيث رُصدت خطوط المنحدرات المتكررة.
     
  •  يرجح الفريق العلمي، بما فيه أوجا وألفرد ماكوين Alfred McEwen، أن يكون التميّع هو مصدر هذه التدفقات: تمتص أملاح البيكلورات بخار الماء الموجود في الغلاف الجوي إلى أن تتجمع كمية كافية من الماء لتشكيل سائل وإذابة الأملاح.



خلال نهاية الأسبوع، اجتاحت شبكة الإنترنت موجة هيستيرية من الترقب والتوقع حول ما قد يعنيه هذا الاكتشاف بالنسبة للحياة على سطح المريخ. وقد ساهم جون غرونسفيلد John Grunsfeld، مدير إدارة البعثات العلمية، في تعزيزها بقوله: "يعد الاكتشاف الذي نتكلم عنه اليوم مثيراً للاهتمام بشكل كبير لأنه يشير إلى إمكانية وجود الحياة هناك حالياً''.

شخصياً، لا أعتقد أن وجود حياةٍ على سطح المريخ أصبحت أكثر رجحاناً مما كانت عليه سابقاً نتيجة لهذا الاكتشاف، وذلك لأن بيئة متآكلة ذات مياه عابرة وتتصف بملوحة شديدة لا تُعد على الإطلاق مكاناً جيداً للبحث عن الحياة. أرى أن هناك قابلية أكبر لوجود بيئة صالحة للسكن بالقرب من أشرطة الماء التي رصدتها مركبة فينكس Phoenix في التربة بجوار مكان هبوطها في المنطقة القطبية. يمكن إقامة سكن دائم في منطقة تتصف بقلة التعرض للإشعاعات الشمسية، وبصعوبة الوصول إليها، لكونها تقع داخل أعماق الأرض حيث تحافظ الحرارة الداخلية لكوكب المريخ على المياه الجوفية السائلة لفترة طويلة من الزمن.



إذاً، هل نقول أن هذا البحث ليس لديه الكثير ليخبرنا به حول الحياة على سطح المريخ؟ لا أظن ذلك. بالفعل، يخبرنا هذا البحث بأننا في بداية الطريق نحو فهم كوكب المريخ، ولا يعتبر هذا الأمر شيئاً بسيطاً على الإطلاق. في الحقيقة، ما لدينا هنا هو نتيجة صلبة يمكن الوثوق بها، كما أنها أتت نتيجةَ جهدٍ تراكمي، حيث أجرى العلماء عدداً من الأرصاد وفجأة شاهدوا مجموعة من الخطوط الداكنة حديثة التشكل على سطح المنحدرات المريخية. ومن ثم، تابعوا عملية الرصد بالبحث عن مزيد من هذه الخطوط في بيئات مشابهة، ووجدوها بالفعل. ورصد العلماء تلك الخيوط مجدداً في الأماكن السابقة ذاتها، فوجدوا أنها تلاشت واختفت مع مرور الوقت، وتشكلت عوضاً عنها خيوط أخرى جديدة.


ما هذا، نشاط جيولوجي على سطح المريخ! استمر العلماء بالبحث ورصد نفس البقع مراراً وتكراراً إلى أن وجدوا نمطاً معيناً: تكبُر هذه الخيوط خلال الأشهر الدافئة ومن ثم تتلاشى خلال الأشهر الباردة. يقترح هذا النمط فرضيةً معينةً تقول: ربما تحتاج درجات الحرارة الدافئة لأنها تساهم في انصهار مكوّن متطاير، هو تحديداً الماء. بهدف التحقق من هذا الأمر، يجب البحث عن دليل كيميائي لوجود الماء. وبناءً على كل ما سبق، يمكن القول أن هذا البحث هو نتيجة ذلك الاختبار. من ثم، فإن النتيجة متوافقة ومتطابقة مع الفرضية. 

إنه مثال جميل حقاً على نجاح العملية العلمية، وهو أمر لا يحدث غالباً في مجال علوم الكواكب، حيث أنه يصعب التعامل مع أغلب الأدوات والأجهزة التي نستخدمها، كما أن فهمنا وإدراكنا للأمور في ذلك المجال بسيط للغاية بشكل عام، لذلك إنه لأمر نادر أن نستمتع بهذه العملية المؤلفة من التقاط الأرصاد ووضع الفرضيات وإجراء الاختبارات وأخيراً تأكيد النتائج. ولعل ما يحدث هذه السنة على سطح بلوتو هو أوضحُ دليل على ما أقوله، فالصور التي التُقطت مذهلة بشكل لا يصدق، إلا أن العلماء لا يمتلكون أدنى فكرة عن كيفية تفسير ما يرونه، وهذا أمرٌ ينطبق على القسم الأكبر من الصور.

بطبيعة الحال، لم تُقدّم وكالة ناسا القصة بقولها "نتيجة إضافية رائعة"، ولكنها استخدمت عوض ذلك العبارات "حل لغز" و "إعلان مهم". وقد أدى استخدام هذه العبارات إلى أسبوع حافل بالنشاط والدعاية، حيث نجحت الوكالة في جعل وسائل الإعلام الرئيسية تتحدث عن العلم على المريخ. ولعلك شعرت جراء تلك الإعلان، مثل العديد من الناس، بالاكتفاء أو أنه بمثابة فخ أو وهم، نتيجة الخبر المتكرر من قبل وكالة ناسا عن اكتشاف الماء على سطح المريخ، ولكنك لا تستطيع الإنكار أنها وسيلة ناجحة لإيصال المواضيع والقصص المختصة بعلوم الفضاء إلى وسائل الإعلام الرئيسية. وبالطبع، ليس من قبيل المصادفة أن قصة العلم الحالية تنسجم تماماً مع السياسة الخاصة بعمليات استكشاف المريخ في المستقبل، حيث تروج وكالة ناسا عمليات الاستكشاف العلمي باستخدام الروبوتات كوسيلة ستؤدي إلى عمليات الاستكشاف البشري في المستقبل.

وفي حين أعتقد أن العلم رائع جداً، إلا أن فهمنا الجديد بإمكانية وجود ماء سائل يظهر بشكل عابر في كل أرجاء كوكب المريخ لا يحمل أنباء طيبة لمستقبل استكشاف هذا الكوكب. تتعلق المشكلة حيال هذا الأمر بحماية وسلامة الكواكب.


نبني جميع مركباتنا الفضائية في عالم يعج بالحياة إلى درجة تثير الاشمئزاز. فالميكروبات التي وُلدت على سطح الأرض يمكنها النجاة في أي بيئة يمكن تخيّلها. وعلى الرغم من أننا نبذل قصارى جهدنا في تعقيم كل شيء، إلا أن جهودنا هذه ليست كافية، حيث أن أي مركبة فضائية تغادر الأرض ستحمل بالضرورة ميكروبات على متنها بشكل خفي. وبناءً عليه، كم سيكون الأمر فظيعاً ورهيباً إذا اكتشفنا وجود ميكروبات تعيش على سطح المريخ، دون أن نكون قادرين على التأكد من أننا لم نأت بها من الأرض؟



أدركت وكالة ناسا أن احتمال التلويث هو مشكلة بحد ذاتها، لذلك تم إنشاء مكتب لحماية الكواكب، ومهمته على وجه التحديد هي الإشراف على تجنب تلويث كوكب المريخ بالكائنات الحية القادمة من الأرض. هناك نهجان رئيسيان يتم اتباعهما حيال هذا الموضوع، أولهما هو تعقيم كل خلية من كل شيء سيلامس سطح المريخ، وهذا الأمر ما يفسر كون عجلات مركبة كوريوزيتي Curiosity ملفوفة أثناء عملية التجميع الأخير للمركبة، كما يفسر لماذا اعتُبر الأمرُ فضيحةً عندما تمت معالجة مثقاب الحفر في المركبة بعد عملية التعقيم.


أما النهج الثاني، فينص على تجنب الهبوط في الأماكن حيث قد نواجه، --أو نخلق بشكل غير مقصود، في حالة تحطم المركبة- بيئةً صالحة للسكن في يومنا هذا، حيث يمكن للميكروبات القادمة من الأرض أن تنمو وتتكاثر. على سبيل المثال، تنص القواعد الحالية على منع وكالة ناسا من إرسال بعثات تحوي على متنها مولداً حرارياً يعمل بالنظائر المشعة (مثل بعثة مارس 2020)، بالقرب من المناطق حيث قد يؤدي هبوط فاشل إلى وضع المولد على مسافة قريبة بما فيه الكفاية من الطبقة الجليدية تحت سطح الكوكب، وبالتالي يمكن لحرارة البلوتونيوم المتحلل أن تعمل على إذابتها.

ولكن، تصبح جميع الرهانات باطلةً عندما يُرسل البشر إلى سطح المريخ، وذلك لأنه من المستحيل جعل الإنسان نظيفاً من الميكروبات كلياً. فأجسامنا مليئة بالميكروبات، بالإضافة إلى الآلاف من الكائنات المختلفة الأخرى. نطرحها باستمرار عبر مسامنا وكل فتحة موجودة في جسمنا أو مع كل زفير ومن كل سطح. صحيح أن معظم تلك الميكروبات ستفشل في العيش والتكاثر في بيئة قاحلة وباردة ومليئة بالإشعاعات مثل بيئة المريخ، إلا أن غريزة الحياة تبقى أمراً مذهلاً.


سيصل البشر إلى الكوكب الأحمر عاجلاً أم آجلاً. حتى لو أنهم ماتوا أثناء محاولتهم تلك، فإن بعضاً من الميكروبات ستنجو حتى في ظل أسوء الاصطدامات. وفي اللحظة التي يصل فيها البشر إلى كوكب المريخ، حياً أو ميتاً سيصبح من الصعب التعرف على الحياة المريخية الأصلية على سطحه.

هذا سبب واحد من بين الأسباب العديدة التي تجعلني سعيدة بشأن تأييد مجتمع علوم ودراسات الكواكب لإرسال أول بعثة استكشاف مداري تنقل البشر على متنها. فإذا كان باستطاعتنا إبقاء أجسامنا المليئة بالميكروبات في الفضاء، ومن ثم إرسال روبوتات معقمة يتم التحكم فيها عن بعد للعمل على سطح المريخ، سنتجنب حدوث تلويث لا رجعة فيه على سطح هذا الكوكب لفترة طويلة من الزمن، بالإضافة إلى تجنب التشويش على إجابتنا عن سؤال ما إذا كنا نعيش بمفردنا في هذا النظام الشمسي. وربما سيستمر هذا الأمر لفترة طويلة حتى تتذوق الروبوتات مياه المريخ أو حتى تكتشف الحياة على سطحه.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات