أفكارٌ مستقبلية للتخلص من النفايات في المستعمرات الفضائية!

رسمٌ إبداعي للسفر في الفضاء عبر الثقب الدودي، وهي طريقةٌ لضغط الزمكان وتقليص الوقت اللازم للرحلة.


حقوق الصورة: NASA/JPL-Caltech/ESA/DLR/FU Berlin/MSSS


منذ بدء الثورة الصناعية، كانت الصحة البيئيّة اعتباراً ثانوياً للبشر في أحسن الأحوال. إنّنا نلوث الجداول والأنهار والبحيرات والمحيطات، باستخدام المبيدات الحشرية والأسمدة، ونفايات التعدين والنفط والمنتجات البتروكيماوية، والآلاف من المنتجات الخطرة الأخرى.


لقد وصل التلوث إلى نقطةٍ بحيث أصبح تنظيف البيئة -على المستوى الكلي وباستخدام المعدات الثقيلة- أمراً غير عملي، على الرغم من الجهود التي بذلت مؤخراً، إلا أن البشرية تخسر معركة إدارة النفايات، فلا تستطيع برامج إعادة التدوير التجارية والحكومية التعامل مع القدر الهائل من النفايات، إضافة إلى أن هذه البرامج تنجح فقط في تدوير المواد كالأوراق والألمنيوم والفولاذ. بشكلٍ عام، تعتبر الأشكال الحالية لتجميع وإعادة تدوير النفايات غير مرضية.


إذاً، هل هناك حلٌّ جذريٌّ لتحديات التلوث الضخمة؟ نعم، أعتقد بوجود أمل، ربما سيأتي من إعادة تدوير النفايات على المستوى الدقيق، وذلك عن طريق كسر روابط الجزيئات من خلال الوسائل الحيوية والميكانيكية، ومن المحتمل أيضاً أن تنشأ العديد من هذه الابتكارات من خلال الجهود التي تبذل لاستكشاف الفضاء والعيش به.

ما وراء رقعة القمامة


إنّني متيّمٌ بالبحث عن مستقبل النفايات الذي فيه يُعاد تدوير واستصلاح كل النفايات على الأرض. لتحقيق ذلك، لابد من إيجاد نقطة التقاءٍ بين التكنولوجيا الجديدة والرغبة الجادة في حماية البيئة.


تواجه البشرية تحدياتٍ هائلةً في إدارة الطلب المتزايد على المياه النظيفة والغذاء، والحفاظ على الموارد المتناقصة، والتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة، وعكس آثار التلوث وتغير المُناخ.


تم التخلص من مليارات الأطنان من البلاستيك في كوكبنا خلال الستين عاماً الماضية. إضافة إلى الكثير من الحطام المتراكم في المحيط الهادي الذي يطلق عليه "رقعة النفايات الضخمة في المحيط الهادي". يعتقد العلماء أن النفايات تنحدر تحت السطح، ما يجعل الوصول إلى قياسٍ دقيقٍ لكمياتها أمراً صعباً للغاية.


يتميز البلاستيك بالمتانة والرخص وقابلية التشكيل، ما يجعله خياراً سهلاً للمنتجات الصناعية والاستهلاكية، لذلك فإنه يشكل الغالبية العظمى من حطام رقعة النفايات. في عمليةٍ تسمى تجريد الصورة "photo degradation"، التي سببتها الأشعة فوق البنفسجية (UV) الصادرة من الإشعاع الشمسي (الأشعة من الطول الموجي 0.295 إلى 0.400 ميكرومتر)، حيث تم كسر البلاستيك إلى أجزاء متناهيةٍ في الصغر. تنصّ ناشيونال جيوغرافيك على أن العلماء قد جمعوا ما يقارب 750,000 قطعةٍ صغيرةٍ من البلاستيك من كيلومتر مربع واحد ضمن رقعة النفايات الضخمة في المحيط الهادي، والتي تساوي تقريباً 1.9 مليون قطعةٍ لكل ميلٍ مربع.

 


مسار أنظف نحو الفضاء


إنّ سباق البشرية للتوسّع نحو الفضاء يتطلب التغلب على المشاكل الجديدة والفريدة من نوعها. وقدمت العقبات التي تم التغلب عليها في وقتٍ مبكرٍ في مجال استكشاف الفضاء مساهماتٍ قيمةً فعليةً لتقنيات اليوم، كما ساعدت على معالجة المشاكل التي واجهناها على كوكبنا.

إن مستقبل استكشاف الفضاء لا يقتصر فقط على إطلاق المسابير للبحث عن الكويكبات والأجسام البعيدة -مع أهميته- ولكن الأهم من ذلك، هو خلق المَواطن طويلة الأمد، سواء للبعثات الحكومية أو التجارية، والتي يسمّيها باز آلدرين Buzz Aldrin "الديمومة". حدد رائد الفضاء السابق وخريج ما بعد الدكتوراة من معهد MIT للتكنولوجيا، خطةً طموحةً وعمليةً لاستيطان المريخ.

مع التحديات الهائلة التي تواجه البلدان اليوم -كتضاؤل الموارد الثمينة وآثار التغير المُناخي وتفشي الأمراض القاتلة والصراعات طويلة الأمد والهجرة البشرية الجماعية- فإن مشروع إعادة تدوير واستصلاح 100% من النفايات لن يكون في قائمة الأولويات. ولكن، ستكون أولويات رحلات الاستكشاف الفضائية طويلة الأمد هي الغذاء والماء والأكسجين والوقود، والتحكم بالبيئة، والحماية من أشعة الشمس، وكومة النفايات المتزايدة.

يتطلب المَوطن طويل الأمد إدارةً فعالةً للموارد، كالماء والهواء والمواد العضوية وغير العضوية، تلك المواد التي تدخل عادةً أكوام القمامة بعد أن تصبح بالية، وتشمل جميع الأشياء من أختام الأبواب لمواد التشحيم المستهلكة. على علمائنا مواصلة تحدي إعادة التدوير ووضع الحل الجذري نصب أعينهم، وستشكل إعادة تدوير المواد غير العضوية التحدي الأكبر. ستكون تكلفة إعادة النفايات إلى الأرض مرتفعةً جداً، ولكن سيكون من المذهل إعادة تدوير تلك النفايات إلى مركباتٍ مفيدةٍ للبيئة. مع موارد الأرض المتناقصة. كلما استطعنا إعادة تدوير واسترجاع النفايات وإعادة توظيفها في المنتجات التجارية، كلما استطعنا تمديد عمر موارد الأرض.


تحليل النفايات


قد تتحلل المنتجات البتروكيماوية -من المطاط الصناعي والمذيبات للألياف والمواد البلاستيكية- عن طريق مختلف الكائنات الدقيقة، التي تكسر روابط الكربون لإنتاج المواد الأولية مثل الميثان وثاني أكسيد الكربون والماء. تعدّ المَواطن الفضائية بيئةً مثاليةً لتجريب النظم المغلقة التي توظف الهندسة الحيوية لإعادة تدوير المنتجات البتروكيماوية عن طريق الكائنات الحية الدقيقة، حيث إنه في حالة إطلاقٍ عَرَضيٍّ للكائنات الحية، ستتوفر الفرصة الملائمة لفتح مساحة اختبارٍ في الفراغ. لماذا نستخدم الهندسة الحيوية للكائنات الدقيقة في الاختبار؟ لأنه لدينا الكثير من الأمثلة التي تدعم هذا المبدأ وتعطيه المصداقية.

منذ أربعين عاماً، اكتشف كل من شينيتشي كينوشيت Shinichi Kinoshita، ساداو كاجياما Sadao Kageyama، كازوهيكو إيبا Kazuhiko Iba، ياسوهيرو يامادا Yasuhiro Yamada وهيروسوك أوكادا Hirosuke Okada سلالة من الصَّيفَرِيَّة Flavobacterium، وهي جنسٌ من الجراثيم التي تهضم بعض المنتجات الأولية التي تنتج من تصنيع النايلون-6، وهو شكلٌ من أشكال ألياف النايلون، الذي يتميز بصلابته ومرونته وقدرته العالية على تحمل الشد، كما تتميز الألياف بمقاومتها للانكماش، إضافة إلى مقاومتها للتآكل والمواد الكيميائية كالأحماض والقلويات. من المعروف أن هذه المواد، التي لم تكن موجودةً قبل عام 1935، أصبحت مصدر طاقةٍ للبكتيريا. إن الكائنات الحية الدقيقة تمتلك معدل تكاثرٍ هائل، كما أنها سريعة التكيّف مع البيئات المتغيرة باستمرار.

أسفرت رحلة طلاب جامعة ييل مع أستاذ الكيمياء الحيوية الجزيئية سكوت ستروبل Scott Strobel إلى حديقة ياسوني الوطنية في الأمازون، عن اكتشاف فطرياتٍ طفيليةٍ نباتيةٍ (المشروم) قادرةٍ على أكل بلاستيك البولي يوريثين Polyurethane، (البولي يوريثين هو البوليمر الاصطناعي الذي يعتبر أساس الكثير من البلاستيك اليوم).


اتحادات الميثان، وهي مجموعةٌ متنوعةٌ موزعةٌ على نطاقٍ واسعٍ من بكتيريا الأركيا، والتي تتكون في بيئاتٍ لا هوائية، وتكون قادرةً على إنتاج غاز الميثان من عددٍ محدودٍ من المادة الأولية -بما في ذلك ثاني أكسيد الكربون والهيدروجين والأسيتات وميثيل الأمينات- وجدت هذه المادة لتفكيك الستايرين، عن طريق استخدامها كمصدرٍ للكربون، إضافة إلى العديد من الفطريات التي كسرت روابط البولي فينيل كلورايد الملدّن (PVC)، تم تحفيز التربة حيوياً عن طريق إدخال كتلةٍ حيويةٍ من القمح، والتي أثرت بشكلٍ كبيرٍ على أنواع الفطريات المتكاثرة على البولي يوريثين. وجد أن أكثر الفطريات نشاطاً قامت بتفكيك مادة البولي يوريثين حتى فقدت المادة 95% من قوة الشد.

يشتمل أحد الأمثلة على تحليل البتروكيماويات على بكتيريا على شكل قضيب، تدعى ألكانيفوراكس بوركومينسيس Alcanivorax borkumensis، والتي وجدت في المحيطات. إن هذه البكتيريا تستهلك الألكانات -وهي شكل من أشكال الهيدروكربون- كمصدرٍ رئيسيٍّ للحصول على الطاقة، بحيث تحللها إلى ثاني أكسيد الكربون وماء.

 

تصنف كبكتيريا هوائية تفضل العيش في البيئة المالحة كالمحيطات. تعد هذه البكتيريا من أقدم أنواع البكتيريا التي سكنت كوكب الأرض منذ بداية تشكله، وأدت إلى تسريب المواد الهيدروكربونية من قعر المحيط، ولقد ازدهرت بكمياتٍ كبيرةٍ عقب التسريب النفطي "ديب هورايزن" في خليج المكسيك، وساهمت في إزالة المواد الهيدروكربونية من مياه الخليج.


تبدأ الكائنات الحية الدقيقة بالهجوم على البتروكيماويات عند ظهور كل منتج، لقد قامت محطة مير الفضائية بتربية أكثر من 70 نوعاً من البكتيريا والعفن الفطريات في مكثفاتٍ منفصلة، في كرياتٍ مائيةٍ طافية، تختبئ وراء لوحات المحطة الكهربائية، إن للعفن القدرة على تحطيم المطاط إلى مركباتٍ قابلةٍ للهضم.


لقد فصّل مقالٌ في علم الأحياء الدقيقة التطبيقية والبيئية أنواع من الخمائر والبكتيريا والطحالب والأشنات، والتي تم العثور عليها تنمو على تحف البوليمر الاصطناعية وتحللها في المتاحف والمواقع الأثرية. ووجد أن الفطريات والبكتيريا هي المسؤولة عن زيادة فقدان المواد البلاستيكية في البولي فينيل كلورايد (PVC) والنشاط الأنزيمي على منتجات البولي يوريثان. أما الفطريات والبكتيريا التي تحلل الأخشاب، فقد حللت النايلون أنزيمياً، كما عطّلت الفطريات المنتجة للميلانين مواد الأكريليك.


لقد وجدت الراتنجات الفينولية، بوليمرات الفينول -فورمالدهيد- مكوناتٍ أساسيةً في منتجاتٍ مثل الباكليت -وهي تتحلل عن طريق فطر العفن الأبيض- فانيروشيت ذهبية الأبواغ (Phanerochaete chrysosporium). اعتُبرت تلك البوليمرات غير قابلة للتحلل، واعتباراً من عام 2006، أصبح الإنتاج السنوي لهذا النوع ما يقارب 2.2 مليون طن متر سنوياً في الولايات المتحدة.

 


هندسة الحياة من أجل معالجة النفايات


رغم عزلة المَواطن الفضائية، إلّا أنها تمثل فرصةً جيدةً لتجارب إدارة النفايات على المستوى الدقيق، والذي قد يشتمل على الكائنات الحية الدقيقة المعدلة وراثياً. ولكن لسوء الحظ، لن تكون هذه التجارب على قائمة الأولويات بالمراحل المبكرة لهذه المَواطن. من ناحيةٍ ثانية، ستكون الموارد ثمينةً جداً على أن يتمّ استخدامها في تجاربٍ "من الجيّد القيام بها".

 

لكن عندما تتطور المَواطن لتصبح بحجم المستعمرات التي تحتوي على آلاف المساكن، سيتحول استخدام هذه الموارد الثمينة إلى ضروراتٍ ملحّة، والتي ستشكل ضغطاً للإسراع في تطوير عملياتٍ ذات كفاءةٍ من أجل إعادة التدوير العضوي لمواد مثل البلاستيك، الذي سيزداد فقط عندما تنمو المستعمرات.


إنّ إنشاء وتوظيف البكتيريا المعدلة وراثياً، والفطريات والخمائر والطحالب والأشنات، ومنتجات إعادة تدوير البتروكيماويات تقع على عاتق قطاعات الكيمياء الحيوية، والهندسة الوراثية، والمهندسين-أو ما أود أن أطلق عليه "الكيمياء الحيوية لإدارة النفايات"- إلى أن يتوفر البديل وتتطور مواد إعادة التدوير.


أياً كان نوع التكنولوجيا الجديدة التي ستستخدم للمَواطن طويلة الأمد لإدارة النفايات غير العضوية، أو إعادة تدوير المواد إلى مكوناتٍ قابلةٍ للاستخدام أو كمواد بناء، أو أية أغراض أخرى، أملي الوحيد هو أن تستخدم لإيجاد حلول للمشاكل على موطننا الأصلي الأرض.


إن الخطوة الأولى لمعالجة النفايات على الأرض ستطبق على المرافق المنظمة، كالمنازل والمحلات التجارية. في وقتٍ لاحق، مع التكرار المستمر الذي سيحدّ من دورات حياة الكائنات الدقيقة، يمكن تطبيق الحلول على المياه والأماكن العامة، سيكون مستقبل إدارة النفايات باهراً!
 

ربما سيتم صنع المنتجات التجارية في المستقبل عن طريق التصنيع النانوي، الذي بدوره سيقضي على مشكلة ابتكار أساليب إعادة التدوير أو إيجاد أماكن لدفن القمامة، حيث يتمّ إعادة تدوير أو إصلاح المنتجات المصنعة بهذه الطريقة من خلال عكس عملية التصنيع النانوي، أو من خلال "النانتيز" كما اسميتها في سلسلة روايات الخيال العلمي "السفن الفضية".


كاختصاصيٍّ بمجال البيئة، لا أرى أن هذه الابتكارات المستقبلية مجرد رفاهيات، لكنني أراها ضروراتٍ اقتصادية. إذا كنا نود أن نمتلك متسعاً من الوقت للبحث والاستكشاف في نظامنا الشمسي، لبناء المَواطن و المشاريع التجارية على كواكب وأقمار بعيدة، يجب علينا أولا التأكد من سلامة النظام الاقتصادي العالمي، الذي يمدنا بالأموال والموارد اللازمة لإشباع مساعي التنقيب في الفضاء.


في الوقت الحاضر، يقدر عدد سكان العالم بـ 7.27 مليار إنسان، وبحلول منتصف القرن الحادي والعشرين، من المتوقع أن يزداد العدد ليصل 9.6 مليار. بغض النظر عن مشاريعنا الفضائية، فإن الغالبية الساحقة من هؤلاء البشر سيبقون على الأرض، وسيحتاجون إلى بيئة صحية وآمنة للمساهمة في الاقتصاد العالمي. إننا نحافظ على الإنسان في بيئةٍ متوازنةٍ ليس فقط من أجل الاقتصاد، ولكن لأن ذلك ما يتوجب علينا فعله.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات