هل المستقبل مكتوب سلفاً؟

عالم كونيات يرفض فكرة آينشتاين القائلة بأن الزمن مجرّد وهم وأن المستقبل مكتوب سلفاً.


جورج إليس George Ellis لا يهاب تحدي المُسَلَّمَات. كان أيام شبابه في جنوب أفريقيا ناشطاً ضد عنصرية الحكومة وفسادها. أما الآن فهو عالم كونيات بجامعة كيب تاون ومهتم بموضوع أكثر تجريداً: سريان الزمن!


في بدايات القرن العشرين طرح آينشتاين فكرته بخصوص الزمن، وفحواها أن سريان الزمن مجرد وهم وأنه لا يوجد فرق بين الماضي والمستقبل.


يرى إليس أن لهذه النظرة السائدة عن الزمن تبعات فلسفية خطيرة، ففكرة أن الزمن مجرّد وهم وأن الماضي والمستقبل شيء واحد تحرمنا من الإرادة الحُرة، بل وتجرِّدنا من المسؤولية الأخلاقية. 


مدفوعاً بوجهة نظره الأخلاقية، حدد إليس هدفه العلمي بوضوح، وهو إرجاع الزمن إلى الفيزياء، بما يسمح للكون أن يخلق مصيره، والذي يمنحنا نحن البشر القدرة على تغيير مصيرنا.




نشأة عالِم كونيات:


بينما كان يقضي إجازة تفرّغ علمي بجامعة كامبريدج University of Cambridge، صقل إليس نظريته الجديدة عن الواقع. تنص النظرية على أن الزمن يمر والمستقبل لم يُكتب سلفاً. وكما تعرفون فإن جامعة كامبريدج هي المؤسسة العلمية التي تتفاخر بأن العالم إسحاق نيوتن Isaac Newton درس ومن ثم عمل فيها كأستاذ في القرن السابع عشر، فكيف رأى نيوتن الزمن؟

في كتابه بعنوان مبادئ الرياضيات (Principia Mathematica) قام الفيزيائي نيوتن بوضع فكرته عن الزمن، وهي فكرة متناسقة مع ما نراه ونحسه في حياتنا اليومية. تقوم فكرة نيوتن عن الزمن على تصوّر الكون كساعة ضخمة تدق بشكل مستمر وثابت عند مرور الثواني، والدقائق، والساعات. لا يهم أين موقعك في الكون ولا تهم السرعة التي تتحرك بها. وفقاً لنظرية نيوتن؛ الزمن يمضي قُدماً بلا توقف أو توهُّم، وبناءً على ذلك، لن يختلف شخصان على أن السيد إليس يستغرق 10 دقائق ليشرب قهوته وهو جالس على مقعد بباحة كلية ترينيتي (Trinity College) المورقة، قبل أن يضع كوب القهوة بجانبه، ولن يختلف شخصان على أن إليس سيستمع كل 15 دقيقة إلى جرس برج الساعة المزخرف بالكلية، وهو البرج الذي تم تشييده قبل دخول نيوتن للكلية بنصف قرن.

أما مسيرة إليس فقد بدأت في جوهانسبيرغ سنة 1939م حيث وُلد لأب إنجليزي مهاجر. بعدها انتقلت الأسرة الى مدينة كيب تاون وكان إليس حينها في الـ 12 من عمره وبدأ بارتياد مدرسة داخلية. في تلك الفترة أظهر إليس إهتماماً بتفكيك نماذج القطارات وتركيبها مرة أخرى ليرى كيف تعمل. 


في سنة 1948م تبدّلت الحياة في جنوب أفريقيا للأسوأ بسبب تكوّن نظام الفصل العنصري (apartheid) والذي يميز البيض عنصرياً عن السود، والملونين، والآسيويين. وبما أنه جنوب إفريقي أبيض، يقر إليس أنه كان بمقدوره النأي تماماً عن موضوع العنصرية لولا موقف والديه. فكلاهما كان مناهضاً لنظام الفصل العنصري، حيث كان والده يكيل الانتقادات لهذا النظام عبر كتابة المقالات في الجرائد. 

 

جورج إليس: يبدو أن آينشتاين ذهب بعيداً جداً – المستقبل لا يمكن أن يكون قد كُتِبَ سلفاً.
جورج إليس: يبدو أن آينشتاين ذهب بعيداً جداً – المستقبل لا يمكن أن يكون قد كُتِبَ سلفاً.


في الجامعة، درس إليس الهندسة المعمارية لمدة سنة وبعدها تحوّل إلى الفيزياء والرياضيات. في هذا الصدد يقول إليس ضاحكاً أنه لم يكن يملك الخيال الكافي لتصميم مبنى، ومع ذلك وجد نفسه منجذباً لاكتشاف تصاميم الكون الكبير. وكما هو حال كل الذين درسوا الفيزياء في ستينات القرن الماضي، عرف إليس أن التصاميم الأساسية للكون قد وضعها آينشتاين. منذ ذلك الحين بدأت معضلة الزمن تراود إليس. 



داخل الكون المُغلق:


في سنة 1905م أطاح آينشتاين بمفهوم نيوتن المتناسق والقياسي للزمن وأبدله بمفهوم جديد للزمن، مفهوم متعارض ونسبي. فعند آينشتاين، الزمن نسبي والفترات الزمنية للأحداث وتسلسلها يمكن أن يختلف حسب الشخص المُراقِب. وقد توصل آينشتاين أيضاً لحقيقة مثيرة للانتباه وهي أن الزمن في حقيقة الأمر عبارة عن بُعد رابع إلى جانب الأبعاد الثلاثة الأخرى للفضاء. بناءً على هذه الحقيقة تم تكوين تصوُّر جديد للكون وهو ما بات يُعرف بنموذج الكون المُغلق (block universe).

لوصف فكرة الكون المغلق، تخيَّل أنك تلتقط صوراً متتالية لمكان ما، أو دعنا نقول عدة صور متتالية لطالب بجامعة كامبريدج وهو يسرع الخطى عبر باحة كلية تيرنيتي حاملاً كتبه في يديه ليلحق بامتحان ما. بعد أن أخذنا الصور دعونا نقم بعرضها واحدة تلو الأخرى، سنحصل عندها على فيلم يمر فيه الزمن بشكل متّسق مع حدسنا بخصوص المرور الطبيعي للزمن. ولكن إذا عرضنا الصور واحدة فوق الأخرى، سنرى كامل رحلة الطالب عبر باحة الكلية في مشهد واحد غير متسلسل وهو ما يشبه مفهوم الكون المُغلق وفيه يوجد الماضي، والحاضر، والمستقبل معاً في الوقت ذاته، لذا فإن مرور الزمن يصبح بلا معنى (مجرد وهم).

وكما نعلم فإن الصّور تعرض بُعدين فقط من أبعاد الفضاء بالإضافة إلى البُعد الزمني، أما كون آينشتاين المغلق فيتمثل بهذه الأبعاد الثلاثة بالإضافة إلى تاريخ الكون الماضي وكل أحداثه التي لم تحصل بعد أي المستقبل، فكون أينشتاين المغلق رباعي الأبعاد عبارة عن سجِل ثابت يمتد على مستوى الماضي والمستقبل.


يشرح إليس هذه الفكرة قائلاً: "بعكس الأفلام التي تعرض أحداثاً متسلسلة، يفتقر مفهوم الكون المُغلق لنقطة زمن مرجعية تُمثِل (الحاضر) أو (الآن). وبعبارة أخرى، لا توجد أي نقطة فاصلة بين الماضي المحسوم أمره والمستقبل المفتوح على كل الاحتمالات."


فإذا جلس طالبان في موقعين مختلفين بباحة كلية تيرنيتي وشاهدا ظل برج الساعة، فكل واحد منهما سيرى مشهداً مختلفاً لظل برج الساعة فهل ينطبق نفس الشيء على الزمن؟ بحسب آينشتاين، الزمن مجرد بُعد رابع من أبعاد الكون المُغلق لذا فإن اختلاف موقعي شخصين داخل هذا الكون المُغلق سينتج حتماً اختلافاً في معنى الزمن لكل منهما، وبالتالي ستختلف الفترات الزمنية لذات الحدث الذي تمت مشاهدته. لذا يجب أن لا نستغرب إذا قال أحدهما أنّ إليس قد استغرق أكثر من 10 دقائق لشرب قهوته بينما يرى الآخر أنها عشر دقائق فقط.

ليس هذا وحسب، فكما أنه بمقدور الطالبين المشار إليهما سابقاً أن يختلفا بخصوص موضع برج الساعة بالنسبة لإليس -أحدهما يراه يمين إليس والآخر يراه يساره- بحسب موقع كل منهما. يمكن أيضاً لشخصين في موقعين مختلفين داخل الكون المُغلق أن يختلفا في تسلسل الأحداث، بالنسبة لأحدهما دقت ساعة البرج مشيرة للساعة الثانية بعد الظهر قبل أن يرتشف إليس آخر رشفه من كوب قهوته، أما بالنسبة للآخر دقت الساعة بعد أن ارتشف إليس آخر رشفة. السبب الأساسي لهذا الاختلاف هو سرعة واتجاه الأشخاص الموجودين داخل الكون المُغلق لأن سرعتهم واتجاههم يؤثران على الزمن اللازم لوصول الضوء إليهم وبالتالي حدوث المشاهدة. هذه الفروقات في الزمن غير ممكنة الحدوث عند السرعات العادية التي نختبرها في حياتنا اليومية، لكن تم اختبارها عبر تجارب في محطة الفضاء الدولية على متن طائرات فائقة السرعة.

 

هل من مكان أنسب لرؤية مرور الزمن من كلية تيرنيتي بجامعة كامبريدج القائمة منذ عدة قرون؟ بينما يقول آينشتاين أن المستقبل والماضي شيء واحد، يقول إليس أن المستقبل يظل مجموعة من الاحتمالات حتى تتحقق إحداها فيكون الحاضر.  Photo illustration by Dan Bishop/Discover; Historical Picture Archive/CORBIS; Alan Copson/JAI/Corbis
هل من مكان أنسب لرؤية مرور الزمن من كلية تيرنيتي بجامعة كامبريدج القائمة منذ عدة قرون؟ بينما يقول آينشتاين أن المستقبل والماضي شيء واحد، يقول إليس أن المستقبل يظل مجموعة من الاحتمالات حتى تتحقق إحداها فيكون الحاضر. Photo illustration by Dan Bishop/Discover; Historical Picture Archive/CORBIS; Alan Copson/JAI/Corbis


إذن في الكون المُغلق يختلف تسلسل الزمن حسب موقع وحركة الشخص المُراقب. لذا فإن ما يُمثل المستقبل عند البعض يراه البعض الآخر كماضي، وأحداث لم تحدث بعد لشخص ما ستبدو كأنها حدثت سلفاً لآخر. هذا يعني أن المستقبل الذي يبدو مجهولاً بالنسبة لشخص ما هو في الحقيقة حصل وانتهى بالنسبة لشخص آخر. وقد وصف آينشتاين هذه الحالة قائلاً: "الناس الذين يؤمنون بالفيزياء، مثلنا، يعرفون بأن الفرق بين الماضي والحاضر والمستقبل هو محض وهم". تعلّم معظم الفيزيائيين قبول حقيقة مفادها أن اتجاه الزمن إلى الأمام هو حقيقة افتراضية فرضها مفهوم آينشتاين عن الكون والمعادلات الأساسية التي تحكم حركته. 


لكن غريزة إليس تخبره بأن ينظر نظرةً أكثر عمقاً، حيث قال: "هنا يأتي دوري في محاولة الحصول على شعورٍ حقيقيٍ للأشياء".



إجازة من الزمن: 


برغم أن لإليس آراء متحفظة فيما يخص الزمن والكون المُغلق لكنه يكن احتراماً كبيراً لآينشتاين، وزاد احترامه هذا عندما التحق بجامعة كامبريدج في سنة 1960م للتحضير لدرجة الدكتوراة مع عالم الكونيات ذائع الصيت دينيس شاما Dennis Sciama. خلال سنوات بحثه الأولى حصل إليس على شهرة وتقدير كعالم كونيات بسبب تمكنه من وضع بعض الحيل الرياضية التي تُسهم في حل معادلات آينشتاين الخاصة بالزمكان (space-time). 


احترم إليس أيضاً براعة آينشتاين في الرياضيات مع أنه لاحقاً رفض الدلالات الفلسفية لمفهوم الكون المُغلق وفكرة أن المستقبل والماضي سِيان. يقول إليس: "إذا كنا عبارة عن ماكينات تنتظر مستقبلاً قد تم تقريره مسبقاً، عندها يمكن القول بأن أدولف هتلر لم يكن يملك أية خيارات أخرى سوى ما قام به، وأن هندريك فيرويرد Hendrik Verwoerd مبتكر نظام الفصل العنصري لم يكن مُخيّراً فيما فعل". لذا سيكون من غير المجدي أن نخبر أحداً أن ما قام به خطأ، وهذا ما سيفتح الباب أمام الشر وسيقف الناس بلا حيلة أثناء حدوثه.

في فترة وجوده بكامبريدج، عمل إليس مع ستيفن هاوكينج Stephen Hawking كطالبين مساعدين لشاما. عندها انطلق هاوكينج للشهرة بسبب أعماله عن أصل الكون وطبيعة الثقوب السوداء، بينما لم ينجح إليس في تحقيق أمجاد مشابهة. وسبب ذلك أن إليس في سنة 1973م (بعمر 33 سنة) قرر أن يترك الدراسة في كامبريدج وعاد إلى جنوب أفريقيا ليكوّن فريقه الخاص بشعبة الرياضيات بجامعة كيب تاون. ربما أعاقت هذه الخطوة إليس في مجال علم الكونيات لكنها كانت في سبيل قضية أسمى وهي مناهضة الفصل العنصري في بلده جنوب أفريقيا. وكما يقول إليس: "أردت أن أرى ما إذا كان بإمكاني صنع بعض التغيير".

لم تكن هناك حلول سهلة لمشاكل جنوب أفريقيا في ذلك الحين، مع ذلك حاول إليس أن يستخدم قدراته للمساعدة قدر ما أمكنه، فكان يُعطّل مشاريعه البحثية لتطوير نماذج رياضية مساعدة في حل مشكلة السكن وهي المشكلة التي جعلت الملايين من غير البيض يعيشون في ظروف بائسة. تُوِّجت محاولته هذه بإصدار كتابين كمؤلف مشارك، في هذين الكتابين تم توجيه نقد شديد لسياسات الحكومة وقد تم التطرق لكتاباته في مجلس شيوخ جنوب أفريقيا، حيث قام وزير الإسكان حينها بوصف إليس بالخبيث. ولكن، خلال عقد من الزمان قبلت الحكومة القيام بتعديلات في سياستها الإسكانية مسترشدةً بتوصيات إليس ثم سقط نظام الفصل العنصري في سنة 1994 وبعدها بسنة تم انتخاب نيلسون مانديلا كرئيس لجنوب أفريقيا.

النجاح في إقناع صُنّاع السياسات بتبني مشروع السكن الذي قدمه إليس زاد من يقينه في وجوب توظيف الرياضيات والعلم لتحسين ظروف العالم، وفي هذا السياق يقول إليس: "إنخرطت في عدة مشروعات على أرض الواقع وفيها كنا نحاول أن نصنع بعض التغيير، هذه المشروعات تختلف عما قمت به سابقاً في مجال الفيزياء بشكل حصري، وهو ما منحني الإحساس بأن النماذج الرياضية تصلح لحل مشكلات العالم الحقيقية".


ويضيف إليس بأنه في تلك السنوات كان أيضاً يعمل في مجال علم الكونيات ولكن ليس بالنشاط الذي كان يأمله بسبب انشغاله بالمشاكل العاجلة في بلاده. أما الآن فلديه الفرصة لكي يعود وينخرط مجدداً في مجال علم الكونيات، مؤكداً بأن عمله المتعلق بمشاكل الحياة في بلاده ألهمه وشجّعه لكي يتطرّق لمسألة هيكل الكون من زاوية فلسفية. 

تقطيع الكون المُغلق: 


مع بداية مغيب مسيرته المهنية، عاد إليس مرة أخرى عام 2005 للتركيز في موضوعات الفيزياء التي أغاظته حين كان طالباً، ومنها موضوع غياب المسؤولية الفردية بغياب سريان الزمن الذي يترتب على أن المستقبل مكتوب سلفاً بحسب فكرة الكون المُغلق. لذا قرر مراجعة فكرة آينشتاين عن الكون المُغلق وفي باله تطوير نموذج جديد يقوم فيه بإبقاء الخصائص المثبتة تجريبياً عن نسبية الزمن مع إعادة فكرة أن الحاضر موجود ومختلف بشكل أساسي عن الماضي والمستقبل.

نموذج إليس الجديد عبارة عن تعديل لفكرة الكون المُغلق وليس نفياً لها. تم طرح هذا النموذج المعدَّل عبر عدة أوراق مهمة بدأت تُنشر في سنة 2006م. وقد أبقى إليس في نموذجه هذا على أبعاد آينشتاين الأربعة للزمكان كما ظل متسقاً مع توقعات النسبية. وزعم أن آينشتاين ذهب بمفهوم الزمكان لمكانٍ بعيد جداً. حيث لا توجد ضرورة لافتراض أن البعد الرابع (أي الزمن) يجب أن يوجد إلى اللانهاية . لذا فإن هناك فرق حاسم بين نموذج إليس ونموذج الكون المُغلق لآينشتاين، وهو فكرة أن الحدود المستقبلية لا تشمل كل ما قد يحدث.


بدلاً من ذلك يرى إليس أن الطرف المتقدم لنسيج الزمكان هو الحاضر، حيث يزحف ببطء لحظة بلحظة ليحول الغد إلى الأمس. وغداً سيكون هناك يوم آخر في الكون مختلف عن ما عشناه اليوم. أما الماضي فهو حقيقي ويمكن أن يؤثر علينا اليوم بعكس المستقبل الذي لا يمكنه أن يؤثر علينا لأنه لم يحصل بعد.

أظهرت حسابات إليس أن نموذجه المتطور عن الكون المغلق لا يخالف توقعات النسبية مما يعني أن شخصين قد يختلفا في الترتيب الزمني لحدثين متسلسلين. وفي كلا النموذجين (أي نموذج آينشتاين ونموذج إليس) الزمن الذي يحس به كل من الشخصين مبني على الفروقات في زمن وصول الضوء من كل حدث لكل شخص. بحسب آينشتاين، هذه الأحداث وكل الأحداث المستقبلية توجد معاً. لكن بحسب إليس، كل حدث من الحدثين يوجد في جزء محدد من الكون المُغلق المتطور الذي يحوي الماضي. لذا هذان الحدثان موجودان واقعياً حتى ولو لم تصل لأي شخص.


بنفس المنطق قد يختلف الشخصان المشار إليهما أعلاه في الفترة الزمنية لكل حدث، لكن هذا لن يحدث ما لم تكن هذه الأحداث قد حصلت فعلياً؛ أي أنها من الماضي. لذا يمكننا القول بأن الاختلاف الوحيد بين نموذج إليس ونموذج الكون المُغلق لآينشتاين هو أن نموذج إليس لا يفترض أن البعد الرابع (أي الزمن) غير متناه في المستقبل. 


إذا صح نموذج إليس فكيف يمكن له أن يفسر الآلية التي تجعل الطرف المتقدم من الكون يمضي دوماً قُدماً؟ يجيب إليس: "على السطح يتحول لايقين المستقبل إلى يقين الماضي". وقد وجد إليس أملاً في نظرية الكم لتدعيم أرائه. وهي نظرية تختص بدراسة الجسيمات دون الذرية، نظرية مليئة بالعجائب وفيها تحصل التحولات من اللّايقين إلى اليقين الثابت.

على المستوى الكمي، تسود الصدفة والاحتمالات. على سبيل المثال، من المستحيل أن نتوقع حالة الجسيم دون الذري -أي موضعه وطاقته- بشكل دقيق ما لم نقم بقياسه. قبل القياس -أي المشاهدة- يكون الجسيم دون الذري في حالة مُرَكَبة من عدد ضخم من الاحتمالات أي كل من المواضع، والسرعات، ودرجات الطاقة. تسمى هذه الحالة بـ "مبدأ التراكب". وبمجرد أن تتم المراقبة تنفجر فقاعة التراكب وينهار الجسيم دون الذري لحالة واحدة محددة بشكل عشوائي. أي لا يمكن التنبؤ بالحالة الواحدة المحددة التي سيستقر عليها الجسيم بعد انهيار التراكب. هذه العملية ذات اتجاه واحد صارم بمعنى أنه بمجرد انهيار مبدأ التراكب واتخاذ الجسيم لحالة واحدة محددة لا يمكن لهذا الجسيم أن يعود من تلقاء نفسه لحالة التراكب مرة أخرى ذات الاحتمالات المتعددة.

هذا السلوك الكمي المُثبت تجريبياً يخالف مفهوم الكون المُغلق لآينشتاين. ويعلم الفيزيائيون منذ عقود أن ميكانيكا الكم والنسبية العامة غير متسقتين. ففي ميكانيكا الكم الزمن حقيقي ويجري باستمرار، بينما في النسبية العامة الزمن مجرد وهم. ولحل هذا التناقض يسعى العلماء لنظريةٍ توحد الكم والنسبية العامة (نظرية الجاذبية الكمية)؛ نظرية تشرح حركة كل شيء في الكون ابتداءً من الذرات وصولاً الى الكواكب. 


التجارب الكمية منحت إليس ما يكفي ليعتقد بأن الزمن حقيقي وأن نموذج الكون المُغلق لآينشتاين خاطئ. في هذا السياق يقول إليس: "يقول بعض الفيزيائيين أن المستقبل مكتوب سلفاً وبالتالي سيحصل حتماً اليوم، لكني أعتقد أنهم لم يأخذوا مبدأ اللايقين الكمي مأخذاً جاداً، فهو بالنسبة لي المستقبل غير المعروف وغير المحدّد حتى يتم حصوله".


المصدر Agsandrew/Shutterstock
المصدر Agsandrew/Shutterstock


يؤكد إليس أن الطرف المتقدم في نموذجه (الكون المُغلق المتطور) يماثل المستقبل غير المحدد والذي سيتحول إلى ماض عبر حركة متسلسلة للأحداث الكمية المجهرية. عند كل حدث، يتم إجبار الجسيمات دون الذرية على التحول من حالتها الكمية الأصلية اللامحددة إلى حالة واحدة محددة، حيث تتغير وتتنقل بين عدة هويات متضاربة. وعندما تمر الجسيمات المجاورة عبر هذه العملية سنحصل على موجة من اليقين تحوِّل المستقبل المفتوح إلى ماض مُغلق.


ليس بهذه السرعة: 


ربما نجح إليس في وضع إطار يعيد الزمن إلى الفيزياء، لكن لايزال الطريق طويلاً حتى يتمكن من إقناع زملائه الفيزيائيين. يرى جوليان باربور Julian Barbour الأستاذ الزائر في جامعة أوكسفورد أن ما قام به إليس عمل جدير بالاحترام. ومن المعروف عن باربور أنه تبنى ولفترة طويلة فكرة مفادها أن الزمن غير ضروري ويجب إبعاده بالكامل عن الفيزياء "مَتَاع وُجُودي زائد"، حيث يرى باربور أن إحساسنا بأن بعض الأشياء تبدو طبيعية لا يعني أن هذه الأشياء هي حقيقة الواقع. ويضيف: "هذا يذكرني بمحاولة غاليلو لإقناع أتباع أرسطو بأن الأرض تدور حول الشمس. وهو ما يناقض ما يبدو لنا طبيعياً، فالأرض تبدو ثابتة تحت أقدامنا، مع ذلك فقد كان غاليلو محقاً تماماً". أما فيما يخص فكرة أننا نتحرك عبر الزمن، يعتقد باربور بأنها ستصبح يوماً ما فكرة قديمة و بالية مثلما حصل مع فكرة أن الشمس هي التي تدور حول الأرض. 

من ناحية أخرى، يدعم كريغ كالندر Craig Callender فيلسوف الفيزياء بجامعة كاليفورنيا بسان دييغو ما ذهب إليه إليس قائلاً: "يسخر الفيزيائيون من إحساسنا بالزمن ويقولون أن الزمن مجرد وهم، مجرد نفايات. لكن إن كان الزمن مجرد وهم كما يزعمون فهو وهم مُقنع جداً". ويضيف كالندر بأن نموذج الكون المُغلق المتطور قد يكون صحيحاً، لكن قبل أن يحاول إليس أن يقنع زملائه الفيزيائيين، عليه أن يقدم شرحاً وافياً كافياً للعمليات الكمية التي تؤثر غالباً في الجسيمات دون الذرية بحيث تتصاعد هذه الآثار عبر الكون. 


اعتراض آخر يواجه إليس، وهو أن في الكون مساحات كبيرة جداً وخالية من أي أحدٍ ليقوم بعملية القياس والمراقبة، ما يؤدي بمبدأ التراكب للانهيار والذي سيشعل على حد قول الفيزيائيين التقليدي فتيل عملية تحوّل الجسيمات دون الذرية من التراكب إلى اليقين. فمن هو أو ما هو المُراقب الذي يُجبر هذه التغيرات في الطبيعة؟ يعتقد إليس بأن انهيار التراكب الكمي يمكن أن يحدث بدون الحاجة لوجود وعي بشري مُراقب. عندما تصطدم الجسيمات دون الذرية ببعضها تقوم بدفع بعضها للخروج من حالتها اللايقينية، هذه الفكرة تُسمى بفك التراكب أو فك الترابط الكموي (Quantum decoherence)، وهي فكرة تلقى رواجاً وشهرة في أوساط الفيزيائيين.

يقول إليس: "في رأيي، انهيار التراكب الكمي يحدث بشكل مستمر وفي كل مكان، فإذا نظرنا لهذه الشجرة، في كل اصطدام ما بين فوتونات الضوء وأوراق الشجرة يتحول التراكب الكمي لهذا الجسيم إلى اليقين". مع ذلك يؤكد إليس أن أفكاره ما زالت في بداياتها التأملية ويقول: "ليس بإمكاني الادعاء بأن فكرتي هذه قد اكتملت، لكني أعتقد أنني قد وضعت الإطار العام الصحيح".


ويضيف إليس ساخراً بأن عبء البَيِّنَة لا يقع على عاتقه هو وإنما على عاتق أولئك الذين يعتبرون أن الزمن سراب صنعناه بأنفسنا. وبقول إليس أنه استخدم نظرية الكم لتدعيم نموذجه، فهي نظرية تنص على أن الزمن حقيقي وهذا يتّسق مع ما يحسه الجميع في حياتنا العادية عندما يحدث أي شيء وأن الحياة كتجربة تقف في صفه أيضاً. 


يختم إليس باقتباس عن الشاعر الفارسي القديم عمر الخيام Omar Khayyam، فيه تأملات حول الفرق الباطني بين (ما ذهب) و (ما لم يأت بعد): "يكتب الإصبع المتحرك .. يكتب و يمضي قدماً حينها لن يُفلح وَرَعُك ولا خِفة دمك في إعادته ليلغي نصف سطر مما كتب ولن تكفي كل دموعك لأن تمسح كلمة مما كتب" يضحك إليس ويقول لمنتقديه: "إذا كنتم تعتقدون غير ذلك، فعليكم أن تذهبوا للماضي وتغيّروه".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات