الأصل المادّي (الفيزيائيّ) للحوسبة الكونيّة

قد تكشف الطبيعة المادّية (الفيزيائيّة) للحواسيب عن حقائق عميقةٍ تتعلّق بقدراتها القويّة الفريدة.


تخيّل أنّك في معرض سياراتٍ لشراء سيارةٍ جديدة، وأتاك البائع ليقول لك: "هل تعلم أنّ هذه السيّارة ليست للقيادة فحسب؟

ستصمت مدهوشاً، ليكمل بعدها البائع ويقول لك: "هذه السيارة قادرةٌ على القيام بالكثير من الأشياء الأخرى، على سبيل المثال، قادرة على أن تتحوّل إلى دراجةٍ هوائيّة، وحتى طائرةٍ من الطراز الأول، وقد تعمل أحياناً كغواصة، والأكثر من ذلك أنها قد تصبح مركبةً فضائيةً أيضاً!".


ستعتقد حينها أنها دعابة، ولكن عند مقارنة ما قاله من الأمور المرنة نجد أنها تنطبق على حواسيبنا، حيث أننا نستطيع استخدام الآلة نفسها للطيران فوق تمثال الحرية باستخدام محاكي طيران، يمكننا عقد مشاريع ماليّةٍ من خلال برامج غوغل Spreadsheet، الحديث مع الأصدقاء على FaceBook، والقيام بالكثير من الأشياء الأخرى بواسطة آلةٍ مدهشة، عندما نفكِّر كيف يمكنها القيام بكلّ هذه الأمور معاً، تماماً مثل مقدرة السيارة على التحول إلى دراجةٍ أو سفينةٍ فضائية!


هناك خاصيّتان تقفان خلف قدرة الحاسوب على أن يكون بهذه المرونة، وأولاهما هي إمكانيّة برمجة الحواسيب، وذلك بإدخال سلسلةٍ من الأوامر المتّسقة، ويمكننا أن نتحكّم بسلوك الحاسوب. والخاصيّة الثانية هي أنّ الحواسيب كونيّة (شمولية)، فباستخدام البرنامج الملائم يمكن للحاسوب القيام بأيّ مسألةٍ لوغاريتميةٍ مهما كان نوعها، ما دامت الذاكرة والوقت متوافرَين للحاسوب وللمستخدم.


أصبحت فكرتا البرمجة والشمولية راسختين في ثقافتنا حتّى على مستوى الأطفال، ولكن بالتقدّم التاريخي نجد أنهما كانتا تعتبران سبقاً علمياً مثيراً، حيث تبلورت هاتان الفكرتان في عام 1937 على يد آلان تيورنغ Alan Turing، الذي جادل بأن أية عمليةٍ لوغاريتميةٍ يمكن أن تُحسب باستخدام برنامجٍ حاسوبيٍّ شامل، الآلة التي وصفها تيورنغ أصبحت معروفةً بعدها بآلة تيورنغ Turing machine، والتي اعتُبرت بدايةً للحواسيب المعاصرة.


لإثبات جدليته (نظريته)، كان تيورنغ بحاجةٍ إلى إظهار قدرة حاسوبه في حلّ المسائل اللوغاريتمية، ولم يكن ذلك بالأمر السهل، ففي الزمن الذي كان فيه تيورنغ، لم تكن فكرة اللوغاريتم رسميةً بعد، ولم يكن لها أيّ تعريفٍ رياضيٍّ واضح.


بكلّ تأكيد كان هناك رياضيّون قد اكتشفوا العديد من اللوغاريتميات في وقتٍ سابقٍ مثل مسائل الجمع والقسمة والضرب، إلى جانب تحديد الأعداد الأوليّة، حيث كان من الممكن لتيورنغ أنّ يثبت إمكانية حل هكذا مسائل باستخدام الحاسوب، ولكنّ هذه الأمور لم تكن كافيةً كأدلةٍ مساندةٍ له.


كان تيورنغ بحاجةٍ لنظريةٍ (جدلية) أكثر إقناعاً حول فكرة أنّ حاسوبه سيكون قادراً على حلّ المسائل اللوغاريتمية التي قد تُكتشف مستقبلاً، مما دفعه لتطوير العديد من الأفكار، ولكن لم يكن أيّ منها محتوياً على تفسيراتٍ رسميةٍ حول آلته لتقنع الآخرين بأنها قادرةٌ على حلّ اللوغاريتميات، ما جعله غير مقتنعٍ بأنّ الأدلة والتفسيرات التي يمتلكها كافيةً، تبعاً لكونها ذات طبيعةٍ غير رسميّة، حيث قال: "كلّ الجدليات (التفسيرات) التي يمكن إعطاؤها هي غير مؤكّدة، وهي أقرب إلى التكهنات (الآراء الشخصية)، ولهذا السبب لن تكون مقبولةً كتفسيراتٍ رياضيّةٍ مُرضية."


في عام 1985، عمل العالم الفيزيائيّ ديفيد دويتش David Deutsch في هذا المجال المتعلّق بفهم طبيعة اللوغاريتم أيضاً، ليقوم ببناء تصوّراته واستكشافاته حول العمليات اللوغاريتمية بكونها مرتبطة بأنظمةٍ فيزيائيةٍ بشكلٍ أكيد، حيث أنّ مثل هذه العمليات يمكن رؤيتها في العديد من الجوانب، مثل استخدام الإنسان آلة عدٍّ لجمع رقمين، يعتبر مختلفاً بوضوحٍ عن استخدام شريحة سيلكون لتسيير محاكي طائرة، بالرغم أنّ العمليتين ترتبطان بأنظمةٍ فيزيائيّةٍ ماديّة، وتخضعان للقوانين الفيزيائيّة ذاتها. وبأخذ ذلك بعين الاعتبار، قام ديفيد بوضع المبدأ (القاعدة) التالي، وسنستخدم كلماته الحرفيّة، بالرغم من كونها لغة تخصصية، إلا أنّها سهلة الفهم ومن الممتع قراءتها بالنسخة الأصلية:


كلّ نظامٍ فيزيائيٍّ محدودٍ مُنجزٍ يمكنه أن يحاكي جهاز نموذج حوسبةٍ كونيٍّ على نحوٍ مثاليٍّ للتحكم بأساليب محدودة.


بمعنى آخر، أي عمليةٍ فيزيائيّةٍ على الإطلاق، يمكنك محاكاتها باستخدام الحاسوب الكونيّ. تبدو الفكرة مذهلةً وجديدةً من نوعها، بأنّ آلةً واحدةً يمكنها أن تضمّ كل القوانين الفيزيائيّة التي يمكننا تخيّلها.


تريد أن تحاكي انفجار سوبرنوفا؟ أو أن تشكّل ثقباً أسود؟ أو حتّى انفجاراً كبيراً؟ يمكن لقانون (دويتش) أن يعلّمك كيف لحاسوبٍ كونيٍّ محاكاة كلّ ما سبق! أي أنّك إذا امتلكت الفهم الكامل لهذه الآلة، سوف تفهم العمليّة الفيزيائية كاملةً.


يذهب قانون دويتش لأبعد من جدليّات تيورنغ السابقة، ففي حال كان القانون صحيحاً، فعندها سيكون لأيّ حاسوبٍ كونيٍّ أن يحاكي أيّة عمليةٍ لوغاريتميةٍ على نحوٍ تلقائيّ، لطالما أنّ العمليات اللوغاريتمية هي فيزيائيّة بالوقت نفسه، كما يمكن استخدام الحاسوب الكونيّ للقيام بعملية الجمع على آلة العد (العدّاد)، أو تحريك محاكي طائرة باستخدام رقاقةٍ سيليكونية، أو القيام بأي أمرٍ آخر تختاره!


إلى جانب ذلك، على عكس جدليات تيورنغ غير الرسميّة، من الممكن إثبات القانون الذي وضعه دويتش، حيث يمكننا جزئياً أن نتخيل استخدام القوانين الفيزيائيّة لاستنتاج أنّ القانون صحيح ومُثبت.


من الممكن لما سبق أن يربط جدليات تيورنغ غير الرسميّة بقوانين الفيزياء، لتوفّر بذلك أساساً أمتن (أرسخ) لأفكارنا حول ماهيّة اللوغاريتم. بأخذ ذلك بعين الاعتبار، يمكن إجراء التعديل على قانون دويتش بطريقتين، الأولى: أنه لابدّ لنا أن نوسّع فكرتنا حول الحواسيب بما فيها الحواسيب الكمومية.


لا يغيّر هذا نوعيّة العمليات الفيزيائية التي يمكن محاكاتها باستخدام هذا القانون، ولكنها ستسمح بإجراء عمليات المحاكاة الكمومية بسرعةٍ وفعالية، ويعتبر هذا الأمر مهماً لاعتبار عمليات المحاكاة الكمومية من النوع البطيء عند استخدام الحواسيب العاديّة والتي قد تكون مستحيلةً حتّى أحياناً باستخدامها.


الأمر الثاني: لابدّ لنا أن نخفف من الاعتماد على قانون دويتش، فبدلاً من أن نطلب محاكاةً مثالية، يمكننا أن نسمح بالمحاكاة بدرجةٍ كيفيةٍ من النسبية، لتمثّل هذه الأخيرة الفكرة الأضعف من مفهوم محاكاة نظام، ولكن من الضروري أن يتمّ احتواءها في القانون.


مع هذين التعديلين، يصبح قانون دويتش


كلّ نظامٍ فيزيائيٍّ محدودٍ مُنجزٍ يمكن محاكاته بفعاليّةٍ ولدرجةٍ كيفيّةٍ من النسبية، وباستخدام آلةٍ تتبع نموذجاً كونياً كمومياً للحساب لتحكم بأساليبَ محدودة. لم يحاول أيّ أحدٍ حتى الآن استنتاج هذا النموذج لقانون دويتش من قوانين الفيزياء، ويعود جزءٌ من السبب لأننا لا نعرف إلى الآن ماهيّة قوانين الفيزياء أساساً! وجزئيّاً، لا نعرف للآن كيف يمكننا جمع الميكانيك الكمومية مع النسبيّة العامّة، لذلك فمن غير الواضح إذا كان بإمكاننا استخدام الحواسيب لعمليات المحاكاة وإدخالها في الجاذبية الكمومية، التبخّر في الثقوب السوداء مثالٌ على ذلك.


ولكن حتّى دون وجود نظريةٍ للكمومية، يمكننا طرح التساؤل حول إمكانيّة الحواسيب بمحاكاةٍ فعّالةٍ لأفضل النظريات في النماذج الفيزيائيّة، النسبية العامّة، والنموذج الأساسيّ لفيزياء الجزيئات.

يعمل العلماء بجدٍّ للإجابة على هذه الأسئلة، ففي السنوات السابقة، أظهر عالم الفيزياء جون بريسكل John Preskill ورفاقه كيف أنه من الممكن استخدام الحواسيب الكموميّة للمحاكاة الفعالة باستخدامها على عددٍ من مجالات نظريات الكمومية البسيطة، ليمكِّنك بالنظر إلى هذه النظريات وكأنها نماذج أولية عن النموذج الأساسي للفيزياء الجزيئيّة، ولكنّها تمتلك العديد من المبادئ الأساسيّة الخاصة بفيزياء الجزيئات.


لكن لم ينجح بريسكل وزملاؤه في تفسير كيفية محاكاة نظامٍ أساسيٍّ (نموذجي) كامل، ولكنّهم تغلبوا على العديد من العقبات التقنية في سبيل تفسير ذلك. ومن المصادق عليه أنّ إثباتاً لقانون دويتش لمحاكاة النموذج الأساسيّ سيتمّ إيجاده في الأعوام القادمة.


يبدو الأمر أكثر صعوبةً عندما يتعلق بالنسبية العامّة، حيث أنّها تسمح للصفات الغريبة التي تخترق الزمكان بطرقٍ ليست مفهومةً جداً إلى الآن. عددٌ من المؤمنين بالنسبية قاموا بتطوير تقنياتٍ عديدةٍ لمحاكاة أوضاع فيزيائيّةٍ محدّدة، ولكنّها ليست كاملة، فهناك تحليلٌ منظومٌ لآلية المحاكاة الفعالية للنسبية العامّة تمّ القيام بها، إلا أنّها لا تزال مشكلةً مفتوحةً ومثيرةً للجدل.


في كتابه The Sciences of the Artificial، فرّق كاتبه هربرت سيمون Herbert Simon بين علوم الطبيعة -كالفيزياء وعلم الأحياء- والتي ندرس نحن أنظمتها الظاهرية الطبيعية، إلى جانب العلوم الاصطناعية مثل علوم الحاسوب والاقتصاد، التي تعتبر صنعاً بشرياً وليست موجودةً بشكلٍ طبيعيّ.


بدايةً يبدو أنّ هذا النوع من العلوم (الاصطناعية)، لابد أن تكون جزءاً مخصّصاً من العلوم الطبيعية، ولكن باقتراح قانون دويتش، خصائص العلوم الزائفة مثل الحواسيب يمكنها أن تكون غنيةً بقدر غنى الأنظمة الفيزيائية (المادية) الطبيعية.
.
يمكننا تخيل استخدام الحواسيب لمحاكاة القوانين الفيزيائية، ولكن لأكثر من ذلك، يمكننا حتّى تعديل الحقائق الفيزيائيّة! ويكلمات عالم الحاسوب آلان كاي Alan Kay: "بالعلوم الطبيعية، أعطتنا الطبيعة عالماً كاملاً، ونعمل نحن على اكتشاف قوانينه، أمّا في الحواسيب، يمكننا أن نخلق نحن القوانين ونحدّد طبيعة هذه العلوم، ما يشكّل عاملاً مثيراً وشيّقاً بأنّنا أصبحنا على وشك إثبات القانون العلميّ الجوهريّ الخاص بهذه العلوم".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات