العالم الوهمي

يعيش الكثير منا جزءاً كبيراً من حياته على الإنترنت، لذلك قد يبدو وكأن الواقع أصبح أكبر بكثير مما كان عليه في السنوات الماضية. مع ذلك، تبدو الأمور في أحد فروع الفيزياء النظرية وكأنها تسير باتجاه آخر. على مدى العقدين الماضيين، لم يزل علماء نظرية الأوتار يطورون فكرة أن كل من الزمان والمكان اللَّذَين نعيش فيهما -وذلك يتضمن أنفسنا أيضاَ- قد لا يكونان إلا مجرد وهم كبير، مجردَ مُصَوَّر تجسيمي (هولوغرام) خلَقَته طبيعةٌ تفتقر إلى سمةٍ جوهريةٍ في العالم الذي ندركه، تلك الصفة هي البعد الثالث.

لعب خوان مالداسينا Juan Maldacena، البروفسور في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، دوراً حيوياً في تطوير هذه الفكرة التي تُعرف باسم المبدأ التصويري التجسيمي (the holographic principle). وفي عام 1990، وضع مالداسينا النموذج الأول من الكون، والذي يجسد فيه المبدأ التصويري التجسيمي. التقت مجلة بلاس Plus معه في زيارته الأخيرة إلى كامبريدج.

سر القرن العشرين


نشأ المبدأ التصويري التجسيمي من إحدى أكبر المشاكل العلمية في القرن العشرين، وهي حقيقة أن نظريتي الفيزياء الأساسيتين، النسبية العامة وميكانيكا الكم، لا تتفقان مع بعضهما البعض.


الأجسام الضخمة تشوّه الزمكان. حقوق الصورة: ناسا
الأجسام الضخمة تشوّه الزمكان. حقوق الصورة: ناسا

أدرك أينشتاين في أوائل القرن العشرين الارتباط الوثيق بين المكان والزمان، وأطلق على الهيكل المُتشكل من ارتباطهما بالزمكان (spacetime). كما تنص النظرية النسبية العامة لأينشتاين على أن الأجسام الضخمة تشوه الزمكان، وأن الجاذبية هي نتيجةٌ لهذا التشويه. كما هو الحال مع كرة البلياردو عند وضعها على الترامبولين، تُحدث انخفاضاً يجعل من الكرات الرخامية المحيطة بها تتجه اتجاه هذا الانخفاض، كذلك الأجسام الكبيرة كالكواكب تقوم بتشويه الزمكان، مما يسبب انجذاب الأجسام القريبة منه نحوه. وفقاً لما قاله أينشتاين، الجاذبية ليست شيئاً ينتشر في الفضاء، وإنما هي نتيجة للنسيج الهندسي للزمكان.

في الوقت الذي تصف فيه النسبية العامة عالم الكواكب والمجرات، نجد أن نظرية الكم تهتم بالنطاق دون الذري، أي عالم الجسيمات الأساسية التي تتكون منها المواد. وعلى هذه المقاييس الصغيرة، فإن الكتلة قليلةٌ، كما يمكن إهمال الجاذبية. تفترض نظرية الحقل الكمومي (Quantum field theory)، وهي وصفٌ ميكانيكي كمي لفيزياء الجسيمات، أن القوى الأساسية تعمل من خلال جزيئات مِرْسالة تسمى البوزونات المعيارية (gauge bosons). يبذل جسيم أساسي قوة على جزيء آخر عن طريق إرسال عدد قليل من هذه البوزونات المعيارية.

في غضون القرن العشرين، رُصدت ثلاثةٌ من الجسيمات المعيارية الخاصة بثلاثٍ من القوى الأساسية الأربعة، وهي القوة الكهرومغناطيسية، والقوة النووية الضعيفة، والقوة النووية الشديدة. ومن أجل ملائمة النتائج، يجب إعادة كتابة نظرية أينشتاين للجاذبية بطريقة تتلاءم مع الجسيمات المِرْسالة. أطلق علماء الفيزياء على الجسيم المِرسال المفترض لقوة الجاذبية اسم جرافتون (graviton)، لكن إلى الآن، لم يجد أحد أي أثرٍ لوجوده. والأسوأ من ذلك كان في محاولات وصف الجرافتون في نطاق رياضيات الحقل الكمومي، بحيث أدى ذلك إلى إجابات غير منطقية. يقول مالداسينا: "كان الأمر عبارة عن تكميم ساذج لا يعمل، كما أنه يقود إلى تضاربات رياضية. نحن بحاجة إلى شيء جديد''.

تصف ميكانيكا الكم عالم ما دون الذرات بشكلٍ واضحٍ جداً
تصف ميكانيكا الكم عالم ما دون الذرات بشكلٍ واضحٍ جداً

حتى الآن، بقيت هذه النظرية الجديدة والمرغوبة، نظرية الجاذبية الكمية (quantum gravity)، مستعصية الفهم على الفيزيائيين. أحد أهم النظريات المنافسة لهذه النظرية هي نظرية الأوتار (string theory)، أو بالأحرى نظريات الأوتار، لكونها في الحقيقة مجموعة متناسقة من النظريات المنطقية العديدة.

الفكرة الرئيسية لنظرية الأوتار تقول أن الجسيمات الأساسية هي عبارة عن سلاسل صغيرة مهتزة، وهذا النهج يتغلب على المشاكل الرياضية للجاذبية الكمية الساذجة. لهذا اعتُبرت أنها نظرية رياضية ذات أناقة أسرت قلوب العديد من علماء الفيزياء. أما سلبيات نظرية الأوتار فهي عدم قدرتها، حتى الآن، على إعطاء وصف كامل للعالم. وبالفعل، هنالك العديد من الكميات الفيزيائية التي لم تستطع وصفها إلى الآن، كما أنها لم تُختبر من قبل، وليست قابلة لأن تختبر في وقتنا الحالي.

على الرغم من ذلك، نظرية الأوتار هي من أعطى فكرة صغيرة لمالداسينا، وحملته على حل لغز الجاذبية الكمية عن طريق تخيل الجاذبية بهيئة مُصَوَّر تجسيمي.

المصورات التجسيمية السوداء


لا يمثل الاختلاف ما بين النسبية العامة وميكانيكا الكم مشكلة بالنسبة لمعظم الأغراض العملية، وذلك ﻷن علماء الفيزياء ينظرون إمّا إلى العالم المرئي ذي المقاييس الكبيرة حيث لا تكون تأثيرات الكم مأخوذة بعين الاعتبار، أو إلى العالم المجهري ذي المقاييس الصغيرة، حيث تكون الجسيمات الصغيرة خفيفة وتكون الجاذبية قليلة التأثير. لكنَّ هناك حالة واحدة يكون فيها الاختلاف بين النظريتين ملموساً. تتشكل الثقوب السوداء عندما تتركز كتلة كبيرة في منطقة صغيرة من الفضاء، فيكون السحب الثقالي الناتج عنها كبيراً جداً لدرجة أنه لا يمكن لأي شيء، ولا حتى للضوء، الهروب من ثقب أسود. ولهذا السبب، لا يوجد سبيل ﻷنْ تتجاهلَ أمر الجاذبية عندما تفكر في الثقوب السوداء. يعني الحجم الصغير للثقب الأسود أن الكم له تأثيرات تؤخذ بعين الاعتبار أيضاَ. ولوصف ما يحدث في ثقب أسود، أنت فعلاً بحاجة لنظرية موحدة لجاذبية الكم.


تُعتبر الثقوب السوداء من ضمن أول الأسباب التي أدت إلى نشوء المبدأ التصويري التجسيمي. يحيط بالثقوب السوداء حدُ لا عودةٍ يسمى بأفق الحدث (event horizon). بمجرد عبورك لذلك الأفق، ستُمتص داخل الثقب الأسود، ولن تتمكن من الخروج مرة أخرى. ثم عند وقوعك داخل ثقبٍ أسود، ستذهب معك الكثير من المعلومات. لا أقصد فقط الحمض النووي (DNA) الخاص بك مع واحدة أو اثنتين من أفضل الأفكار لديك، بل حتى مليارات الطرق التي تكون قد تشكلت بها خلايا الدم الموجودة في أوردتك، أو الخليط الكامل للأفكار في عقلك. أما بالنسبة للجزء المتعلق بالثقب الأسود، يبدو أنه أكثر بساطة بكثير. بافتراض أنه لا شيء يهرب من الثقب الأسود البتة، تقول الفيزياء الكلاسيكية أن الثقب الأسود يمكن أن يُوصف، وبصورة متكاملةـ بواسطة ثلاثة أنواع من المعلومات متمثلةً بكتلته، وشحنته الكهربائية، والسرعة التي يدور بها. لذلك، عند وقوعك في ثقب أسود، ستندرج جميع المعلومات المطلوبة لوصفك ضمن ثلاثة أرقام. إن سقوطك يجعل الكون أبسط قليلاً.

محاكاة الثقب الأسود مع درب التبانة في الخلفية – حقوق الصورة: Ute Kraus, Space Time Travel
محاكاة الثقب الأسود مع درب التبانة في الخلفية – حقوق الصورة: Ute Kraus, Space Time Travel


قد يُقلق هذا النوع من الفقدان المُعقد العلماء، لأنه ينتهك واحدة من أكثر القوانين أساسيةً عندهم، وهو القانون الثاني من الديناميكا الحرارية الذي يَفترض أن الأمور لم ولن تصبح أبسط أبداً. تُقاس كمية المعلومات اللازمة لوصف نظام بمقدار يدعى الإنتروبي (entropy). عُرّفت الإنتروبي، كلاسيكياً، على الأنظمة الحرارية، ومثال على ذلك ترك مكعب الثلج ليذوب بفعل حرارة الشمس. تقيس الإنتروبي الكلاسيكية مدى تتبدد الحرارة (أو الطاقة) خلال نظام ما
.
لكن بما أن "الطاقة" تقابل "الذرات النشطة" (تترتب جزيئات الماء في مكعب الثلج المتجمد بشكل متناسق في شبكة ثابتة، بينما في الماء السائل، تتحرك بصورة عشوائية في كل مكان)، يمكن تعريف الإنتروبي على أنها مقياس لاضطراب النظام. يرتبط الاضطراب (disorder) بدوره مع المعلومات. بامكانك وصف ترتيب الجزيئات العادي في مكعب الثلج المتجمد في جملة واحدة من المعلومات، لكن عند وصف الماء السائل، ستحتاج إلى إعطاء الموقع الدقيق لكل جزيء على حدة، وهذا بدوره سيحتاج إلى معلومات كثيرة. لذلك، تعمل الإنتروبي من خلال وجهة نظر ديناميكية حرارية وأيضاً معلوماتية.

ينص القانون الثاني على أن الإنتروبي لا تقل أبداً. في حالة الديناميكا الحرارية، هذا يعني أن النظام يسعى للوصول لحالة التوازن حيث تتبدد الطاقة تماماً. أما إذا تحدثنا عن الإنتروبي في سياق المعلومات، فإن هذا يعني أن الأشياء لن تصبح بسيطة تلقائياً. إذا وضعنا الأمر في وصف كلاسيكي، فإن الثقب الأسود يجب ألاّ تكون له إنتروبي، وذلك لأنه ليس جسماً حرارياً، ولأنه يمكن وصفه بشكل شديد البساطة. عندما تسقط بداخله، سيحل محل الإنتروبي الموجبة الخاصة بك الإنتروبي الصفرية الخاصة بالثقب الأسود، وهذا انتهاك للقانون الثاني للديناميكا الحرارية.

عندما لوحظ هذا الخرق للمرة الأولى، استسلم بعض الفيزيائيين لحقيقة أن القانون الثاني قد لا يكون أساسياً بالدرجة التي اعتُقدت. لكن هناك شخصٌ لم يكن ليقتنع بذلك، وهو جاكوب بيكنستن Jacob Bekenstein. في عام 1972، لاحظ بيكنستن تشابهاً بين الإنتروبي وبين خاصية للثقوب السوداء كان قد اكتشفها ستيفن هوكينج Stephen Hawking وهو يفكر في آفاق الحدث للثقوب السوداء. يحيط أفق الحدث، كقشرة البيض، بجزء من الفضاء بداخله. وبالتالي هو سطح، ويمكنك قياس مساحته. أوضح هوكينج أن مساحة أفق الحدث لم، ولن تصبح أصغر مما تكون عليه بادئ الأمر، مهما ألقيت بداخل الثقب الأسود، فمساحة أفق الحدث يمكنها فقط أن تزداد، تماماً مثل الإنتروبي.

مهّد القانون الثاني للديناميكا الحرارية الطريق أمام المبدأ التصويري التجسيمي
مهّد القانون الثاني للديناميكا الحرارية الطريق أمام المبدأ التصويري التجسيمي

كان المعتقد السائد أن هذا التشابه بين الثقب الأسود والديناميكا الحرارية من قُبيل الصدفة، ولكن جاء بيكنستن مع تفسير معاكس لذلك. يوضح مالداسينا: "لاحظ بيكنستن بأنه يمكنك التفكير بمساحة أفق الحدث كنوع من الإنتروبي". وأضاف: "في البداية، كانت هذه الفكرة غامضة، لكنها أصبحت واضحة عندما اكتشف هوكينج أن الثقوب السوداء يمكنها أن تبعث طاقة. كان ذلك في عام 1974، وتعرف هذه الطاقة باسم إشعاع هوكينج (Hawking radiation). بعبارة أخرى، فإن الثقوب السوداء هي أجسام حرارية تحتوي على إنتروبي. ثم يكمل: ''بالجمع بين الفكرة الأصلية لبيكنستن مع إشعاع هوكينج، يُصبح بإمكان المرء حساب الإنتروبي للثقب الأسود، فيجدها تساوي مساحة أفق الحدث المُقاسة بنوع معين من مقاييس الطول، يدعى وحدة بلانك (Planck Unit). إنها مسافة صغيرة جداً، لذلك تكون الإنتروبي الخاصة بالثقب الأسود الجاهري (الكبير) كبيرة جداً". بالرغم من أن الثقب الأسود يمثل حجماً ثلاثي الأبعاد من الفضاء، يبدو أن محتواه من المعلومات سِمة من سِمات أفق الحدث ثنائي الأبعاد الخاص به.

التصوير التجسيمي في الحياة الواقعية؟


ربما تقول: حسنًا، الثقوب السوداء غريبة. لكن ذهب الفيزيائيان، جيرادوس هوفت Geradus Hooft وليونارد سوسكيند Leonard Susskind، أبعد من ذلك في تفكيرهم، آخذَين في اعتبارهم المعلومات المحتواة في المناطق العادية من الفضاء.

قد تظهر المعلومات بشكل فيزيائي، سواءً كانت في صفحات الكتب، أو في الخلايا العصبية في عقلك، أو من سير الفوتونات ذهاباً وإياباً على طول الكابلات الضوئية، ناقلةً معها المعلومات عبر شبكة الإنترنيت. يتضمن هذا التعبير الفيزيائي أيضاً الطاقة، وبما أن الطاقة تساوي الكتلة تذكّر معادلة أينشتاين: \(E=mc^2\)، فإن ضغط المعلومات في منطقة محدودة من الفضاء مماثل لضغط الكتلة فيها، وإذا حاولت ضغط الكثير من المعلومات/الكتلة فيها، فإنك ستكون قد كونت ثقباً أسود. لذلك، لكل منطقة معينة في الفضاء (ليست ثقباً أسود) حداً معيناً من المعلومات. وقاس هوفت وسوسكند هذا الحد ووجدا أنه يمكن قياسه عن طريق قياس المساحة السطحية لحدود المنطقة، مشابهاً بذلك الطريقة المتبعة في قياس الثقوب السوداء.

وقال مالداسينا: "يبدو هذا وكأنه شيء بسيط وساذج" لكن، في جميع الحالات الأخرى، والتي نصف فيها أمراً فيزيائياً ما في هذا العالم، ينمو عدد المتغيرات بنمو الحجم. على سبيل المثال، إذا أردنا وصف حقل كهرومغناطيسي (في منطقة من الفضاء)، سنقسم الحجم إلى العديد من القطع، ونَصِفُ الحقل في كل قطعة منها. إذا ما ضاعفت حجم منطقتك، فإنك ستضاعف عدد القطع، وبالتالي سيتضاعَف مقدار المعلومات التي ستحتاجها لوصف المنطقة. بديهياً، تزداد المعلومات بزيادة الحجم، لا بزيادة مساحة السطح كما يفترض المبدأ التصويري التجسيمي. وعلى فرض كون المبدأ التصويري التجسيمي صحيحاً، ستكون طريقتنا في فهم الفيزياء والمعتمدة على الأبعاد الثلاثة خاطئة.

لذلك، أصبح من الواجب الحصول على نسخة تتناسب طردياً بشكل خطي مع مساحة السطح بدلاً من الحجم، وهذا يثير مسألة تحث العقل على التفكير، وتجعلنا نتساءل فيما إذا كان البعد الثالث حقيقياً فعلاً، أومجرد وهم كالصورة ثلاثية الأبعاد الناشئة في المصور التجسيمي (هولوغرام).


حتى الآن، لم يجد أحد صياغة دقيقة لنسخة الفيزياء ثنائية الأبعاد التي تصف عالمنا ثلاثي الأبعاد. في عام 1995، أعاد سوسكيند تعريف نظرية الأوتار مرتكزاً على المبدأ التصويري التجسيمي. ثم في عام 1997، جاء جوان مالداسينا، عندما كان عمره 29 سنة، حاملاً معه وصفاً متيناً للكون المصور تجسيمياً (holographic universe). وقد كان هذا الوصفُ هو الأولَ من نوعه.

المنحنيات السلبية


الإسقاط المركاتوري للأرض. الأقراص الحمراء تمتلك كلها نفس المساحة – أما مساحاتها المختلفة ظاهريًا على الخريطة فهي توضح التشويه الموجود في الخريطة. حقوق الصورة: ستيفان كوهن (Stefan Kuhn)
الإسقاط المركاتوري للأرض. الأقراص الحمراء تمتلك كلها نفس المساحة – أما مساحاتها المختلفة ظاهريًا على الخريطة فهي توضح التشويه الموجود في الخريطة. حقوق الصورة: ستيفان كوهن (Stefan Kuhn)

لا يشبه نموذج مالداسينا الواقعَ الذي نعيشه وإنما هو نموذج، أو هو دمية للكون، فهو يأتي كاملاً مع فيزيائه الخاصة به. وهو مصور تجسيمي ﻷن جميع العمليات الفيزيائية الجارية فيه يمكن أن توصف من خلال نظرية فيزيائية مُعرّفة على حدوده فقط. بالإضافة إلى ذلك، هو الكون الذي وُصفت فيه الجاذبية ولغز الكم بصورة متكاملة. فنظرية الحدود هي نظرية كمية خالصة، ولا تحتوي على الجاذبية، ولكن الكائنات التي تعيش في الداخل ستبقى تحس بالجاذبية. الجاذبية في هذا الكون هي جزء من وهم التصوير التجسيمي.



لفهم دمية الكون الخاصة بمالداسينا، لنقم أولاً برحلة إلى عالم رسم الخرائط. قصْد تمثيل سطح جرم كروي على ورقة مسطحة، تحتاج إلى شق الجرم الكروي فاتحاً إياه، ومن ثم ضغطه ليصبح مسطحاً، مما سيؤدي حتماً إلى إحداث بعض التشوهات. بالاعتماد على الإسقاط المركاتوري (Mercator projection) التقليدي للأرض، سيكون التشوه بأقصاه عند القطبين. عندما تنظر إلى الخريطة، سوف تبدو جرينلاند كبيرة بحجم أفريقيا بينما في الواقع هي أصغر منها بما يقارب 14 مرة. علاوة على ذلك، لو أردت تصور أقصر الطرق بين لندن وسيدني على الخريطة الخاصة بك، لن تتمكن من الحصول على خط مستقيم وإنما على خط منحن. بالتالي، فإن الخطوط المستقيمة على خارطتك لا تعني المسافات الأقصر بين الأمكنة.

صورة Circle Limit III من إم سي إيشرMC Escher ، حيث توضح الخطوط البيضاء مسارات لأقصر المسافات. حقوق الصورة: The M.C. Escher Company - the Netherland جميع الحقوق محفوظة
صورة Circle Limit III من إم سي إيشرMC Escher ، حيث توضح الخطوط البيضاء مسارات لأقصر المسافات. حقوق الصورة: The M.C. Escher Company - the Netherland جميع الحقوق محفوظة

يمكننا رؤية خريطة للنسخة ثنائية الأبعاد من كون مالداسينا في الصورة الخشبية المشهورة (Circle Limit III) بواسطة إم سي إيشر (MC Escher). كما هو الحال مع الإسقاط المركاتوري، توجد هنالك بعض التشوهات. بالفعل، لوحظ في خريطة إيشر أن أقصر مسار بين نقطتين ليس الخط المستقيم الواصل بين تلك النقطتين، وإنما يكون بشكل قوس لدائرة يلتقي مع حدود دائرة القرص بشكل متعامد معه.


لو قست حجم سمكة باستخدام هذا المقياس المتري الجديد، ستجد أنها بعكس ما يبدو، لن تصبح أصغر فأصغر كلما اقتربت من حدود الدائرة أكثر، وإنما ستبقى متساوية في الحجم في الواقع. نأخذ مثال الرّحال الذي يتجول على سطح الأرض، فهو لن يكون مدركا للتشوهات التي أشارت إليها خريطة ميركاتور. كذلك الأمر بالنسبة لأي كائن حي يعيش داخل ما يسمى بعالم القطع الزائد (hyperbolic world)، فهو لن يلاحظ أي تشوه في حجم السمكة. علاوة على ذلك، للوصول إلى الدائرة المحيطية، يجب على الكائن الذي يعيش في القطع الزائد أن يجتاز عدداً غير منتهٍ من الأنماط متساوية الحجم. بعبارة أخرى، يجب علينا قطع مسافة غير منتهية. بالنسبة للكائن القطعي (الكائن الحي الذي يعيش في عالم قطعٍ زائد)، فإن حدود الدائرة بعيدة جداً، وهو غير مدرك لذلك الأمر.

يكاد يكون رسم تمثيلٍ ما للسطح القطعي "الحقيقي"، وهو سطح حقيقي وليس خريطة له، أمراً مستحيلاً، وذلك ﻷنه ملتوٍ بشكل عظيم. كما أنه يملك ما يسميه علماء الرياضيات بـالانحناء السلبي (negative curvature)، حيث تُظهر المناطق شديدة الصغر من هذا السطح على شكل سروج. من مسقط ما، تظهر وكأنها ذروة لقمة جبل، ومن مسقط آخر، تظهر وكأنها قاع لواد.

بالنسبة للمراقبين الخارجيين أمثالنا، لدى هذا العالم غريب الأطوار خاصيةً مثيرة للاهتمام: على الرغم من كونه لانهائياً (حسب المقياس الجديد)، إلا أنه بإمكاننا ملاحظة حدوده، وهذا فقط ما نحتاجه لتطبيق المبدأ التصويري التجسيمي الذي يصف الجزء الداخلي لمنطقة من الفضاء بدليل حدود تلك المنطقة. قام مالداسينا باستخدام نظير ثلاثي الأبعاد للسطح القطعي، ودمجه مع بُعد رابع على أنه الوقت. يُعرف هذا النموذج رباعي الأبعاد للزمكان باسم فضاء (دي سيتر) المضاد، تيمّنًا بالفيزيائي الهولندي فيليم دي سيتر Willem de Sitter.

فيزياء اللعبة


يختلف فضاء دي سيتر المضاد (Anti de Sitter space) كثيراً عن العالم الذي نعيش فيه بحيث أن الزمان والمكان فيه مشوَّهَان بطرقٍ غريبة، ولكن هذا لا ينبغي أن يمنعك من اختراع بعض الفيزياء له. كل ما تحتاجه هو فكرة عامة عن الأشياء الأساسية لهذه الفيزياء، كالجسيمات والقوى الأساسية وبعض القوانين الرياضية التي تصف تفاعلها. استخدم مالداسينا نسخة من نظرية الأوتار لوصف الفيزياء التي تحدث داخل نموذجه الكوني. كما تتذكرون، تتضمن نظرية الأوتار كلاً من الجاذبية وميكانيك الكم، لذا سوف تشعر الكائنات الحية التي تعيش داخل عالم مالداسينا بالجاذبية مثلنا تماماً.

مصور تجسيمي
مصور تجسيمي


كانت المشاهدة الحاسمة لمالداسينا أن نظرية الأوتار التي تصف المنطقة الداخلية للكون الخاص به تمتلك شيئاً ما يشبه "الظل" ويتواجد على حدود الكون. يمكن أن تقوم بتعريف نظرية الحقل الكمومي على الحدود بحيث يكون لكل جسيم أساسي في المناطق الداخلية نظيرٌ له في الحدود، وبحيث يكون لكل تفاعل بين الجسيمات الداخلية تفاعلٌ مناظر له بين الجسيمات على الحدود. هكذا، يمكنك الآن وصف فعلٍ ما في الداخل، كإسقاط تفاحة مثلاً، مستخدماً نظرية الحدود فقط. يمكنك أيضاً اختيار تجاهل المنطقة الداخلية تماماً بدون خسران أي معلومة على الإطلاق – هذا العالم هو بالفعل مصَوَّر تجسيمي.

النقطة المهمة من زاوية الثقالة الكمومية، هي أن نظرية الحدود هي نظرية كمومية لفيزياء الجسيمات ومفهومة جيداً، كما أنها مشابهة لتلك التي نستعملها لوصف العمليات دون الذرية في الطبيعة. وبما أنها تصف المقاييس الصغيرة فقط، لا تهمها الجاذبية. مع ذلك، هي قادرة على وصف نظرية الثقالة الكمومية الباطنية التي تحكم المناطق الداخلية. إنه أول وصف كامل لزمكان الكم.

لكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لنا؟


نموذج مالداسينا ،كما يشير اسمه، هو مجرد نموذج. نحن لا نعرف حتى الآن، إن كان الكون الذي نعيش فيه هو صورة مصورة تجسيمياً، وما زلنا لا نملك وصفاً كمياً ثابتاً للجاذبية ينطبق على عالمنا. يُعد "افتراض الانحناء السلبي" في نموذج مالداسينا أمراً حاسماً، وحسب ما نعلم من خلال ترصداتنا، يمتلك كوننا انحناءً موجباً طفيفاً. يقول مالداسينا: "ليس لدينا علم بوصف مماثل لحالةٍ يكون فيها انحناء إيجابي. للناس أفكار مختلفة يجري استكشافها، لكن ليس لدينا إجابة كاملة حتى الآن".

لكن ماذا لو اتضح أن المبدأ التصويري التجسيمي ينطبق على العالم الذي نعيش فيه؟ هل سيعني ذلك أننا، جنباً إلى جنب مع الزمكان، مجرد وهم؟ يقول مالداسينا: "نعم، يمكن أن تقول أننا وهم، أو أننا ظاهرة طارئة. إذا كنا نعيش في كون مماثل، فإننا سنكون أوصافاً تقريبية. لكن هذا ليس بجديد في الفيزياء. خذ سطح البحيرة مثلا، يبدو أن سطح البحيرة محدد جيداً، لدرجة أنه يمكن للحشرات أن تمشي فوقه. لكن إذا نظرت بمجهر قوي كفاية، سوف ترى أن هناك العديد من الجزيئات المتحركة ولا يوجد سطح محدد بشكل مضبوط. الفكرة هي أن الزمكان يمكن أن يكون مشابهًا. إنه ليس محددًا ولا مطلقاً، لكننا كبار لدرجة أننا لا نلاحظ ذلك". تماماً كالحشرة على البحيرة، سوف نرى العالم بأعين كبيرة جداً ومن ثم غير قادرة على اكتشاف الطبيعة الحقيقية للزمكان. الجهل هو نعمة، لأنه بالمعنى العملي، لا تُعد مسألة عيشنا في مصور ثلاثي الأبعاد أوعدمه مسألةً ذات أهمية – بالرغم من وجود متعة غير منتهية في النظر إلى الموضوع من الجانب الفلسفي.

ولكن ماذا عن مالداسينا نفسه؟ هل هو حقاً يعتقد بصحة المبدأ التصويري التجسيمي؟ يصرح في هذا السياق: "حسناً، أنا أرى هذه الفكرة كنموذج، ولكن هذا النموذج يعطي وصفاً رياضياً لزمكان الكم. لذلك، ينبغي أن نأخذه على محمل الجد حتى يدحضه شخصٌ ما، أو يأتي بشيء أفضل منه".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • إشعاع هوكينغ (Hawking radiation): نظرية اُقترحت للمرة الأولى من قبل الفيزيائي البريطاني ستيفن هوكينغ. تنص هذه النظرية على أنه نتيجةً لاجتماع مزيج من الخواص الكوانتية مع الثقالية، يُمكن للثقوب السوداء، عند ظروف معينة، أن تُصدر إشعاعاً. المصدر: ناسا
  • أفق الحدث (Event horizon): هي بعدٌ معين عن الثقب الأسود لا يمكن لأي شيء يقطعه الإفلات من الثقب الأسود. بالإضافة إلى ذلك، لا يُمكن لأي شيء أن يمنع جسيم ما من صدم المتفرد الذي يتواجد لفترة قصيرة جداً من الزمن بعد دخول الجسيم عبر الأفق. ووفقاً لهذا المبدأ، فأفق الحدث عبارة عن "نقطة اللاعودة". انظر نصف قطر شفارتزشيلد. المصدر: ناسا
  • الإنتروبي (entropy): هو كمية الطاقة غير المتاحة للقيام بعمل في نظام فيزيائي، وقد أطلق عليه كلاوزيوس مصطلح الإنتروبي ملهماً بكلمة tropi التي تعني التحول، واختيرت لتكون أقرب ما يُمكن من كلمة الطاقة (energy)، ويقول أشهر قوانين الطبيعة المعروف بالقانون الثاني في الترموديناميك "لا يُمكن لانتروبي نظام فيزيائي مغلق أن يتناقص أبداً".
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

اترك تعليقاً () تعليقات