إلى ماذا يتوسع الكون؟

"أنا في حيرة شديدة بسبب الأشياء المذكورة عندي في كتاب العلوم حول الكون المتوسع (the expanding universe). كل الكتب التي مررت بها كانت تعرّف الكون بأنه "كل شيء". إذا كان الكون يتوسع فإلى ماذا يتوسع؟ يجب عليه إذن أن يتوسع إلى كون أكبر كذلك. أفهم أن الطيف الأحمر يدل على أن الأشياء تمضي بعيداً عنا، ولكن هذا يعرف بالانحياز (drifting) وليس التوسع، أليس كذلك؟ إذا كان باستطاعتك مساعدتي على فهم هذا الأمر، سيكون ذلك كرماً منك. شكراً لك على إعطائي جزءًا من وقتك".


هذا سؤال جيدٌ للغاية وهو ليس سهلاً على الإطلاق لكي يعطي أجوبة مُرضية! عندما حاولت الإجابة عليه في المرة الأولى، وصلتنا العديد من الأسئلة التابعة من أشخاص لا يزالون حائرين فلذلك قررت أن أجيب عليه مرة أخرى، ولكن هذه المرة بشكل شامل أكثر.

ستجد التفسير المفصل في الأسفل. ولكن إذا كنت تريد إجابة مختصرة فسأقول هذا: إذا كان الكون كبيراً بشكل لانهائي، إذاً فالإجابة ببساطة هي أنه لا يتوسع إلى أي شيء؛ الذي يحصل بدلاً من ذلك، هو أن كل منطقة من الكون، كل مسافة بين كل زوجين من المجرات، يحصل لها "تمدد" (stretching)، ولكن الحجم الكامل للكون هو بالأصل لانهائي ويستمر في بقائه لا نهائياً مع مرور الوقت، إذن فإن حجم الكون لا يتغير، ولذلك فهو لا يتوسع إلى أي شيء.

في الجهة المقابلة، إذا كان للكون حجم محدود، فسيكون من المنطقي أن نقول أن هناك شيئاً خارج الكون وهو الذي يتوسع الكون إليه. على أية حال، بما أننا محجوزون في حدود الفضاء الذي يكوّن كوننا ولا نملك أية طريقة لنرصد أي شيء خارج عنه، فإن هذا يجعل الإجابة على السؤال ممكنة بصورة علمية. إذن فالإجابة في هذه الحالة هي أننا لا نعرف في الحقيقة إلى ماذا يتوسع الكون، إذا كان هناك شيء ما.

والآن لأولئك الذين يرغبون بمعرفة إجابة أكثر شمولاً


سأبدأ بقول أن كلمة "التوسع" (expanding) ليست الكلمة الأفضل لوصف ما يحدث للكون، مع أنها الكلمة المستخدمة غالباً، ولكني أظن أن اختيار الكلمة أدى للكثير من الحيرة غير الضرورية في وصف موضوع صعب أصلاً! الكلمة الأكثر ملاءمةً لما يفعله الكون من الممكن أن تكون كلمة "التمدد" (stretching).

الفرق بين "التوسع" و"التمدد" بالنسبة لي على الأقل، هي أن وصف "كون يتوسع" يجر إلى الذهن صورة تحمل عدداً من المجرات الطافية في الفضاء، والتي بدأت في نقطةٍ مركزيةٍ ما وتتحرك الآن بعيداً عن هذه النقطة عند سرعات عالية جداً. وبذلك فمجموعة المجرات التي نطلق عليها "الكون" تتوسع، ومن المنطقي جداً أن نسأل إلى ماذا تتوسع.

ولكن النظريات الحالية عن الكون تخبرنا أن هذه الصورة ليست الصورة التي من المفترض أن نحملها في أذهاننا. بدلاً من ذلك، بشكلٍ ما تعتبر المجرات ثابتة، بمعنى أنها لا تتحرك في الفضاء كما تتحرك كرةٌ في الهواء. تجلس المجرات هناك ببساطة. ولكن مع مرور الوقت فإن المسافة بين المجرات "تتمدد"، بشكل يشبه سحب طرفي ورقة مطاطية. وبالرغم من أن المجرات لم تتحرك خلال الفضاء مطلقاً، إلا أنها تبتعد عن بعضها بمرور الوقت بسبب أن المسافة بينهما حدث لها تمدد.

عندما نفكر بالفضاء في حياتنا اليومية، فبالطبع لا نفكر فيه على أنه شيء قابل للتمدد. الفضاء بالنسبة لنا كأن شيئاً ما هناك، ويحتوي كل شيء في الكون داخله. ولكن وفقاً لنظرية آينشتاين للنسبية العامة، فإن الفضاء ليس بسيطاً كما تخبرنا فطرتنا التلقائية. إذا أردنا فهم الطريقة الفعلية لعمل الكون يتوجب علينا إيجاد طريقةٍ ما لإدخال أفكار آينشتاين في الصورة العقلية التي نحملها للكون ومن ثم نتخيل الفضاء على أنه كيان معقد أكثر قابل لفعل أشياء كـ"الانحناء" (bending) والتمدد.

ولمساعدتنا في تخيل هذه الصورة، قام العديد من الأشخاص بتقديم مقارانات تقريبية للكون والتي يكون الفضاء فيها معروضاً بشيء ملموس أكثر. على سبيل المثال هناك مقارنة للورقة المطاطية (أو البالون) والتي ذكرتها مسبقاً. والمقارنة المفضلة بالنسبة لي تتضمن تخيل الكون كقطعة ضخمة من العجين، وبداخل العجين حبات من الزبيب منتشرة فيه بالكامل. العجين يمثل الفضاء، وحبات الزبيب تمثل المجرات. (على حسب علمي اُقترِحت هذه المقارنة بواسطة مارتن جاردنر Martin Gardner في كتابه "النسبية للمليون Relativity for the Million" في عام 1962.) وفي الوقت الحالي لا نملك أدنى فكرة عن حجم هذه العجينة، كل ما نعرفه هو أنها كبيرة جداً، ونحن نجلس في إحدى حبات الزبيب بداخلها، ونبتعد مسافة كبيرة عن "الحافة" بشكل يجعل من المستحيل أن نتأثر بحدود العجينة أو أن تُؤثر فيما نراه.

والآن، قام أحدهم بوضع العجين في الفرن وبدأ العجين بالتوسع. تتحرك حبات الزبيب بعيداً عن بعضها، ولكن بالنسبة للعجين فهي لا تتحرك على الإطلاق -جزيئات العجين التي تقع بجانب حبة الزبيب في البداية لا تزال بجانبها. هذا ما قصدته عندما ذكرت أن المجرات لا تتحرك في الحقيقة خلال الفضاء أثناء توسع الكون- هنا، حبات الزبيب لا تتحرك خلال العجين، ولكن المسافة بين الحبات في زيادة مستمرة.

هذه الصورة الجديدة للكون والتي أطلب منك أنك تتخيلها بشكل عملي، تختلف بشكل كبير عن الصورة القديمة والتي تتحرك فيها المجرات كلها بعيداً عن نقطة معينة في المركز في الفضاء. أصبحت العديد من المفاهيم والتعاريف التي كانت تبدو بسيطة في الصورة القديمة معقدة أكثر الآن. على سبيل المثال:


ما هي المسافة بين مجرتين؟


في الصورة القديمة، من السهل الإجابة على هذا السؤال نظرياً (وليس بالضرورة أن يكون بالممارسة). قم باستخدام شريط قياس عملاق وثبِّت طرفه على مجرة بعيدة، ومن ثم عد إلى مجرتنا وأمسكه بإحكام. وأثناء تحرك المجرة بعيداً سوف تسحب جزءاً من الشريط، وستتمكن من قراءة المسافة ببساطة على المقياس أثناء الحركة… مليار سنة ضوئية، مليار سنة ضوئية ونصف، ملياري سنة ضوئية… وهكذا.

بينما في صورتنا الجديدة للكون، مع العجين وحبات الزبيب، لن ينسحب شريط القياس على الإطلاق أثناء توسع الكون، بسبب أن المجرات في الواقع لا تتحرك بالنسبة لبعضها! بدلاً من ذلك سوف يشير إلى مليار سنة ضوئية طوال الوقت. باستطاعتك أن تبرر ذلك بقولك أن المسافة بين المجرات لم تتغير بمرور الوقت. ولكن عندما تأخذ شريط القياس مرة أخرى سوف تلاحظ شيئاً غير عادي: بسبب تمدد الفضاء، سوف يتمدد شريط القياس كذلك، وعندما تقارنه بشريط قياس آخر مماثل له والذي كان موجوداً في جيبك طوال الوقت، سترى أن كل علامات القياس في الشريط الأول ابتعدت عن بعضها ضعف المسافة الأصلية.

 

وباستخدام الشريط الموجود في جيبك كمرجع، ستقول الآن بأن المجرة الأخرى تبتعد مسافة ملياري سنة ضوئية، بالرغم من أن الشريط الأول يشير إلى مسافة مليار سنة ضوئية فقط. كما ترى فإن مفهوم "المسافة" في هذه الصورة الجديدة للكون يعتبر معقداً أكثر من الصورة القديمة! لا يتضح إذا كان الكون "يتوسع" حقاً، كل ما قمنا بقياسه هو تمدد المسافة بين كل زوجين من المجرات. (لاحظ أنه ربما يتوجب علينا أن نستخدم شريط قياس "وهمي" وهذا الشريط لا يمتلك قوى بين الجزيئات تربط ذراته ببعضها وذلك من أجل أن يتحقق السيناريو الموصوف أعلاه.)

(بالمناسبة، مقارنة شريط القياس هذه تشبه إلى حدٍ كبير ما يحدث للضوء عندما يسير بين المجرات. عندما ينبعث الضوء من إحدى المجرات ويسير عبر الفضاء ليصل لمجرة أخرى، أثناء رحلته خلال الفضاء سوف يتمدد كذلك، الأمر الذي يتسبب بجعل طوله الموجي أطول ومن ثم يتسبب بجعل لونه أقرب لجهة اللون الأحمر من الطيف. هذا ما يجعلنا نرى ضوءاً منزاحاً نحو الأحمر (redshifted light) عندما ننظر لمجرة بعيدة، وقياسات هذا الانزياح هي ما مكنتنا من تقدير المسافات بين تلك المجرات).

أين مركز الكون؟


في الصورة القديمة، من السهل معرفة أين يقع مركز الكون، إنه تلك النقطة في الفضاء التي تبتعد عنها المجرات بعيداً. أما في الصورة الجديدة، فهذا غير واضح. تذكر بأن المجرات لا تبتعد عن بعضها في الواقع، إنها تجلس ساكنة! لنعد لمقارنة العجين، من المؤكد أن باستطاعتك أن تتخيل حتى وإن كان العجين كبيراً جداً، فلا بد من وجود نقطة ما بداخله هي المركز الهندسي. ولكن هذا التعريف غير مفيد بعض الشيء. بما أن العجين يمثل الفضاء الذي نعيش فيه، لا نملك أية طريقة لنرى "خارج" هذا العجين لكي نأخذ فكرة عن الشكل بالكامل ونحدد أين يقع المركز.


إذن إذا كنت محجوزاً داخل العجين، ولا تملك أي طريقة لرؤية أي شيء غير العجين، وإذا كنت بعيد جداً عن "الحافة" ولا يمكنك أن تراها ولا يمكن أن تؤثر عليك بأي شكل، إذن فما هو الفرق الذي تلاحظه بين النقطة التي تقع فيها والنقطة التي تمثل المركز الهندسي فعلياً لقطعة العجين بأكملها؟ الإجابة هي أنه لا يوجد أي فرق، مطلقاً. يفقد مفهوم "مركز الكون" كل معانيه، لذا لا نفكر فيه أصلاً.

في الحقيقة، بإمكاننا أن نتقدم خطوة للأمام ونتخيل بأنه لا يوجد مركز على الإطلاق! كيف؟ بدلاً من كون العجين كبيراً جداً ماذا لو كان حجمه لا نهائي، بهذا الشكل، يمكنك المشي إلى الأبد في خط مستقيم ولن تصل إلى مكان ينتهي فيه العجين. في هذه الحالة، لن يكون هناك مركز فعلي للكون، الطريقة الوحيدة لمعرفة المركز هي أن تحدد الحواف وتبحث عن النقطة التي تقع في المنتصف بشكل متساوي بين تلك الحدود. إذن إذا كان الكون لانهائي الحجم وليس لديه أية حواف، فهو لا يملك مركز أيضاً، حتى على المستوى النظري.

إلى ماذا يتوسع الكون؟


أخيراً بإمكاننا العودة لسؤالنا الأصلي. في صورتنا القديمة للكون ستكون الإجابة سهلة، ولكنها غير مقنعة بعض الشيء. تتحرك مجموعة المجرات التي تكوّن الكون خلال الفضاء؛ لذا يتوسع الكون إلى مساحة أكبر مما يشمل فعلياً. أما في صورتنا الجديدة، فالمجرات هي مجرد حبات زبيب منتشرة في أنحاء العجين، ولكن تواجد الزبيب لا علاقة له بسؤالنا عن توسع الكون. ما نهتم به هنا هو العجين، وهل يمتلك حدوداً أم لا.

إذا كان للعجين حدود، فمن المنطقي أن نسأل ماذا يوجد وراء هذه الحدود وما الذي سيتوسع العجين إليه. ولكن بالنسبة لكوننا. فهذا سؤال معقد للغاية! الحدود في حواف العجين تمثل "حواف" الفضاء. بمعنى أننا نتواجد في حدود فضاء معين وليس لدينا أي وسيلة لتركه! إذن فلا نعتقد أننا نملك أي طريقة لرصد أو قياس ما وراء هذا الفضاء، إلا إذا كان له تأثير علينا ولا نعرف ذلك حتى الآن.

 

سيكون من الغريب جداً أن نتخيل وصولنا "لنهاية" الفضاء. مثلاً، كيف سيكون شكله؟ هناك بعض الأسئلة التي من المستحيل إعطاء إجابة علمية لها، لذا فالإجابة ببساطة هي أننا لا نعرف! كل ما نعرفه وفقاً لفهمنا الحالي لعلم الكونيات النظري، هو أن الكون لا يملك حدوداً، إما أنه لانهائي أو أنه ملتف حول نفسه بطريقةٍ ما. ويبدو أن المرصودات تتوافق مع هذه التوقعات في حالة أن الكون كان بالفعل له حدود، فنحن نعرف أن هذه الحدود بعيدة للغاية وبالتالي لا يمكننا أن نراها حالياً ولا تملك أي تأثير علينا.

إذا كان الكون لانهائياً بالفعل، إذن فالإجابة البسيطة على السؤال الأصلي هي أن الكون لا يملك أي شيء ليتوسع إليه. ولكن يبدو التفكير حول اللانهاية معقداً دائماً، ولكن من الممكن إجراء مقارنة تقريبية جيدة بواسطة الرياضيات البسيطة.

تخيل أن لديك قائمة الأرقام: 1,2,3,..., وحتى اللانهاية. ومن ثم تقوم بضرب كل رقم في هذه القائمة بالعدد 2، إذن سينتج عندك الآن 2,4,6,..., وحتى اللانهاية. المسافة بين الأرقام المتجاورة في قائمتك "تمددت" (أصبحت الآن 2 بدلاً من 1)، ولكن هل يمكنك فعلاً أن تقول أن حجم أرقامك بالكامل "توسع"؟

لقد بدأت بأرقام وصلت حتى اللانهاية، وانتهيت بأرقام وصلت حتى اللانهاية كذلك. إذن فالحجم الكلي نفسه! فإذا كانت هذه الأرقام تمثل المسافات بين المجرات في كون لا نهائي، فهذه مقارنة رائعة تجيب عن سؤالنا لماذا الكون لا يتوسع بالضرورة على الرغم من أنه يتمدد.


أخيراً، يجب علي أن أوضح أن ليس كل شيء في الكون "يتمدد" أو "يتوسع" بالطريقة التي تتمدد بها المسافات بين المجرات. مثلاً، أنا وأنت لسنا في حالة توسع، الأرض لا تتمدد، الشمس لا تتمدد، وحتى مجرة درب التبانة بأكملها لا تتمدد. وهذا بسبب أنه في هذه القياسات الصغيرة نسبياً، يطغى تأثير القوى الأخرى (مثلاً جاذبية المجرة، وجاذبية الشمس، وجاذبية الأرض، والقوى الذرية التي تربط أجسام الناس ببعضها) على تأثير تمدد الكون.

 

ولكن عندما نرى خلال مسافات بعيدة بما يكفي يصبح التمدد الكوني قابلاً للملاحظة أكثر من تأثيرات الجاذبية المحلية والقوى الأخرى التي تربط الأشياء ببعضها. (ولهذا، في المقارنة التي ناقشتها مسبقاً حول شريط القياس، لا يتمدد شريط القياس الذي تحتفظ به داخل جيبك بينما يتمدد الشريط الذي يمر بين المجرتين. أنا متأكدٌ من أن بعض الأشخاص كانوا يتساءلون حول هذا!)


عن الكاتب: ديف روثستين Dave Rothstein


ديف هو طالب دراسات عليا وباحث مابعد الدكتوراه في جامعة كورنيل سابقاً، ومن الذين استخدموا المراقبات بالأشعة تحت الحمراء، والأشعة السينية، ونماذج حاسوبية نظرية لدراسة تلاحم الثقوب السوداء ونموها في مجرتنا.
 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • تلسكوب هابل الفضائي. (HST): تلسكوب هابل الفضائي.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات