تشرق الشمس من فوق قبة الصخرة، لتغمر أشعتها هذه البقعة المقدسة، من بين كل مظاهر الحياة يتخير شعاع الشمس فتاة في عقدها الثاني تتأبط كراس رسم وتتجه إلى زاوية في جدار يواجه سوقا شعبية، تجلس سلسبيل استعدادا لتسجيل مشهد الحياة في السوق بريشتها، فجأة تنبهها نغمة من هاتفها المحمول إلى أنها تلقت رسالة، تفتح الفتاة الرسالة، تتحرك أصابعها بسرعة على شاشة الهاتف، وفي خطفة بصر تختفي الفتاة بأدواتها دون أن تترك أدنى أثر، وكأن الجدار ابتلعها داخله.
يطالع عبود الخطيب الإعلان عن متطوعين للعمل في موقع إلكتروني مهتم بـ"علوم الفضاء"، ورغم حماسته التشجيعية في مباراة الديربي الإسباني من مدرجات الفريق الكتالوني، فإنه اهتم بملء الاستمارة، وضغط عبود "إرسال" فاختفى من مكانه دون أن يترك أدنى أثر كأنه لم يكن هنا من الأساس.
تفتح منار البيطار عينيها لتجد نفسها في بهو فرعوني فسيح، بدت لها أعمدته المنقوشة برسومات طالما أسرتها وكأنها مرسومة منذ أيام، أدهشها وجود أجهزة إلكترونية حديثة في هذا المكان، تشبه الحاسوب في كثرة أزراره، لكنها تحتوي العديد من الشاشات، لكن ما أدهشها أكثر تلك العين البريئة التي كانت تتطلع إليها أثناء استفاقتها..
ـ حمدا لله على سلامتك
ـ سلمك الله..
من أنت؟
ـ روان زيدان، أنت عربية؟
ـ نعم.. سورية.
ـ أهلا بأخت الوطن.
ـ أين نحن؟
ـ لست أدري، لكني فوجئت بوجودي هنا، وانشغلت عن دهشتي بتفحص هذا الجهاز العجيب، إنه يمتلك قدرة غريبة على فك شفرة لذاكرة البشرية في هيئة صور.
ـ حقا!!.. وكيف جئنا إلى هنا؟
ـ (في مرح طفولي) سنعرف عاجلا أم آجلا.. المهم أن نستكشف هذا المكان، أشعر أن وراءه أمرا شيقا للغاية.
...
على مقربة منهما وقف شاب يافع ينظر إلى عمود فرعوني ضخم شاهق الارتفاع، عليه كتابات ليست بغريبة عليه، مكتوبة بخط المسند الذي طالما جذب ناظريه في آثار سبأ، وكثيرا ما استعان به في تصميماته كنقوش لها هيبة تاريخية، غير أن الإعجاب الذي طل من وجه علي صابور امتزج بحيرة شديدة عن السبب الذي جمع "المصري" و"اليمني" في عمل أثري فني واحد و...
ـ هذا ليس أثريا.
انتزعه صوت أنثوي من حيرته، التفت فوجد فتاة تمسك بعدسة مكبرة ومازالت تتطلع إلى العمود مستأنفة:
ـ هذا العمود، ليس أثريا، أرجح أن عمره أسبوعين فقط.
ـ كيف عرفتي؟
ـ الخدوش من آثار النقش واضحة طازجة، في حين أن الأثر الأصلي لا توجد به هذه الخدوش.
ـ أنا علي صابور، من اليمن، كنت في البيت وفجأة وجدتني هنا.
ـ أهلا بك، أنا زينب المعلا، أدرس الفيزياء.
انتبها على صوت هادئ وجاد انطلق من مكبرات صوت موزعة في المكان يدعو الموجودين إلى الاجتماع أمام منصة فضية عليها شعار "الذرة"، واكتشفا أنهما ليس بمفرديهما في المكان، وأقبل جميع الموجودين نحو المنصة لمعرفة ما وراء هذا الاستدعاء، وأعينهم تتطلع إلى بعضهم البعض بآلاف الأسئلة.
.......
رحب "السيد همام" بالموجودين، وحياهم على وقوع الاختيار عليهم لهذه المهمة غير العادية، وعرف كل واحد منهم باسمه أمام الجميع، وبدأ يشرح لهم السبب الرئيسي من وجودهم هنا:
اختاركم أحد برامج الأمم المتحدة لتحويل كافة علوم وفنون ومعارف البشرية إلى صورة يسهل تعلمها وتعليمها، لتوصيلها إلى بعض البشر انقطعت عنا وعنهم الصلة منذ آلاف السنين.
سببت إحدى التجارب الزراعية على التحكم في التربة بواسطة الإشعاع لإخراج النباتات في موعد محدد تدمير حضارة "أتلانتا"، بعد أن فشلت التجربة وتفككت صفائح أرض الجزيرة، وبدأت في الانهيار إلى غور سحيق والمياه تغمرها من كل جانب.
هنا قرر صفوة القوم بها تصميم مركبة فضاء للسفر إلى كوكب اكتشفوه حديثا مثل الأرض تماما يسمى "المريخ"، لم تكن هناك حاجة للسفر إليه لأن الأرض كانت أنقى وأصلح منه للحياة، وسافروا بالفعل معهم جميع علومهم وأقاموا حضارة جديدة هناك، لكنها ارتدت للبدائية بشكل كبير بعد هلاك العمال والفلاحين في أتلانتا.
اضطروا إلى إنجاب المزيد من الأطفال والبدء من جديد، حتى هددتهم كارثة نووية اضطرتهم إلى بناء مستوطنات داخل أرض المريخ بعد تلوث هواءه تماما وتغير تركيبته، تقريبا وصلوا إلى نفس ما وصلنا إليه من التقدم الآن، لكنهم يتفوقون علينا في أمرين، الفن والسلام، فلم يحدث نزاع بين المستعمرات لديهم منذ ألف عام.
مؤخرا استطاعوا التواصل مع عالمنا عن طريق اختراق موقع فيسبوك، لكنهم فشلوا في توصيل رسائلهم وفشل فيسبوك في ترجمتها للرد عليها، حتى العلماء حاولوا اختراع برنامج للرد عليهم إلا أنه فشل في التواصل معهم اجتماعيا وإنسانيا، فقررت الأمم المتحدة في النهاية اختيار مجموعة من شباب السوشيال ميديا للتواصل معهم، وحددت شروطا معينة ظهرت في إجاباتكم عن الأسئلة التي وصلتكم في الإعلان التطوعي.
سأترككم مع هذا الكمبيوتر المتطور، سيمدكم بكل المعلومات، وعليكم إنجاز تصور مبدئي عن الطريقة التي ستنفذ بها المهمة، بالتوفيق أيها الشياطين الـ 16.
جلس الجميع حول مائدة مستديرة، وبدت الحيرة والتساؤلات تطل من أعينهم، حتى اندفعت سارة الراوي قائلة في جدية وحزم: "أولا، لنترك أي تساؤل عن حياتنا الخاصة خارج هذا المكان، ونركز على استغلال مهاراتنا كلها ومواهبنا في التوصل إلى الهدف المطلوب".
أيدتها على الفور أسماء يحيى، مضيفة "منذ فترة توصلت إلى أن أفضل طريقة لصنع محتوى تعليمي هو الاعتماد أولا على الصور، ثم الفيديوهات المصحوبة بالتعليق، ثم المحاكاة، وأخيرا رصد المعلومات في نقاط مقالية".
فقالت سمر الزغا مستدركة على حديث أسماء: "طريقة ممتازة، لكن هؤلاء الناس انفعالاتهم بالصور والمعلومات مختلفة عنا، فهم متطورون فنيا، لذا علينا ابتكار طريقة تمزج هذه المعارف بالفنون، بعيدا عن الفنون الخالصة، كمزج الفيديوهات التعليمية بموسيقى تصويرية، ووضع الصور التعليمية في أطر لها نقوش معينة".
وهنا تحمس أنس محادين وقال "يمكنني من خلال استفساراتهم وتعليقاتهم خلال الردود المتبادلة أن أحصر اهتماماتهم، وبالتالي نبدأ بإيضاحها لهم، فسوف يصنع ذلك أرضية مشتركة واسعة من التفاهمات تمكننا من اختصار المسافة في نقل بقية العلوم".
هنا تساءلت ليلاس قزيز: "هناك بعض البلاغيات التي ستسقط حتما بالترجمة من لغتنا إلى لغتهم، فبالتالي سيكون ما ننلقه إليهم منقوص، ويمكن أن يتجاهلوا مقولات لشكسبير أو المتنبي لمجرد عدم تأثرهم بها، فكيف نتجنب ذلك؟".
فأجاب شريف دويكات بسرعة كمن وجد ضالته: "يمكن بسهولة خلق لغة جديدة مشتركة بمثابة قاموس للطرفين، تأتي عن طريق ترتيب أهم الأعمال الأدبية وأهم الأدباء وأهم الاختراعات في أرقام، وهم يقومون بترتيب مشابه، وكل رقم لديهم يقابله رقم لدينا، فيستطيعون بسهولة الوقوف على قيمة المعارف التي ننقلها إليهم، على سبيل المثال لو اعتبرنا أينشتاين هو الفيزيائي رقم 1، فسيفهمون على الفور أهميته بمجرد النظر في القاموس للفزيائي رقم 1 لديهم".
فهتف طارق شعار "هايل"، وأضاف: "لكننا لن نستطيع القيام بذلك في التعريف بالحياة البرية وسلالات الحيوانات، قد لا يكون لديهم حياة برية من الأساس ويعتمدون على بعض الحيوانات المستأنسة، وهنا يمكن أن نقارن الحيوانات بالآلات، الحصان مثلا مقارنه بجرار القطار، والبيكتريا بفيروسات الكمبيوتر".
تقدم أنس عبود برأسه مستأذنا وقال "علينا معرفة تقويمهم أولا وطريقة حساب الأيام والسنين، بذلك يسهل ربط التطور المعرفي لدينا بتتابع السنين لديهم، مما يسهل عليهم تخيل الخط التاريخي للبشر على الأرض، وهو أمر مهم كمعلومة لهم في حد ذاته، فحين يقارنون حركة التطور لدينا بالسنين لديهم سيكتشفون النقاط الزمنية المشتركة بيننا، وأنهم مازالوا بشرا ليسوا غريبين عن الأرض، ما يقرب من شعورهم بالانتماء لنا ويسهل عملية التواصل".
وأبدى أنس الهود موافقته على فكرة أنس عبود، وأكمل: "أنا أيضا أستطيع ابتكار نظام تواصل مثل فيسبوك يضم اللغة الجديدة والقاموس الجديد الذي اقترحه دويكات، والأفضل أن نرسل إليهم العلوم والمعارف بشكل متقطع حتى يستطيعون استيعابها والتفاعل معها عبر هذا الموقع، وتدور النقاشات والاستفسارات تباعا".
تشجعت هبة الأمين، وقالت بصوت واثق بعد أن انتهت رهبة الموقف الأولى: "أنا أستطيع جمع علوم التنمية البشرية وترتيبها وتبويبها بشكل يسمح لكل من يتفاعل معها أن يعرف كيف خطا البشر خطواتهم من الصراع وعدم التواصل حتى التعاون والابتكار وإعمار الأرض".
سكت الجميع لحظة، فانتبه لصمتهم طارق سعيد وهو ما زال يعبث بقصاصة ورق في يديه، يشكلها ويعيد فردها، فانتبهوا هم أيضا إليه، فقال لهم بابتسامة طفولية: "لماذا تنظرون إلي؟"، فضحك الجميع، فاعتدل طارق في جلسته وقال: "بعد كل ما ذكرتموه خطرت لي فكرة قد تكون مفيدة في مسألة التواصل، يمكنني إذا حصلت على صور من حياتهم اليومية وأزيائهم وشكل مساكنهم أن أخلق عالما شبيها لهم عن طريق الرسوم المتحركة، ونستطيع تركيب علومنا ومعارفنا عليه، حتى إذا رأوا أنفسهم وهم يمارسون ما نمارسه سيستجيبون لممارسته بسرعة".
أبدى الجميع استحسانه للفكرة، وعلق حازم سيجري قائلا: "هذا عظيم، على كل منكم الآن أن يسجل ما يريد وأسئلته واستفساراته وأنا سأبحث عنها جميعا على هذا الحاسوب"، وأضاف باسما "اعتبروني جوجل المجموعة".
أخذت سارة تدون كل ما توصل إليه الشباب، وقالت في النهاية: "الآن لدينا تصور يمكننا أن نصيغه، سأكتبه أنا وسيراجعه أحدكم لغويا، ثم يترجمه آخر إلى أكثر من لغة، تمهيدا لإرساله إلى مسؤول المنظمة الأستاذ همام".
تراجع الجميع في مقاعدهم بعد انتهاء العصف الذهني وسرح كل منهم في خيالاته محاولا الوصول تجميع أفكاره، حتى قاطعهم صوت علي صابور متسائلا على استحياء: "ألا يجب أن نعرف أين نحن تحديدا على الأرض الآن؟ وفي أي بلد؟"، واكتست وجوه جميع الموجودين بالتساؤل نفسه، حتى عاجلهم طارق سعيد ساخرا: "حتى على الأكل نعرف ماذا سنأكل ومتى ستنقطع الكهرباء".