بروكلين، نيويورك - منذ فترةٍ طويلةٍ، يستخدم العلماءُ الرياضيات لوصف الخصائص الفيزيائية للكون. ولكن ماذا لو كان الكون في حدّ ذاته هو الرياضيات؟ هذا ما يعتقده عالم الكونيات ماكس تاغمارك Max Tegmark.
من وجهة نظر تاغمارك، كل شيء في الكون -بما فيه الإنسان- هو جزء من بنية رياضية، ويوضح بأن كل جسم يتألف من جزيئات ذات خصائص مثل الشحنة والدوران المغزلي، لكنها خصائص رياضية محضة. بالإضافة إلى أن الفضاء بحدّ ذاته يمتلك خصائص مثل الأبعاد، ولكن في النهاية ما هو إلا تركيب رياضي.
إذا تقبلتَ فكرة أنه ليس للفضاء والمواد التي فيه على الإطلاق خصائص ما عدا تلك الرياضية، إذن ففكرة أن كل شيء رياضي "ستبدو أقل جنوناً"، حسبما أوضح تاغمارك في خطاب قدمه في 15 من شهر يناير/كانون الثاني في بل هاوس Bell House. ارتكز الخطاب على كتابه "كوننا الرياضي: سؤالي عن الطبيعة النهائية للواقع" (Knopf 2014).
قال تاغمارك: "إذا كانت فكرتي خاطئة، فإن الفيزياء محكوم عليها بالفشل في نهاية المطاف". وأضاف: "إذا كان الكون حقاً رياضياً، فلا يوجد شيء لا يمكننا فهمه من حيث المبدأ". [سبعة حقائق مفاجئة عن الكون]
الطبيعة مليئة بالرياضيات
تتبع الفكرةُ رصد الطبيعة المليئة بالأنماط، مثل سلسلة فيبوناتشي (Fibonacci sequence)، وهي سلسلة من الأرقام حيث يمثل كل رقم مجموع الرقمين اللذين يسبقانِه. على سبيل المثال: إزهار نبات الخرشوف يتبع هذا التسلسل، حيث المسافة بين كل بتلة والتالية، كنسب الأرقام في السلسلة.
والأشياء الجامدة أيضاً تتصرف على نحو رياضي، فإذا رميت كرة المضرب في الهواء، فإنها ستتبع مساراً قطعياً مكافئاً (parabolic trajectory) تقريباً. كما أنّ الكواكب والأجسام الفلكية الأخرى تتبع مدارات بيضوية (elliptical orbits).
"هناك جمال وبساطة أنيقة في الطبيعة التي تُظهرها الأشكال والأنماط الرياضية، استطاعت عقولنا أن تُدركها" حسبما أوضح تاغمارك الذي يُحب الرياضيات كثيراً لدرجة أنه علّق صوراً للمعادلات الرياضية المشهورة في غرفة الجلوس.
إحدى النتائج التي تَنجُم عن الطبيعة الرياضية للكون، هو أن العلماء باستطاعتهم التنبؤ نظرياً بكل ملاحظة أو قياس في الفيزياء. ونوه تاغمارك إلى أن الرياضيات تَنبّأت بوجود كوكب نبتون وموجات الراديو وجسيم بوزون هيغز (Higgs boson particle) لشرح كيف تكتسب الجسيمات الأخرى كتلتها.
بعض الناس يقولون أنّ الرياضيات هي مجرد أداة اخترعها العلماء لتفسير العالم الطبيعي، ولكن تاغمارك يدّعي أن البنية الرياضية التي وُجدت في العالم الطبيعي، تُظهِر أن الرياضيات موجودة في الواقع وليس فقط في العقل البشري.
وبالحديث عن العقل البشري، هل يمكننا استخدام الرياضيات لتفسير العقل البشري؟
رياضيات الوعي
يصف البعض العقل البشري بأنه أعقد بنية في الكون. بالفعل، جعل العقل البشري كل الخطوات العظيمة في فهم عالمنا ممكنة.
يقول تاغمارك: "على الأغلب، يوماً ما سيتمكن العلماء من وصف الوعي باستعمال الرياضيات"، ويقتبس عن كارل ساجان قوله: "الدماغ هو مساحة كبيرة جداً، في مساحة صغيرة جداً".
يقول تاغمارك: "الوعي هو ربما كيف تشعر المعلومات أثناء معالجتها، بطريقة معقدة للغاية". وأشار إلى أن العديد من التقدّمات الخارقة في الفيزياء، تَضمّنت التوحيد بين أمرين كان يُعتَقد سابقاً أنهما منفصلان: الطاقة والمادة، الفضاء والزمن، الكهرباء والمغناطيسية. وقال إنه يظن بأن العقل الذي يمثل الشعور بالوعي الذاتي، سيتحد في النهاية مع الجسد الذي هو عبارة عن مجموعة من الجسيمات المتحركة.
إذا كان العقل مجرّد رياضيات، هل يعني هذا أنّ الإرادة الحرة لا وجود لها لأن حركة الجسيمات من الممكن أن تقاس بالمعادلات؟ ليس بالضرورة، حسبما أجاب تاغمارك.
الطريقة الوحيدة للتفكير في ذلك هي: إذا حاول حاسوب محاكاة ما يفعله إنسان ما، سيستغرق ذلك على الأقل نفس الزمن في أداء الحركة. لذلك اقترح بعض الناس تعريف الإرادة الحرة بعدم قابلية التنبؤ بما سيفعله أحدٌ ما قبل ظهور الحدث.
لكن هذا لا يعني أنّ الإنسان بلا حول ولا قوة، و اختتم تاغمارك حديثه بدعوة إلى العمل: "البشر لديهم القدرة ليس فقط لفهم عالمنا، بل لتشكيله وتحسينه".
