اكتشاف الأمواج الثقالية يطلق ثورة جديدة في الفيزياء!

لقد زدنا للتو مستوى إنصاتنا للسماء! ليغو LIGO ترصد الموجات الثقالية لأول مرة في تاريخ البشرية، وهي الأصداء الهادرة للأجسام الضخمة التي تتحرك في جميع أنحاء الكون.

 


تنبأت نظرية أينشتاين في النسبية العامة بوجود الموجات الثقالية، وهي التي تنصُّ على أنَّ الأجسام الضخمة تسبِّب انحناء الزمكان حولها. فعندما تتسارع هذه الأجسام تصنع موجات ثقالية: وهي تموجات في نسيج الزمكان تتباعد كالأمواج التي تخلِّفها القوارب أثناء إبحارها .

 


لقد كنَّا واثقين تماماً من وجودها لمدة من الزمن - تمَّ الاستدلال على وجودها بشكل غير مباشر منذ عام 1974 – ولكن لم يتم رصد أي منها بشكل مباشر.

 


في مؤتمر صحفي عُقد اليوم في نادي الصحافة الوطني في العاصمة واشنطن National Press Club ، والذي تمَّ بثه مباشرةً عبر وسائل الإعلام وإلى أعضاء الفريق الآخرين الذين ساهموا في هذا الاكتشاف، أعلنت مجموعة مرصد ليغو LIGO أنهم رصدوا أخيراً موجة من الموجات الثقالية.

 


حيث قال ديفيد ريتز David Reitze (المدير التنفيذي لمختبر ليغو LIGO Laboratory) في مؤتمر صحفي: "سيداتي و سادتي، لقد رصدنا موجاتٍ ثقالية. لقد فعلناها!" وقد رافق الإعلان ورقة علمية نُشرت في دورية Physical Review Letters العلمية.

 

حظٌ مضاعف


لقد نتجت هذه الإشارة التاريخية عن ثقبين أسودين يبعدان 1.3 مليار سنة ضوئية تقريباً، أحدهما ذو كتلةٍ أكبر بمقدار 29 مرة من كتلة الشمس، والآخر كتلته أكبر منها بمقدار 36 مرة، يدوران حول بعضهما البعض وبعد ذلك يندمجان في ثقب أسود واحد.

 


رصدت منظومة ليغو بمرصديها الأول في هانفورد في واشنطن، والثاني في ليفينغستون في لويزيانا، الاهتزازات في 14 سبتمبر/أيلول عام 2015 في نفس اللحظة تقريباً. حيث سجلت أجهزة الاستشعار فيهما توسعاً في نسيج الزمكان تلاه تقلص بما يقارب 0.001 من حجم البروتون - مسافة صغيرة جداً، ولكنها أكبر بمقدار 10 مرات من أصغر وحدة تستطيع منظومة ليغو قياسها .

 


كان هذا اكتشافاً محظوظاً بشكلٍ مضاعف: على المستوى الرسمي، لم يكن من المقرر البدء في جمع البيانات إلا بعد أربعة أيام، في 18 سبتمير/أيلول، في عمليةٍ استمرت لغاية 12 يناير/كانون الثاني 2016. وصلت الإشارة في حين كانت أجهزة الكشف في "وضع التشغيل الآلي engineering mode"، مما يؤكد عمل الأجهزة بشكل سيلم.

 


اصطدام الثقوب السوداء


كانت ضربة الحظ الثانية تكمن في طبيعة الإشارة: حيث يبدو أنَّ اندماجات الثقوب السوداء تحدث بشكلٍ أكثر شيوعاً مما كنا نتوقع.

 


تبعثُ جميع الأجسام موجاتٍ ثقالية عندما تدور حول بعضها البعض، بما في ذلك دوران الأرض حول الشمس. لكن أثناء دوران هذين الثقبين الأسودين حول بعضهما البعض، فإن الطاقة التي فقداها كأمواجٍ ثقالية كانت كافية لجعلهما يقتربان أكثر من بعضهما- ما أدى الى حدوث تشويهٍ أكبر في الزمكان وبالتالي انبعاث المزيد من الموجات الثقالية. الأمر الذي أدى إلى اصطدامهما ومن ثمَّ اندماجهما لتكوين ثقبٍ أسود أكبر حجماً، ويقول فرانز بريتوريوس Frans Pretorius، من جامعة برينستون Princeton University في ولاية نيو جيرسي: "إنها علاقةٌ طردية، فكلما اقتربا من بعضهما البعض أكثر، كان دورانهما أسرع". أدى ذلك في النهاية إلى دورانٍ سريعٍ جداً، لدرجة أنَّ كل دورة لم تدم أكثر من بضع أجزاءٍ من الألف من الثانية. عندما اندمجا في نهاية المطاف، كانت كتلة الثقب الأسود الناتج أكبر بمقدار 62 مرة من كتلة الشمس – أخف بثلاث كتلٍ شمسية من كتلتي الثقبين الأصليتين مجتمعتين، حيث استُنفِذت الكتلة المفقودة في تكوين الموجات الثقالية التي هزَّت نسيج الزمكان كما لو كان ورقة.

 


وقال كيب ثورن Kip Thorne من معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا Caltech، أحد مؤسسي مرصد ليغو: "إجمالي الطاقة التي نتجت عن اصطدام الثقبين الأسودين يساوي 50 ضعف طاقة كل نجوم الكون مجتمعة، إنه أمر لا يصدق!"

 


في البداية، كان الثقب الأسود الناتج متكتّل الشكل بدلاً من أن يكون مستديراً، وقد تسبّبت عملية التخلص من كل تلك التكتلات بانبعاث المزيد من الموجات الثقالية. حيث استقرَّ الثقب الأسود بعد ذلك على هيئةٍ كروية وبدأ يهدئ.

 


يمكننا في الواقع سماع الإشارة عن طريق ترجمة ترددات الموجات الثقالية إلى موجاتٍ صوتية، يطلق علماء الفيزياء عليها اسم صرير "chirp": وهي ارتفاع في النغمة والصوت أثناء دوران الثقبين الأسودين حول بعضهما بشكلٍ متسارع.

 
 

كان "الصرير" الذي صدر عن هذه الإشارة الجديدة قصيراً جداً، "مجرد ضربة صغيرة" كما جاء على لسان المتحدثة باسم مرصد ليغو غابرييلا غونزاليس Gabriela Gonzalez في المؤتمر الصحفي.

 

حدثٌ حقيقيّ


كانت هناك مخاوف من أن هذه الإشارة قد تمَّ تزييفها بشكل متعمَّد. إذ يتمتع فريق ليغو بسمعة سيئة لإدخاله إشارات مصطنعة لموجاتٍ ثقالية بشكلٍ سريّ في دفق البيانات لاختبار الإجراءات التحليلية للتجربة. حيث حدث هذا في رصد سابق عام 2010، ولكن هذه المرة يعلم أعضاء الفريق ذوو الخبرة شيئاً يبعث على الراحة، وهو أنه لا يمكن إدراج إشارات مزيفة خلال وضع التشغيل الآلي.

 


كما يمكن للبيانات المزيفة أن تأتي من الإدراج العرضيّ لنمطٍ يبدو وكأنه إشارة، أو حتى من التلاعب الماكر. ولكن باتباع إجراءات للتحقق من كلِّ الأدوات ومن كلِّ خطوةٍ في تحليل البيانات، استبعد الفريق ذلك أيضاً.

 


الإعلان الكبير، والذي يدعوه أعضاء الفريق "فتح الصندوق"، كان في مؤتمر عبر الهاتف في 5 أكتوبر/تشرين الأول. وفي اللحظة المتفق عليها، ظهر رسمٌ بياني على الهواء مباشرةً يوضِّح مدى احتمال حصول هذه الإشارة. كان من المرجَّح جداً أنَّ يكون الحدث حقيقياً.

 

مرحباً أيتها السماء الثقالية


هذا الاكتشاف غير المسبوق يفتح أبواباً عديدة، ولديه فرصةُ الفوز بجائزة نوبل.


بما أنَّ النسبية العامة قد تنبأت بالموجات الثقالية، فإنَّ هذه الموجات تقدِّم فرصةً لإثبات أنَّ نظرية أينشتاين في الجاذبية صحيحة. وحتى الآن، فقد نجحت النسبية العامة باجتياز جميع الاختبارات بنجاح، حيث فسَّرت معادلات أينشتاين هذه الإشارات المكتشفة بشكلٍ مثالي.

 


ولكن الإثارة الحقيقية تكمن في مقدرة الموجات الثقالية على أن تنير لنا جانباً من السماء المظلمة لم نره مطلقاً من قبل. حتى الآن، لم تكن هناك إشارة على وجود ثقوبٍ سوداء بهذا الحجم – ناهيك عن وجود اثنين منها.

 


يقول آفي لوب Avi Loe من جامعة هارفارد Harvard University في ولاية ماساتشوستس: "والآن بعد أن تمَّ الكشف عن الحدث الأول، فإن عصر علم فلك الموجات الثقالية قد بدأ".

 


ويتابع قائلاً: "كنت أقول، أثناء بنائهم للأجهزة، إنه يمكن النظر إلى هذا المشروع على أنه تجربة فيزيائية، ولكن بمجرد كشفهم لإشارةٍ ما، سينظر إليه على أنَّه مرصدٌ فلكيّ". سوف يكون مرصد ليغو قادراً على اكتشاف إشارات صادرة عن أجسام ضخمة لا نستطيع كشفها بتقنياتٍ أخرى.

 

قالت غونزاليس: "لقد كان طريقاً طويلاً جداً، إلّا أنَّ هذه هي البداية فقط. إنَّه أول اكتشافٍ في سلسلةٍ من الاكتشافات الأخرى القادمة، والآن بعد أن أصبحت لدينا أجهزة قادرة على كشف هذه الأنظمة، وبعد أن أصبحنا نعلم بوجود الثقوب السوداء المزدوجة، فقد بدأنا بالاستماع إلى الكون."

 

كل هذا الوقت، وسماء الموجات الثقالية تنتظرنا بفارغ الصبر، نحن على وشك أن ننصت إليها.
 

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات