علماء فيزياء يجرون أوّلَ رصدٍ لضغط الضوء الدافع

عندما يصطدم الضوء بسطح المائع، ينعكس جزء من الضوء وينتقل الجزء المتبقي؛ وتبين التجارب الجديدة أن سطح المائع ينحني إلى الداخل، وهذا يعني أنّ الضوء يدفع السائل بالتوافق مع نموذج كميّة حركة الضوء الذي وضعه ماكس ابراهيم.


على مدار أكثر من 100 عام، ناقش العلماء السؤال الآتي: عندما ينتقل الضوء عبرَ وسط ما مثل الزيت أو الماء، هل يقوم الضّوء بسحب هذا الوسط أم دفعه؟ 

استنتجت معظم التجارب التي أُجريت على الضوء أنه يمارس ضغطًا ساحبًا (pulling pressure)، لكن، وفي ورقة بحثية جديدة لعلماء فيزياء، وجد العلماء وللمرة الأولى أدلةً على أن الضوء يمارس ضغطا دافعاً (pushing pressure).

يعتقد العلماء أن هذا التناقض الظاهري غير أساسي، ويمكن تفسيره بالاعتماد على التفاعل بين الضوء والوسط المائع؛ فإذا استطاع الضوء تحريك المائع، فإنه يمارس قوة دفع؛ وإذا لم يكن كذلك، فإنه يمارس قوة سحب.

نشر الباحثون لي تشانغ Li Zhang ويلونغ تشي Weilong She ونان بينغ Nan Peng من جامعة صن يات تشين في قوانغزو بالصين، وأولف ليونهارت Ulf Leonhardt من معهد وايزمان للعلوم في رحوفوت بإسرائيل، ورقةً علمية عن أول دليل على وجود الضغط الدافع للضوء، في العدد الأخير من دورية  New Journal of Physics.

مينكوفسكي مقابل ابراهيم 


يعود النقاش حول طبيعة ضغط أو كمية حركة الضوء إلى عام 1908، عندما توقّع هيرمان مينكوفسكي، الذي اشتُهر بتطوير البعد الرابع "زمكان مينكوفسكي" المستخدم في النظرية النسبية لأينشتاين، أن الضوء يُمارس قوة سحب. وفي عام 1909، تنبأ الفيزيائي ماكس إبراهيم عكس ذلك تماما، متوقِّعًا أن الضوء يمارس قوة دفع.

يقول ليونهارت: "تجادلَ العلماء لأكثر من قرن من الزمن حول كمّيةِ حركة الضوء في المواد؛ فمن هو المُحق: ابراهيم، أم مينكوفسكي؟ وقد اكتشفنا أن كمية الحركة ليست الكمية الأساسية، وإنما التفاعل بين الضوء والمادة، وذلك يعتمد على قدرة الضوء على تحريك المواد، فإذا كان الوسط لا يتحرك، فالأمر كما قال مينكوفسكي، وإذا تحرك فإنّ إبراهيم هو المحقّ، وذلك ما لم يكن مفهومًا في السابق".

(أ) كمية حركة الضوء وفقاً لنموذج مينكوفسكي، و(ب) كمية حركة الضوء وفقاً لنموذج ابراهيم. Credit: Zhang, et al.
(أ) كمية حركة الضوء وفقاً لنموذج مينكوفسكي، و(ب) كمية حركة الضوء وفقاً لنموذج ابراهيم. Credit: Zhang, et al.


يُمكن التمييز بين النوعين المختلفين من الضغوط تجريبياً عبر إضاءة سطح السائل باستخدام شعاع ضوئي، ورؤية ما إذا كان المائع يرتفع أم ينخفض. فإذا انتفخ سطح المائع للخارج، فإنّ ذلك يعني أنّ الضوء سحب المائع، وهذا يتوافق مع نظرية مينكوفسكي. أما إذا انحنى السطح إلى الداخل، فذلك يعني أنّ الضوء يدفع المائعَ، وهذا يتفق مع نظرية إبراهيم.

في الوقت الذي تتفق فيه توقعات النظريتين في الفضاء الفارغ الذي يمتلك معاملَ انكسارٍ مساويًا لـ 1، فأنهما تختلفان عندما يتعلق الأمر بأي وسط يمتلك معامل انكسار أكبر من 1.

وفي دراسة جديدة، بيّن العلماء أنهم تمكنوا من جعل السطح ينحني إلى الداخل، وهذا منسجم مع الضغط الدافع، وجرى ذلك باستخدام شعاع ضوء واسع نسبيا، ووعاء كبير نسبياً، وهما عاملان يدفعان الضوء إلى خلق نمط تدفق في المائع، وبرهن الباحثون على أن هذه القوة ضاغطة في الماء والزيت اللذين يمتلكان معاملات انكسار مختلفة، وهذا يتوافق مع نظرية إبراهيم.

 

في التجارب السابقة، التي وجدت أن الضوء يُبدي ضغطًا ساحبًا، استخدم الباحثون أشعّةَ ضوءٍ أضيقَ، وحاوياتٍ أصغرَ من تلك الموجودة في التجربة الحالية؛ ولذلك عدّل الباحثون هنا تجربتهم الأصلية باستخدام شعاع أضيق، وكشفت نتائجهم في هذا النظام الجديد عن وجود ضغط ساحب، وهذا متوافق مع تجارب الدراسات السابقة، مما يشير إلى أن طبيعة الضغوط لا تعتمد على الضوء فقط، وإنما على المائع أيضاً. 

 الضوء وكرات السنوكر 


بالعودة خطوة إلى الوراء، يحق لنا أن نسأل لماذا يتمتع الضوء بكمية حركة في المقام الأول؟ يوضح ليونهارت أن كمية حركة الضوء مختلفة قليلا عن طاقته، ويمكن أن تُفهم على أنها الضغط الذي يسبب الحركة بشكلٍ مماثل لكرات السنوكر (أي، البلياردو).

 

تخلق كمية حركة الضوء، جنبا إلى جنب مع الرياح الشمسية، ذيول المذنبات عن طريق دفع مواد المذنبات. Credit: European Southern Observatory
تخلق كمية حركة الضوء، جنبا إلى جنب مع الرياح الشمسية، ذيول المذنبات عن طريق دفع مواد المذنبات. Credit: European Southern Observatory


يقول ليونهارت: "تخيّلْ لعبةَ السنوكر، يركلُ اللاعبُ كرةً واحدة، وهذه الكرة تركلُ أخرى، وهكذا. وفي كل هذه الركلات، تسببت كمية الحركة التي قدّمها اللاعب للعصا بحركة كل الأشياء. وبالمثل، فإنّ بإمكانِ الضوء دفع المواد تماما ككرات السنوكر، لكنّ هذه الركلات تكون ضئيلة في بعض الظروف، ومع ذلك يُمكن لركلات الضوء أن تكون قوية. ومن الأمثلة على ذلك ذيل المذنب، فقد تكهّن يوهانس كبلر منذ زمن طويل أن ذيول المذنبات هي نتيجة لدفع الضوء للمواد الموجودة على المذنبات لأنها دائما تتتجه مبتعدة عن الشمس، ونحن نعرف الآن أنه كان على حق جزئيا؛ إذ يتم ما تبقى من الدفع بواسطة الرياح الشمسية. تُسمى القدرة على وضع الأشياء الميكانيكية في حالة حركة بكمية الحركة (momentum)، وهي ليست كالطاقة، لكنها غالباً ما ترتبط معها بشكلٍ وثيق". 

استمر ليونهارت بشرح فكرةِ أن الخلاف الكائن بين الطبيعة الساحبة والدافعة لكمية حركة الضوء تتعلق فقط بالحالات التي لا ينعكس فيها الضوء بشكلٍ كامل عن الجسم، حيث ينتقل جزء منه على الأقل إلى المادة. ويُضيف: "لا توجد أي مشكلة مرتبطة بمفهوم كمية الحركة إذا ما انعكس الضوء عن مرآةٍ أو عن جسيمات الغبار في مذنب ما على سبيل المثال؛ لأن توازن كمية الحركة هنا بسيط جداً، فضَعفُ كمية الحركة يتسبب في الحركة الحاصلة، ويشمل ذلك كمية الحركة الواردة وتلك المنعكسة". 

ويتابع قائلاً: "لكنْ إذا انتقل جزء من الضوء إلى داخل المادة فإنه يجب أخذه بعين الاعتبار. وهنا يكون من المهم جداً معرفة فيما إذا كانت كمية الحركة التي نقلها الضوء متوافقة مع نظرية ابراهيم أو مينكوفسكي، لأنها تؤثر على التوازن الكلّي لكمية الحركة سواءً أكانت موجبة أم سالبة. في حالة ابراهيم، يقود التوازن الكلي إلى الدفع، أما في حالة مينكوفسكي فيقود إلى السحب". 

تتمتع نتائج هذه الدراسة بأهمية نظرية بحتة وعملية؛ فمن الناحية النظرية البحتة، تساعد النتائج العلماء في الحصول على فهم أفضل لطبيعة الضوء؛ ففي حين أنه على مدار فترة طويلة من الزمن كان من المعروف أن الضوء يحمل كلاً من الطاقة وكمية الحركة وتُحسب طاقة الفوتون بضرب تردده بثابت بلانك، إلا أن وصف كميّة حركة الضوء لم يكن أبداً بالأمر السهل، فهل تزداد كمية الحركة أم تنقص تبعًا لزيادة معامل انكسار الوسط؟ 

استنتجت النتائج أن الجواب يعتمد على ما إذا كان بإمكان الضوء تحريك الموائع أم لا؛ فإذا استطاع ذلك، فإن كمية حركته تتناقص وهو يُمارس قوة ابراهيم الدافعة؛ أما خلاف ذلك، فإنّ كميّة الحركة تزداد، ويمارس الضوء قوة سحب مينكوفسكي. قد يكون هذا التمايز مفيدا جدا، فقد بدأ العلماء مؤخرا بتطوير تطبيقات تستفيد من كمية حركة الضوء، أو ضغطه، وتُعرف إحدى هذه التطبيقات بالاندماج النووي عطاليّ المحتوى (inertial confinement fusion)، الذي يستخدمُ قوّة كميةِ حركة الضوء لإشعال الاندماج النووي. 

يستطيع الفيزيائيون أيضا استخدام تبادل كمية الحركة بين الضوء ومرآة مهتزة لتبريد المرآة وصولاً إلى حالتها الكمومية الأرضية (quantum-mechanical ground state)؛ كما أنّ تقنيات التلاعب البصرية، مثل الملاقط البصرية، تستخدم أيضاً الضغط اللطيف للضوء للحفاظ على الخلاي والتلاعب بها في التطبيقات الطبية الحيوية وهندسة النانو. ويأمل الباحثون هنا في أنْ يُسهمَ الحصولُ على فهمٍ أفضل لكمية حركة الضوء في إنجاز تلك التطورات.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات