فيلم Inception - أعمق مما تظن

ملاحظة قبل أن تبدأ القراءة : سيفسد عليكم المنشور التالي متعة متابعة الفيلم لذا فأنا أنصحكم بالتوقف عن القراءة إن لم تكونوا قد شاهدتم فيلم Inception من قبل وذلك لسببين: فأنا سأقوم بكشف النقاط الأساسية لحبكة القصة، كما أن كلامي سيبدو غير مفهوم ولن يكون له أي معنًى بالنسبة لكم.

يشتهر الناقد الأدبي فرانك كيرمود Frank Kermode برأيه الذي يعتبر فيه أن جميع الأعمال الفنية الناجحة تمتلك القدرة على خلق تفسيرات واستنتاجات متعددة في عقول المتابعين بدلا من الوصول لنتيجة واحدة عند الجميع. يقول كيرمود: ”نحن نقرأ الأعمال الكلاسيكية لأننا نؤمن بأنها تحكي أكثر مما عناه المؤلف. بمعنًى آخر: إنّ ما يجعل الفن أمرا مثيرا وممتعا هو الغموض، وهو تلك القدرة على خلق الانطباعات المختلفة عند القراء و التجادل حولها في المدونات“.


صورة مأخوذة من أحد مشاهد الفيلم
صورة مأخوذة من أحد مشاهد الفيلم


وبالطبع فإن فيلم Inception مليء بالغموض (يضيع أولئك الذين يقومون بتحليل تأرجح البلبل في المشهد الختامي كلَّ المغزى من المشهد). لا يعني ذلك أن الفيلم هو تحفة فنية فريدة – فأنا شخصيا أعتبره عملا ذكيا تمكن من استقطاب رواد السينما بشكل واسع خلال الموسم الصيفي لكنه لا يقترب من عظمة الفيلم الشهير Dark Knight. وبذلك، فقد وجدت تفسير ديفن فارسيDevin Farci، بأنه الأكثر إقناعا، حيث يقول: 

"إن كل لحظة من فيلم Inception هي في الحقيقة حلم وليست واقعا. وأنا أظن أن هذا التفسير سيكون الأكثر قبولا لدى المشاهدين خلال السنوات القادمة ، ويتوجب على القراءات الأخرى للفيلم أن تكون مصقولة بمهارة عالية حتى تكون ذات اعتبار ولو لدرجة بسيطة. يوضح الفيلم ذلك بشكل جيد ولا يخفي أبدا تلك الحقيقة عن الجمهور. يجد البعض في ذلك أمرا بغيضا من الناحية الروائية إذ إنهم يعتبرون أي فيلم تجري كل أحداثه في المنام دون أن يربطها شيء بالواقع مضيعة لوقت المشاهدين.


إلا أن ذلك هو تماما ما كان يناقش مخرج الفلم نولان Nolan ببطلانه. فقد كان الفيلم عبارة عن مقاربة لطريقة عمل نولان كمخرج وما يريد إيصاله بالنهاية هو أن تنفيس المشاعر الذي يحدث في الحلم هو بذات الواقعية من تنفيس المشاعر الذي يحدث في أي فيلم آخر وهو أيضا بنفس تلك الدرجة من الواقعية التي تحدث في حياتنا. ففيلم Inception يحكي كيف تصنع الأفلام ، وما السينما إلا ذلك المنام المشترك بين الجمهور وهو الهمّ الحقيقي للمخرج.


أعتقد بأن Inception هو حلم لدرجة تكون فيها حتى لحظات الصحو - ما قبل الدخول في الحلم المشترك - هي حلم بحد ذاتها.


و دوم كوب Dom Cobb ليس مستخلصا للحقائق extractor، فهو لا يستطيع الولوج لأحلام الآخرين وهو ليس هاربا من شركة كوبول Cobol Corporation ففي لحظة ما يخبرنفسه بذلك، من خلال صوت "مال" والتي هي إسقاط من اللاوعي. تسأله مباشرة عن مدى واقعية العالم المحيط بهما حينما كان يطارده أناس بلا وجوه من أعضاء الشركة حول العالم."



ما يعجبني في هذا التفسير للفيلم أنه يبدو منطقيا من الناحية العصبية . إذ إن كلا من الاستغراق في حلم ومشاهدة فيلم هما تجربتان متوازيتان ومتشابهتان من وجهة نظر أدمغتنا. وفي الحقيقة بإمكاننا أن نعتبر الجلوس في صالة مظلمة لمشاهد فيلم رعب هو أقرب تمثيل لمرحلة حركات العين السريعة Rapid eye movement واختصارًا REM (وهي المرحلة من مراحل النوم التي يرى فيها الإنسان الأحلام التي قد يتذكرها بعدما يصحو - المترجم) ولكن بعينين مفتوحتين.



ولنلق نظرة على هذه الدراسة التي قام بها يوري حسون Uri Hasson ورافائيل مالاخ Rafael Malach في الجامعة العبريةHebrew University. لقد كانت التجربة بسيطة : إذا قاما بعرض الفيلم الكلاسيكي "الطيب والسيئ والقبيح" The Good, The Bad and the Ugly على المتطوعين وراقبا التغيرات الحاصلة على القشرة المخية من خلال آلة مسح الدماغ.



وجد العالمان أن أدمغة البالغين الذين كانوا يشاهدون الفيلم أظهرت نشاطا مميزا موحدا عند الجميع. (كان عنوان الدراسة: "تزامن النشاط القشري بين عناصر التجربة خلال الرؤية الطبيعية "). أظهر الناس درجة تشابه ملحوظة بشكل خاص عند تفعيل مناطق القشرة المخية البصرية visual cortex (لا توجد أية مفاجأة هنا بالطبع)، والتلفيف المغزلي fusiform gyrus (والذي كان يتفعل عندما تركز الكاميرا على وجه إنسان ما)، ومناطق مرتبطة بعملية اللمس (والتي كانت تتفعل عند عرض مشاهد تحتوي احتكاكا جسديا) وهكذا.

وإليكم خلاصة الدراسة:


"يظهر هذا التشابه الشديد بين المتطوعين أنه وعلى الرغم من متابعتهم لمشاهد حركية معقدة كانت أدمغتهم تومض معا بطريقة متزامنة زمانا ومكانا) أي أن نفس المناطق القشرية تضيء على آلة المسح بنفس الأزمنة (عند تعريضها لنفس
البيئة البصرية."

 

 
لكن يبقى من الجدير الإشارةُ إلى بعض المناطق الدماغية التي لم تكن تومض بشكل مشترك خلال العرض السينمائي وأجدرها بالملاحظة والذكر هي القشرة المخية أمام الجبهية Prefrontal cortex وهي المنطقة المسؤولة عن المنطق وتحليل النقاش وإدراكالذات. وقد وجد مالاخ وزملاؤه في أعمالهم اللاحقة أننا عندما نكون منخرطين في "عملية حسية حركية" مركزة-ولا يوجد ما يشد أحاسيسنا أكثر من صورة كبيرة متحركة وخلفية دولبي Dolby الصوتية- فإننا نثـبّط في الحقيقة هذه المنطقة القشرية أمام الجبهية . يزعم العلماء أن ذلك التثبيط يسمح لنا بأن نفقد إحساسنا بذاتنا خلال مشاهدة الفيلم.



"تظهر نتائجنا فصلا واضحا بين المناطق المسؤولة عن الأفعال المتعلقة بذاتنا والمناطق القشرية المنخرطة بالعمليات الحسية الحركية. ويمكن أن نضيف أن المناطق المتعلقة بذاتنا تخضع للتثبيط خلال المعالجة الحسية الحركية. وبهذا يصبح للمصطلح الإنكليزي الشهير "losing yourself in the act" أساس فيزيولوجي عصبي واضح."


إن ما تظهره هذه التجارب هو العملية الذهنية الأساسية التي تجري خلال مشاهدة الأفلام. إنها عملية يزداد فيها نشاط أحاسيسكم ويقل فيها على الرغم من ذلك الإحساس بالذات بشكل غريب.


و إليكم الآن الأمر المشوق في تفسيرنا هذا لفيلم Inception. تخضع أدمغتنا عندما نخلد إلى النوم إلى عملية مشابهة لتلك التي ذكرناها سابقا وهي تثبيط القشرية أمام الجبهية وتفعيل القشرية البصرية أكثر من المعتاد. ولكن ليس بنفس الاستثارة للواقع: لأن هذا النشاط شبه عشوائي وغير متوقع وغير مقيد بقيود الإحساس (غالبا ما يعزى ذلك إلى دفقات الناقل العصبي الدماغي ذي التأثير المنشط المعروف باسم الأستيل كولين والمفرز من جذع الدماغ نحو المناطق الدماغية العليا). يبدو الأمر كما لو أن قشرتنا المخية تمتع ناظرينا بسينما سريالية مالئة قصص وقت النوم الغريبة لدينا بجميع التفاصيل الوهمية التي يمكن أن تخدعنا بها.
 


يمكننا أن نضيف أن هناك حالة من التفعيل واسع النطاق لمناطق التشكيل الحوفي limbic areas (وهي المناطق المسؤولة عن المشاعر والذاكرة – المترجم) تحدث عندنا عند رؤية حلم ما. وهذا ما يفسر استيقاظنا فزعين وقد تصبب منا العرق البارد حتى عند رؤيتنا لأكثر كوابيسنا عبثية وهراء وحتى إن كانت مجريات أحداث الكابوس غير منطقية على الإطلاق.
 

أنا أعتقد ان فيلم Inception يحاول أن يزيل ذلك الحد الرقيق أصلا الذي يفصل بين الحلم ومشاهدة الأفلام. إذ أن أغلب النقاط الكبرى لحبكة القصة غير ذات معنى ومع ذلك تبدو لنا حقيقية بشكل مقنع وكأنها حلم فنقضم أظافرنا من القلق مع "علمنا" أنه مجرد فيلم سخيف (فلم نجد نفسنا فجأة نتابع مقطعا من الرعب في القطب الشمالي؟ لماذا جميع المرتزقة في اللاوعي لا يتقنون تسديد الرصاص ؟ لم لا يتقدم أولاد كوب في السن أبدا ؟). إننا نجلس على كراسينا الوثيرة مستمتعين بمضغ البوشار وخلط الخيال بالواقع وذلك بفضل الفصوص الدماغية الجبهية المثبطة والقشرة المخية المحرضة. إننا نتابع الفيلم دون أن نرتاب من العواقب الخاطئة أو أن نتذمر من من مؤثرات الفيلم غير المتقنة أو من ضحالة الشخصيات التمثيلية بل إننا نجلس، عوضا عن ذلك، باسترخاء تام فاقدين الإحساس بمرور الوقت من حولنا. وكأننا نحن من يقوم دوم كوب بالتلاعب به وهو يدخل دون أي عناء عميقا في أدمغتنا ليزرع فيها فكرة ما. لكن دوم كوب هذا - ولندعه هنا كريستوفر نولان - ليس بحاجة لأي مخدر خاص، إنه بحاجة لشاشة كبيرة فحسب.
 
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات