المواد الكمومية قد تجعل تكنولوجيا ستار تريك واقعًا قريبًا!

 يطوّر العلماء موادَّ جديدةً غريبةً بإمكانها أن تجعل عالم ستار تريك  star trek الخياليّ واقعًا نعيشه. في الصورة، نجد سفينة يو إس إس ديسكفري USS Discovery تتسارع ضمن هذا التصوّر الفنّيّ حتى تصل لسرعة الاعوجاج speed warp في المسلسل التلفزيونيّ ستار تريك.

إذا كنت تظنّ أن تكنولوجيا ستار تريك بعيدة المنال فعليك أن تعيد التفكير، فإن العديد من أجهزة هذا المسلسل التلفزيونيّ الشهير باتت واقعًا. في حين أنّنا قد نكون غير قادرين على نقل البشر آنيًّا teleporting من مركباتٍ فضائيّةٍ إلى سطح كوكبٍ ما في وقتٍ قريب، ولكنّنا نقترب من تطوير أجهزةٍ أخرى لها دورٌ أساسيٌّ في محاولاتنا المستقبليّة للسفر إلى الفضاء.

أنا من معجبي ستار تريك منذ زمنٍ طويلٍ ولكنّني أيضًا باحثٌ متخصصٌ في إنتاج المواد المغناطيسيّة الجديدة. إن مجال فيزياء المادة المكثّفة  condensed matter physics يشمل كل المراحل الجديدة للمواد الصلبة والسائلة، ولقد أدّت دراسته إلى كلّ التقدّم التكنولوجيّ الحاصل في القرن الماضي تقريبًا ابتداءً من الحواسيب والهاتف النقّال إلى الخلايا الشمسيّة.

إن النهج الذي أتّبعه في البحث عن ظواهرَ جديدةٍ في المواد يعتمد على وجهة نظر علم الكيمياء، فإنني أتساءل عن كيفية صنع موادَ جديدةٍ لها خصائصٌ جديدةٌ تمكّننا من تَغيير العالم واكتشاف عوالم أخرى مثيرةً وغريبةً وذلك لأنني أؤمن أن فهم ما يُسمّى بالمواد الكموميّة خاصّةً هو البوابة لجعل الخيال العلميّ حقيقةً علميّةً.

 

المواد الكموميّة quantum materials


متى نقول عن مادة أنها كموميّة؟ إن المواد الكموميّة لها خصائصٌ مذهلةٌ وغير عاديّةٍ وذلك ينتج عن الأعداد الضخمة للجسيمات التي تتصرف ككيانٍ واحدٍ.

تخيّل معي أن موصلًا (مادةً موصلةً) conductor يقود فرقةً موسيقيّةً لعزف سيمفونيةٍ ما، فإذا لم يكن هناك بعض التنظيم للموسيقا كلّ ما ستسمعه هو الضجيج وكلّما زاد عدد الموسيقيين الذين يخرجون عن الإيقاع سيزداد الضجيج.

فلنعتبر أن المادّة الكموميّة تتكوّن من هؤلاء الموسيقيين، في هذه الحالة هم الإلكترونات أو الذرّات في المادّة والتي تبلغ أعدادها مليارات المليارات، الذين يتصرفون وفقًا لقواعدَ كموميّةٍ محدّدةٍ أو "ورقةٍ موسيقيّةٍ" محدّدةٍ. وعلى ذلك، فبدلًا من أن نحصل على الضجيج الناتج من الحركة العشوائية للذرّات والإلكترونات سنحصل على موسيقا باستخدام الموصل، أو في حالة الموادّ الجديدة تنتج لدينا خصائصُ جديدةٌ، فإن استخدام هذه الخصائص الجديدة للأجهزة هو ما يحرّك الثورات التكنولوجيّة التي نشهدها اليوم.

 

المجالات والدروع المغناطيسيّة


إذًا، كيف يمكننا استخدام المواد الجديدة في صناعة مركبة الفضاء المستقبليّة؟ من الأمثلة على ذلك دروع القوة التي تحمي مركبات الفضاء في ستار تريك. إذ يمكن استخدام المجالات المغناطيسيّة القوّيّة لحماية الأجسام من المقذوفات الواردة خاصةً إذا كانت تلك المقذوفات لها شحنةٌ كهربائيّةٌ ولكن كيف يمكننا خلق مجالاتٍ مغناطيسيّةٍ ذات قيمةٍ عاليةٍ؟ من ضمن الطرق المُستخدمة هي استخدام مغناطيس فائق التوصيل، إذ تحتوي النواقل الفائقة Superconductors على إلكتروناتٍ توصل الكهرباء بدون أيّة مقاومة ونتيجةً لذلك تُولَّد مجالاتٌ مغناطيسيّةٌ ذات قيمةٍ عاليةٍ للغاية، فالتيار المصاحب للناقل الفائق الذي يولّد المجال المغناطيسيّ يمكن أن يكون ضخمًا بدون أن يدمّر الناقليّة الفائقة ذاتها.

تُستخدم هذه النواقل الفائقة كلّ يومٍ لتوليد حقولٍ مغناطيسيّةٍ ضخمةٍ في أماكن مثل المستشفيات في التصوير بالرنين المغناطيسيّ MRI لرؤية ما بداخل جسم الإنسان، أما النواقل الفائقة المتقدّمة قد تكون لها تطبيقاتٌ جديدةٌ مثل دروع المركبات الفضائيّة المغناطيسيّة.

تخيَّل أن مركبـتك الفضائيّة مغطّاةٌ بناقلٍ فائقٍ يمكنه بنقرة زرٍ توليد مجالٍ مغناطيسيٍّ ضخمٍ للحصول على تيارٍ متدفّقٍ خالقًا بدوره درعًا مغناطيسيًّا. هذا بالضبط ما يسعى العلماء في المنظّمة الأوربيّة للبحوث النوويّة CERN لتحقيقه، درعٌ مغناطيسيٌّ جديدٌ للمركبات الفضائيّة باستخدام ناقلٍ فائقٍ من ثنائي بوريد المغنزيوم MgB2.

 

 

العالم والفيزيائي إيان أونيل يناقش خطة سيرن لإنشاء درع إشعاعي كوني من النواقل الفائقة لحماية رواد الفضاء

 

النواقل الفائقة على مركبات الفضاء


عندما يطوّق مغناطيسٌ فائق التوصيل مركبةَ فضاءٍ فإنّه يولّد طبقةً أو غلافاً مغناطيسيًّا magnetosphere حول المركبة وهذه الطبقة يمكن استخدامها في صد المقذوفات المضرّة. في حين أنه ليس علينا أن نقلق بشأن صواريخ كلينجون Klingon (صواريخ الأشرار في المسلسل) حتى الآن فإننا ينبغي أن نقلق بشأن الأشعة الكونيّة المضرّة الواردة من الفضاء الخارجيّ حيث أن الأشعة الكونيّة عبارةٌ عن جسيماتٍ مشحونةٍ بإمكانها أن تتلف أجهزة المركبة الفضائيّة الإلكترونيّة والأكثر أهميةً من ذلك أنها تعطي رواد الفضاء جرعة إشعاعٍ قاتلةً خلال الرحلات الفضائيّة الطويلة. لذا يجب حماية مركبات فضاء المستقبل من تلك الأشعة لضمان نجاح برامج الفضاء المستقبليّة بما فيها الرحلات إلى المريخ في العقود القادمة، ومن يعلم ربما تكون قادرًا على الهروب من هجمة شعب روميولان Roumlan (الأشرار في المسلسل) بواسطة دروع المغناطيس الفائقة التوصيل.

 

العقبات التقنيّة


ومع ذلك لدينا ورطةٌ، وهي أن النواقل الفائقة لا تعمل في درجات الحرارة المرتفعة ولا يوجد ناقلٌ فائقٌ يعمل في درجة حرارة الغرفة، ففوق درجة حرارةٍ معيّنةٍ تُسمّى الحرارة الحرجة critical temperature يصبح الناقل الفائق "عاديًّا" وتواجه الإلكترونات مقاومةً من جديدٍ. هذا يحدث في ثنائي بوريد المغنزيوم عند درجة حرارةٍ باردةٍ جدًا نحو -248 درجةً مئويّةً وهذا في الواقع مناسبٌ للفضاء البين نجميّ interstellar space حيث درجة حرارة الخلفيّة أبرد بكثير، حوالي -270 درجة مئوية أو ما يقاربها، ولكن ليس مناسبًا للمركبات التي تزور الكواكب الأكثر دفئًا.

إن العلماء أمثالي يبحثون عن نواقلَ فائقةٍ تعمل في درجة حرارة الغرفة ممّا سيمكّن تلك الدروع المغناطيسية من العمل في درجات حرارةٍ أعلى وأيضًا سيساعدنا في تقديم تطوراتٍ جديدةٍ للمجتمع مثل تقديم رعايةٍ صحيّةٍ أرخص فلن نحتاج أن نوفّر درجات حرارةٍ منخفضةٍ لجهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، ومع ذلك كانت الموصليّة الفائقة في درجات الحرارة المرتفعة لغزًا لعقودٍ لطالما كان التطوّر فيها بطيئًا.

كشخصٍ يعمل في الخط الفاصل بين الفيزياء والكيمياء، أنا أعتقد أن السرّ يكمن في اكتشاف موادَ جديدةٍ. فتاريخيًّا هذا هو الإطار الذي حدث بداخله تقدّمٌ لرفع درجة الحرارة الحرجة للنيتروجين السائل nitrogen liquid إلى درجةٍ أعلى من نقطة غليانه -196 درجةً مئويّةً.

إن استخدام النواقل الفائقة كدروعٍ مغناطيسيّةٍ لاستكشاف عدّة مناطق في المجرّات سيكون مفيدًا للغاية ولكن لن نستطيع أن نستخدمها في حالة الكواكب الأكثر دفئًا كالمريخ وسنضطر لاستخدام كميّاتٍ من المواد المبرّدة cryogens لنحتفظ ببرودة المغناطيس.

 

الحواسيب الكموميّة والثورة المجتمعيّة


إن تكنولوجيا النواقل الفائقة لها استخداماتٌ أخرى كثيرةٌ بعيدًا عن المركبات الفضائيّة، فمثلًا الحواسيب الكموميّة بإمكانها أن تنفّذ أوامر العمليات الآليّة أسرعَ بكثيرٍ من الحواسيب التقليديّة، ولا شكّ أنها سَتُستخدم في المركبات الفضائيّة الحديثة. فإذا كنت تريد إرسال رسالةٍ مشفّرةٍ لستار فليت Starfleet (منظمة فضائيّة في المسلسل) ينبغي عليك أولًا أن تفهم التكنولوجيا جيدًا لأن إذا كان قوم كلينغون لديهم حاسبٌ كموميٌّ قد يتمكنون من اعتراض واختراق رسالتك.

كما أنه من الطبيعي أن تستخدم الأنظمة الكهربائيّة فائقة التوصيل للحصول على أجهزةٍ أكثر كفاءةً، ابتداءً من محرّكات المركبة الفضائيّة وصولًا إلى التريكوردرز Tricorders المُستَخدمة في البعثات بعيدًا. فظهور النواقل الفائقة التي تعمل في درجة حرارة الغرفة سوف يُحدِث تحوّلًا في مجتمعنا من شأنه أن ينافس عصر السيليكون للإلكترونيّات الحديثة، لذا يُعَدّ اكتشافهم عقبةً أساسيّةً علينا التغلُّب عليها لنصل للمرحلة التالية من تطوّرنا كسلالةٍ وإلى عصرٍ تكنولوجيٍّ جديدٍ. بـالتالي سيكون من المنطقي أن نكمل البحث عن ناقلٍ فائقٍ يعمل في درجة حرارة الغرفة لأن المواد الكموميّة تفتح أعيننا على عوالم جديدة من الاكتشافات وربما تكون بداخلها أكثر التكنولوجيات إثارةً والتي ستستغل التأثيرات الكموميّة في نطاقٍ يسهل على البشر رؤيته. 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • مادة فائقة الموصلية (superconductor): هي مادة قادرة على نقل الإلكترونات أو إيصال الكهرباء دون وجود أي مقاومة.
  • الغلاف المغناطيسي (Magnetosphere): هي المنطقة من الفضاء التي تكون قريبة من جسم فلكي ما ويتم داخلها التحكم بالجسيمات المشحونة من قبل الحقل المغناطيسي للجسم.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات