أخلاقيات التعديل الجيني على الأجنة..مستقبل البشرية في علاج الأمراض والتشوهات قبل الولادة

يشكل الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين، أو ما يُعرف اصطلاحًا بـ DNA، الأساس الكيميائي الذي يحمل جميع معلومات ووظائف الجسم، ويشمل المورثات والطفرات التي تطرأ عليها، ويلعب دورًا هامًا في اكتشاف وتحديد الأمراض الوراثية في المرحلة الجنينية، لذلك اهتم الباحثون في دراسة المورثات وألقوا الضوء على هذا العلم ليشكل ثورة في مستقبل الطب والبشرية.

يُعدّ داء غوشيه الحاد Gaucher’s disease أحد أفضل الأمراض المرشحة للتعديل الجيني قبل الولادة، وذلك لأن تراكم الغلوكوسيريبروزيد (إنزيم سكري) يبدأ في المرحلة الجنينية، وسببه طفرة مرضية في جين يعرف باسم GBA، وفي حالة عدم وجود أي تدخل طبي يمكن أن يُسبب تراكمه تلف دماغي لا يمكن إصلاحه حتى بعد الولادة، وتموت الفئران عادةً في غضون 14 يومًا من الولادة.

يتشابه داء الأعصاب غوشيه الحاد الذي يصيب الفئران مع الذي يصيب البشر، إذ نادرًا ما يعيش الأطفال المولودون بهذه الطفرة الجينية بعد عامين من ولادتهم.

لذلك أجرى الباحثون دراسةً حول هذا المرض، إذ حقن الباحثون بقيادة جيري تشان Jerry Chan أخصائي طب الجنين في كلية الطب Duke-NUS في سنغافورة فيروسًا يحمل نسخة سليمة من جين GBA في أدمغة الفئران الجنينية في منتصف مدة الحمل تقريبًا، وكانت النتيجة بأن الفئران المعالجة وُلِدت بشكل طبيعي، وعاشت حتى 18 أسبوعًا على الأقل مع القليل من التظاهرات الدالة على الاعتلال الدماغي المستهدف.

كما يرى باحثون آخرون في مجال التعديل الجيني قبل الولادة أن هذه الأبحاث تمثل قفزةً تطوريةً إلى الأمام في تاريخ الطب الحديث، ويقولون إنه يوفر أقوى دليل حتى الآن على أن هذا النهج يمكن أن يكون ممكنًا عند البشر.

يقول بيل بيرانتو Bill Peranteau جراح الأجنة في مستشفى الأطفال في فيلادلفيا في بنسلفانيا: "إن الجمع بين هذين الجانبين من الدراسة قد جعلها مثيرةً للغاية".

كُشف أيضًا عن بحث جديد من مستشفى الأطفال في ولاية فيلادلفيا CHOP وكلية الطب في جامعة بنسلفانيا يقدم دليلًا على مفهوم استخدام عوامل متطورة قبل الولادة تعمل على عزل الجينات المسببة للأمراض من الحمض النووي باستخدام أنزيمات تعديل الجينات مثل CRISPR-Cas9 والإنزيم القاعدي BE3، وللحصول عليها استخدم العلماء ناقلات الفيروسات الغدية، والتي غالبًا ما تستخدم في تجارب العلاج الجيني، إلا أن هذه الناقلات تحمل بعض السلبيات، وذلك نظرًا لأن أبحاث العلاج الجيني السابقة قد أظهرت أن ناقلات الفيروسات الغدية قد تسبب استجاباتٍ غير مرغوبة وأحيانًا ضارة من قِبل الجهاز المناعي للمضيف، وعلى هذا الجانب فإن الفريق يبحث عن طرق توصيل بديلة مثل الجسيمات النانوية الدهنية، والتي تقلل من احتمالية تحفيز الاستجابات المناعية غير المرغوب فيها.

استخدمت هذه الطريقة لعلاج داء فرط تيروزين الدم I، والذي يعرف أيضًا بفرط تيروزين الدم الكبدي الكلوي، وهو أشد أنواع الأمراض التي تسبب تراكم أنزيم التيروزين في الدم والأنسجة مسببًا الكساح.

ولدت الفئران بعد التعديل الجيني عليها في الدراسة السابقة بكميات ثابتة من خلايا الكبد المعدلة القادرة على استقبلاب أنزيم التيروزين لمدة تصل إلى ثلاثة أشهر بعد العلاج مع عدم وجود أي تظاهر مرضي غير مرغوب فيه بعيدًا عن الهدف في مواقع أخرى من الحمض النووي.

وقد حسّن أنزيم BE3 من وظائف الكبد في المجموعة الفرعية من الفئران المهندسة حيويًا لعلاج هذا الداء، وأطال عمرها لفترة أطول من الفئران غير المعدلة.

كما كانت الفئران المعدلة بإنزيم BE3 أيضًا أكثر صحة من الفئران التي تلقت دواء nitisinone، وهو العلاج الأساسي الحالي لهذا الداء.


ورغم ذلك قد تفشل بعض التعديلات، ويكون المرضى معرضين لخطر الإصابة بفشل الكبد أو سرطان الكبد، لذلك فعزل الجينات المسببة للمرض في المرحلة الجنينية قد يقي من هذا المرض وأمراض أخرى.

يؤكد ويليام إتش بيرانتو William H.Perante، الرئيس المشارك في الدراسة، وجرّاح الأطفال والأجنة في مركز CHOP لتشخيص وعلاج الأجنة، إن الهدف النهائي هو إثبات ان هذه الدراسات لعلاج الأمراض الشديدة التي شُخِّصت مبكرًا أثناء الحمل، ويقول: "نأمل في توسيع هذه الاستراتيجية للتدخل قبل الولادة في الأمراض الخلقية التي ليس لها حاليًا علاج فعّال لمعظم المرضى، وتؤدي إلى الوفاة أو حدوث مضاعفات خطيرة عند الرضع".

أثبتت الدراسات الجينية التي أجراها بها الباحثون نجاحهم في تعطيل تأثير الطفرة الجينية المسببة للمرض، ولكن تبقى الجهود الحثيثة مستمرة للوصول إلى إمكانية تصحيح الطفرة الجينية المسببة للمرض، وليس فقط تعطيلها، وهذا ما أكده قائد الدراسة المشارك كيران موسونورو Musunuru أستاذ مشارك في طب القلب والأوعية الدموية في جامعة بنسلفانيا، وهو خبير في تكنولوجيا تعديل الجينات، وقد أظهر سابقًا أنه يمكن استخدام أدوات متطورة لتقليل مستويات الكوليسترول والدهون في الدم، ما قد يؤدي إلى تطوير لقاح للوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية.

قال بيرانتو: "يجب القيام بقدر كبير من العمل قبل ترجمة التعديل الجيني قبل الولادة إلى العيادة، مع ذلك فنحن متحمسون حول إمكانيات هذا النهج في علاج الأمراض الوراثية للكبد والأعضاء الأخرى التي لا يوجد لها سوى القليل من الخيارات العلاجية".

ورغم هذا التطور، فإن التحديات التقنية والمخاوف المتعلقة بالسلامة والقضايا الأخلاقية للتعديل الجيني قبل الولادة كبيرة، لكن هذا النهج هو أكثر من مجرد دواء، ويمكن أن يكون أفضل طريقة لعلاج مجموعة مختارة من الأمراض الوراثية المدمرة، وربما الطريقة الوحيدة لتحقيق علاج دائم.

أما بالنسبة للأمراض الوراثية الأخرى، فقد يظهر تأثيرها في مرحلة الرضاعة أو الطفولة المبكرة، ولكن حتى ذلك الحين، قد يكون العلاج الجيني قبل الولادة أكثر فعالية أو كفاءة من الانتظار حتى بعد الولادة.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات