تنبأ علماء المواد بمادتين مغناطيسيتين جديدتين (magnetic materials) وبنوهما ذرة بعد ذرة باستخدام نماذج حاسوبية عالية الإنتاجية. ويمثل مثل هذا النجاح بداية حقبة جديدة للتصميم على مقياس كبير للمواد المغناطيسية، بسرعة غير مسبوقة.
على الرغم من أن حياتنا اليومية تزخر باستخدام المغانط، إلا أنها نادرة في الواقع- تُظهر نحو 5% فقط من المركبات اللاعضوية المعروفة آثاراً للمغناطيسية. ومن بين تلك المواد، بضع عشرات منها تعد صالحة لتطبيقات العالم الحقيقي، وذلك بسبب التنوع في الخصائص مثل نطاق درجة الحرارة الفعالة ودوام المغنطة.
تجعل الندرة النسبية هذه المواد غالية الثمن ومن الصعب الحصول عليها، ما يجعل العديد يبحثون عن خيارات جديدة نظراً لأهمية المغانط في التطبيقات التي تمتد من المحركات إلى آلات الرنين المغناطيسي (MRI). تتضمن العملية التقليدية أكثر من التجريب والخطأ، حيث ينتج الباحثون بنى جزيئية مختلفة آملين بالحصول على واحدة ذات خواص مغناطيسية.
العديد من المغانط عالية الأداء هي في الواقع عبارة عن شذوذ منفرد بين الاتجاهات الفيزيائية والكيميائية التي تتحدى البداهة. وفر علماء المواد من جامعة Duke في الدراسة الجديدة، طريقاً مختصراً للعملية. وضحوا القدرة على التنبؤ بالمغناطيسية في المواد الجديدة عبر النماذج الحاسوبية حيث يمكن أن تصنف مئات الآلاف من المواد المرشحة بشكل مختصر. وليثبتوا أن طريقتهم تعمل، صنعوا مادتين مغناطيسيتين لم توجدا مسبقاً.
نُشرت النتيجة في مجلة Science Advances بتاريخ 14 نيسان/أبريل 2017. يقول أستاذ الهندسة الميكانيكية وعالم المواد ستيفانو كورتارولو Stefano Curtarolo، مدير مركز جينوميات المواد في جامعة Duke: "التنبؤ بالمواد المغناطيسية عمل مضنٍ واكتشافها أمر نادر جداً، حتى مع عملية التصنيف لدينا، استغرقنا سنوات من العمل لجمع توقعاتنا. نأمل أن يستخدم آخرون هذه المقاربة من أجل صناعة المغانط لاستخدامها في مجال واسع من التطبيقات".
ركزت المجموعة على عائلة من المواد تدعى سبائك هيوسلر (Heusler alloys)، وهي مواد مكونة من ذرات ثلاثة عناصر مختلفة مرتبة بواحدة من ثلاث بنى مميزة. بالنظر إلى جميع الخلائط والترتيبات الممكنة المتوفرة باستخدام 55 عنصراً، حصل الباحثون على 236,115 نموذج أولي محتمل ليختاروا منها.
بنى الباحثون كل نموذجٍ ذرة بعد ذرة في نموذج حاسوبي، وذلك من أجل تقليص اللائحة. ومن خلال حساب كيف ستتفاعل الذرات والطاقة التي ستحتاجها كل بنية، تقلصت اللائحة إلى 35,602 مركب مستقر محتمل.
ومن هناك، أجرى الباحثون اختباراً صارماً للاستقرار. بشكل عام، تستقر المواد في تشكيلات تتطلب أقل مقدار من الطاقة للحفاظ عليها. من خلال التحقق من كل مركب مقارنةً بتشكيلات ذرية أخرى وإقصاء تلك التي تفوقت عليها منافساتها، تقلصت اللائحة إلى 248.
من بين 248 مادة، أظهرت 22 منها فقط أهمية مغناطيسية محسوبة. أُقصيت أي مواد ذات بنى منافسة بديلة، وبقي 14 مادة مرشحة لتنتقل من النماذج النظرية إلى العالم الواقعي.
ولكن كمعظم المواد في المختبر، تبين أن تركيب المواد الجديدة أمر يصعب تحقيقه. يقول طالب الدكتوراه كوري أوسيس Corey Oses في مختبر كورتارولو، والمؤلف الثاني للبحث: "قد يستغرق الأمر سنوات للوصول إلى طريقة لصنع المواد الجديدة في المختبر. فيمكن أن نحتاج لظروف خاصة أو تواجهنا كل أنواع القيود والمعوقات. لكن مع ذلك، الاختيار من بين 14 أفضل بكثير من 200,000".
ومن أجل التركيب، لجأ كورتارولو وأوسيس إلى ستيفانو سانفيتو Stefano Sanvito، أستاذ الفيزياء في جامعة Trinity في دبلن، إيرلندا. بعد سنوات من محاولة خلق أربع مواد، نجح سانفيتو بخلق اثنتين.
مثل المتوقع، كلا المادتين مغناطيسيتان. صُنعت أول مادة مغناطيسية جديدة من الكوبالت والمنغنيز والتيتانيوم (Co2MnTi). من خلال مقارنة أوجه الشبه بينها وبين المغانط المشابهة بالبنية، تمكن الباحثون من التنبؤ بالخواص المغناطيسية الجديدة بدرجة عالية من الدقة.
وبشكل خاص، تنبؤوا بدرجة الحرارة التي تفقد عندها المواد الجديدة مغنطتها وهي 940 كلفن (1232 درجة فهرنهايت). وتبين أن درجة حرارة كوري (Curie temperature) من خلال الاختبار تساوي 938 كلفن (1228 درجة فهرنهايت)- رقم عالٍ جداً. وهذا ما يجعلها مفيدة في العديد من التطبيقات التجارية بالإضافة لعدم احتوائها على عناصر أرضية نادرة.
ويقول أوسيس: "تحوي العديد من المغانط عالية الأداء على عناصر أرضية نادرة. ويمكن أن تكون هذه المواد النادرة غالية الثمن ومن الصعب الحصول عليها، وبشكل خاص تلك التي توجد فقط في أفريقيا والصين. البحث عن مغانط لا تحوي عناصر نادرة أمرٌ هام، وخاصة أن العالم يبدو مبتعداً عن العولمة".
أما المادة الثانية فقد كانت مزيجاً من المنغنيز والبلاتين والبلاديوم (Mn2PtPd)، التي تبين أنها مواد مضادة فيرومغناطيسية (antiferromagnet) أي تنقسم إلكتروناتها بالتساوي عند انتظامها. هذا يعني أن المواد ليست ذات أهمية مغناطيسية داخلية، ولكن هذا يجعل إلكتروناتها تستجيب للحقول المغناطيسية الخارجية.
في حين لا تملك هذه الخاصية أي تطبيقات خارج استشعار الحقل المغناطيسي، والأقراص الصلبة، وذاكرة الوصول العشوائي RAM، فإن هذه الأنواع من المغانط يصعب التنبؤ بها. رغم ذلك، بقيت حسابات المجموعة للخصائص دقيقة.
ويختم كورتارولو: "لا يهم حقاً إن كان لهذه المغانط أهمية في المستقبل، فالقدرة على التنبؤ بسرعة بوجودها هو انقلاب كبير، وسوف تكون ذات قيمة لا تقدر بثمن بالنسبة لعلماء المواد الماضين قدماً".