هل يمكن لمستقبلك أن يؤثر على ماضيك؟ هذا ما تقوله ميكانيكا الكم

حقوق الصورة: Mikhail Leonov/Shutterstock
 

لا، جديًا! إنها ليست مزحة.

يُمكن تفسير أحد الجوانب الأكثر غرابة لميكانيكا الكم بفكرةٍ تضاهيه غرابةً، وهي أنّ السببية يمكن أن تعمل إلى الوراء وإلى الأمام في الوقت معًا، وما قد أسماه ألبرت آينشتاين بالتأثير الشبحي عن بُعد Spooky Action at a Distance أقرب لأن يكون دليلًا نظريًا على السببية الرجعية Retrocausality، وهي كل الظواهر أو العمليات الافتراضية التي تعكس العلاقة السببية، مما يتيح حدوث التأثير قبل سببه، تخيل أنّ آلام المعدة التي تُصيبك اليوم بسبب وجبة سيئة أكلّتها في غداء الغد، هكذا ستتصرف الجسيمات في المستوى الذري إن كانت مكافئةً لك.

وقد ألقى فيزيائيان من الولايات المتحدة وكندا نظرةً فاحصةً على بعض الافتراضات الأساسية في ميكانيكا الكم، وافترضا أننا إذا لم نكتشف أنّ الوقت يمر إلى الأمام بالضرورة بطريقةٍ ما، فإنّ القياسات التي أُجريت على الجسيمات يمكن أن تعود في الزمن إلى الخلف تمامًا كما تفعل إلى الأمام.

كُلّنا نعلم أنّ ميكانيكا الكم فرعٌ بالغُ الغرابة من العلم، وجزءٌ من هذه الغرابة يكمُن في أنّه على المستوى الأساسي لا تتصرف الجسيمات كما تتصرف كرات البلياردو الصلبة على سطح طاولة، ولكن بدلًا من ذلك، هي سحابةٌ ضبابيةٌ من الاحتمالات تتنقل في جميع أنحاء الغرفة.

هذه السحابة الضبابية، تغدو بؤرًا ذات تركيزٍ عالٍ عندما نحاول قياس الجسيمات، مما يعني أننا لا نرى سوى كرة بيضاء تضرب كرة سوداء في جيب منضدة البلياردو، وليس كرات بيضاء لا تُعد ولا تُحصى تضرب كراتٍ سوداء في كل الجيوب، وهذا الجدل قائمٌ بين الفيزيائيين حول ما إذا كانت السحابة تُمثل شيئًا حقيقيًّا، أو أنها مجرد تعبيرٍ مُبسّطٍ عن ظاهرةٍ غير معروفة. وقد ادّعى الفيزيائي هوو برايس Huw Price عام 2012، أنه إذا كانت الاحتمالات الغريبة وراء حالات الكم تعكس شيئًا حقيقيًّا، وإذا لم يكن هناك شيء يقيد الوقت ليتحرك باتجاه واحد فحسب، فالكرة السوداء في تلك السحابة إذًا من ضمن احتمالات كثيرة يُمكنها نظريًا أن ترجع من جيب منضدة البلياردو، وتعود لتصدم الكرة البيضاء كما لو كانت الأحداث تتحرك بتتابعٍ عكسي.

ويضيف برايس: "يعتقدُ النقاد أنّ هناك تماثلًا زمنيًّا كاملًا في الفيزياء الكلاسيكية، ومع ذلك لا توجد سببيّةٌ رجعيّةٌ واضحة. ولماذا يفترض إذًا أن يكون العالم الكمومي مختلفًا؟"، وبسؤاله هذا قد أعاد صياغة أفكار معظم الفيزيائيين.

وتساءل ماثيو إس. ليفر Matthew S. Leifer من جامعة تشابمان Chapman University في كاليفورنيا، وماثيو إف. بوزي Matthew F. Pusey من معهد بيريميتر للفيزياء النظرية PerimeterInstitute for Theoretical Physics في أونتاريو فيما إذا كان العالم الكمومي يختلف عندما يتعلق الأمر بالوقت. تبادل الطرفان بعض افتراضات برايس، وطبّقا نموذجهما الجديد على مبرهنة بيل Bell’s Theorem.

إذ يقول جون ستيوارت بيل John Stewart Bell: " لا يُمكن أبدًا تفسير الأشياء الغريبة التي تحدث في ميكانيكا الكم من خلال الأحداث التي تجرى في مكان قريب، كما لو أن ليس هناك ما يدفع العديد من كرات البلياردو أن تتخذ مثل هذه المسارات المتنوعة عند المستوى الأساسي، فالكون عشوائي".

ولكن ماذا عن الأحداث التي تجري في مكان آخر؟ أو في أي وقت آخر؟ هل يمكن أن يؤثر شيء بعيد على تلك السحابة دون لمسها، بطريقةٍ أطلق عليها آينشتاين شبحية؟ كما قد تُخمن، إنّ الكون لا يزال شبحيًا بشكلٍ مذهل.

إذا اقترن جُسيمان في الفضاء في نقطةٍ ما، فإنّ عملية قياس خاصية أحدهما تُحدّد لحظيًا قيمة خاصيّة الجُسيم الآخر، بغض النظر عن الموقع الذي انتقل إليه في الكون. وقد اختُبر هذا التشابك الكمي مرة بعد أخرى في ضوء مبرهنة بيل، سادًّا الثغرات التي قد تُظهِر أنّ الجسيمين في واقع الأمر يتفاعلان محليًّا بطريقةٍ ما رغم المسافة التي تفصلهما.

وربما حزرتم الجواب مرة أخرى، أن الكون ما زال يبدو غريبًا جدًّا.
 ولكن إذا رُتبت الأسباب بشكلٍ عكسي، فهذا يعني أن الجُسيم قد حمل قياساته إلى الوقت الذي كان لا يزال فيه متشابكًا، مما يؤثر على شريكه، فلن تكون هناك حاجة إلى رسائل أسرع من الضوء. وهذه هي الفرضية التي ذهب إليها العالمان ليفر وبوزي.

إذ يقول ليفر مخاطبًا ليزا زيغا Lisa Zyga التي تعمل في Phys.org: "هناك مجموعة صغيرة من الفيزيائيين والفلاسفة الذين يعتقدون أنّ هذه الفكرة تستحق المتابعة". ومن خلال إعادة صياغة بعض الافتراضات الأساسية، طوّر الباحثون نموذجًا يستند إلى مبرهنة بيل، حيث جرى تبديل المكان بالزمن. وعلى حسب فهمهم، ما لم نوضح سبب مرور الزمن للأمام فسنواجه بعض المتناقضات.

وغنيٌ عن القول، أن فكرة الـسببية الرجعية فكرةٌ هامشية. ويضيف ليفر: "لا يوجد على حد علمي تفسيرٌ متفقٌ عليه لميكانيكا الكم، يستعيد النظرية كلها لتستغل هذه الفكرة، لكنه يُعتبر فكرةً للتفسير في الوقت الراهن، لذلك أعتقد أن الفيزيائيين الآخرين متشككون بحق، والعبء علينا أن نُبين ونبرهن هذه الفكرة (أي الـسببية الرجعية)".

ولنضع في اعتبارنا الآن هذا النوع من السفر إلى الوراء عبرالزمن، فيؤسفني إخبارك بأن هذا ليس السفر الذي من شأنه أن يسمح لك بأن تعود في الوقت المناسب، وتغير الحاضر. ولن يكون لدى علماء المستقبل أيضًا القدرة على فك ترميز أرقام اليانصيب في الإلكترونات المتشابكة وإرسالها مرةً أخرى إلى أنفسهم، حينما كانوا أصغر سنًا ليفوزوا بها. وعلى أي حالٍ، فإنّ فكرة أن أي شيء يتقدم للأمام ويتراجع للوراء في الوقت معًا قد لا تكون جذابة، ولكن دعونا نواجه الأمر، فعندما يتعلق الأمر بظواهر مثل التشابك الكميّ، فإن أي تفسير لها سوف يبدو تمامًا من وحي الخيال.

نُشر هذا البحث في وقائع الجمعية الملكية Proceedings of The Royal Society A، ويمكنك الاطلاع عليه من هُنــــــــا.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • السببية (causality): تُشير إلى العلاقة الكائنة بين حدث (السبب) وحدث آخر (النتيجة أو التأثير)، حيث يكون الحدث الأول مسؤولاً بالضرورة عن ظهور الحدث الثاني.

اترك تعليقاً () تعليقات