هل ستُحدث الأمواج الثقالية ثورة جديدة في عالم الفيزياء!

انفجار ضوئي مفاجئ يحدث في السماء بعد تصادم ثقبين أسودين (black holes). هل هو مجرد مصادفة كونية أم أنّه سيدفع الفيزيائيين لإعادة التفكير بما قد تفعله الثقوب السوداء؟

في 14 أيلول/سبتمبر عام 2015، في الوقت نفسه الذي التقط فيه زوج من أجهزة كشف الأمواج الثقالية المترامية صوتَ اللحظة الأخيرة من تصادم ثقبين أسودين، تمّ رصد حالة أكثر تحييراً. فقد سجل تلسكوب الفضاء فيرمي العاملُ في مجال الأشعة غاما (FermiGamma-Ray) الذي يُحلّق على ارتفاع 500 كيلومترٍ فوق سطح الأرض، انفجاراً عابراً لأشعة غاما على شكل طاقة عالية من الضوء، لكن الإشارة كانت طفيفة إلى درجة أن علماء ناسا المسؤولين عن الأقمار الصناعية لم يلاحظوها في البداية.

صرّحت فاليري كونوتون Valerie Connaughton إحدى أعضاء فريق فيرمي: "رصد لايغو (LIGO) شيئاً مضيئاً وواضحاً في بياناته، وقد أظهرت بياناتنا ومضةً على شاشة الرّادار لا يمكن تكذيبها لأنها حدثت في وقت مقارب لحدوث الأمواج الثقالية".

davidope for Quanta Magazine
davidope for Quanta Magazine


في 11 شباط/فبراير نشر باحثو فيرمي بحثاً غير مطبوع على موقع arxiv.org يصف انفجار أشعة غاما ويرجّح أنها ناجمة عن اندماج الثقب الأسود نفسه الذي أنتج الأمواج الثقالية التي رصدها لايغو (مرصد التداخل الليزري للأمواج الثقالية)؛ وقد يقلب الترابط، الذي لم يتم إثباته بعد، الفرضيات الراسخة في علم الفيزياء. 

لطالما اعتقد علماء الفيزياء الفلكية أن الثقوب السوداء توجد في الخلاء لأنها تبتلع كل المواد حولها، وبالتالي فإن انعدام المادة فيها يعني استحالة أن ينتج ضوءً أو طاقة من اندماج ثقبين أسودين.

يقول آدم بوروز Adam Burrows عالم فيزياء فلكية في جامعة برينستون: "إذا لم تكن لديك جسيمات مشحونة فلن يكون لديك حقل مغناطيسي، وبالتالي لا يمكن الحصول على شعاع كهرومغناطيسي، إنّه نظام واضح تماماً".

بعد أيام من طرح فريق فيرمي لبحثهم، سارع عدد من علماء الفيزياء الفلكية لاقتراح تفسيرات نظرية لوجود المادة حول الثقوب السوداء بتراكيز عالية بما فيه الكفاية لتوليد انفجار غاما. كانت هذه النظريات كلها محض خيالات من الفيزياء الفلكية، وقد ظهرت في أعقاب هذا الحدث التاريخي لتشرح رؤية ضوء لم يكن من المفترض حدوثه أبداً.

غالباً ما تحدث انفجارات أشعة غاما عندما ينهار نجم ضخم ليشكل ثقباً أسود. تؤدي هذه العملية إلى انفجار جسمين خارجيين بسرعة تقارب سرعة الضوء.
غالباً ما تحدث انفجارات أشعة غاما عندما ينهار نجم ضخم ليشكل ثقباً أسود. تؤدي هذه العملية إلى انفجار جسمين خارجيين بسرعة تقارب سرعة الضوء.


صدفة كونية؟


تقع أشعة غاما في نهاية الطيف الكهرومغناطيسي. وتملك هذه الأشعة الأطوالَ الموجية الأقصر والأعلى تردداً بين الأنواع المختلفة للضوء، كما تملك قدراً من الطاقة يفوق طاقة الأشعة فوق البنفسجية بملايين المرات.

يجب أن تتوافر ظروف قاسية لخلق هذا الكمّ من الطاقة وهنالك نوعان فقط من الأحداث الفلكية يوفران هذه الظروف، أحدهما سقوط نجم ضخم في ثقب أسود. فحين تنهار نواة النجم على نفسها ثقالياً تقوم بقذف الغلاف المُكون من المادة المحيطة بها وتشكيل تدفُّقات عنيفة من الطاقة التي تدفع هذه المادة إلى الفضاء بسرعة الضوء، هذا ما يُطلق عليه اسم "انفجارات غاما طويلة الأمد" (long gamma-ray bursts)، التي تمثل فئة 80% من جميع أنواع انفجارات أشعة غاما وتستمر عادة نحو 20 ثانية.

أما الآلية الثانية لإحداث انفجار أشعة غاما فهي اندماج جسمين مضغوطين جداً، كزوج من النجوم النيوترونية (neutron stars)، أو نجم نيوتروني وثقب أسود. فيما يخص حالة النجم والثقب الأسود فإن المادة تشكل حلقة حول الثقب الأسود تسمى القرص المتنامي (accretion disk). وبسقوط المادة من القرص المتنامي إلى الثقب الأسود تتشكل كتلٌ من الطاقة على طول محور الاندماج وينتج في النهاية انفجار قصير لأشعة غاما (short gamma-ray burst)، ولا يستمر عادةً أكثر من ثانيتين.

تشبه انفجارات غاما عروضَ الألعاب النارية لكن للكون كله، وتحدث على نطاق لا يمكننا حتى تخيّله، كما أنّها توفّر لعلماء الفيزياء الفلكية طريقة لرؤية الأحداث الكونية الخفيّة. تقول كونوتون Connaughton: "تسمح لنا انفجارات غاما القصيرة رؤية الأجرام المظلمة، فعند اندماج هذه الأجرام تنتج عنها تدفقات شديدة من جسيمات عالية الطاقة ويسمح لنا هذا برؤية شدة هذه الظاهرة التي كانت لتكون مظلمة لولا حدوث الاندماج".

في 14 أيلول/سبتمبر اكتشف فيرمي حدثاً قصيراً عابراً سُجّل على أنه ومضةٌ على شاشة الرادار، ولكنّها كانت قاتمة لدرجة لم ينتبه لها الفريق في بادئ الأمر. لاحقاً عندما علموا أنّ لايغو رصدت الأمواج الثقالية، عادوا إلى قاعدة بياناتهم ليتأكدوا إن كان فريق فيرمي قد عثر على شيء مثير للاهتمام في الوقت نفسه.

 

باستخدام الخوارزمية التي طوّرتها ليندي بلاكبيرن Lindy Blackburn، عالمة فلك في مركز هارفارد سميثونيان للفيزياء الفلكية في كامبريدج في ولاية ماساشوستس وعضوة في فريق لايغو، فتّش باحثو فيرمي عن ومضات باهتة في قاعدة بياناتهم المكتظة. عندها وجدوا انفجار غاما الذي حدث بعد 0.4 ثانية من حدوث الموجة الثقالية، وقد دام لمدة ثانية فقط. وكان لها الخصائص نفسها لانفجار غاما القصير الذي يحتوي على طاقة أكثر بـ 10,000 ترليون مرة من الطاقة التي تنتجها الشمس في المدة الزمنية نفسها.

بعد قيام فريق فيرمي بنشر بحثهم، وظهور احتمال كون انفجار غاما حقيقياً لا مجرد خطأ تقني، يصبح السؤال المتعلق بالرابط بينه وبين حدث لايغو حقيقياً وموضعَ نقاشاتٍ حادة في الأسابيع اللاحقة.

وقد صرّح الفريق أن انفجار أشعة غاما حدث تقريباً في منطقة 2000 درجة مربّعة في السماء. بربطها بالموقع الذي حددته لايغو ذي الـ 600 درجة يتم تقليل جهة الوصول إلى بقعة مساحتها 200 درجة مربعة في السماء وهذا ما يدعم الاستنتاج القائل إن أشعة غاما والموجة الثقالية نشأتا في المكان ذاته. كما أن توقيت الحادثتين يعطي نفس الدلائل. 

يرصد فيرمي عادة ومضة واحدة صغيرة الحجم كهذه كل 10,000 ثانية (أو تقريباً كل ساعتَين و 47 دقيقة)، ما يجعل من غير المرجح، لكنّه ليس مستحيلاً، أن يكون الرصدُ شبه المتزامن لانفجار أشعة غاما والأمواج الثقالية عبارة عن مصادفة.

تقول كونوتون: "يوجد احتمال ضعيف لكنّه وارد أن ما يحدث مجرد مصادفة، لهذا نتوخى الحذر بأن نقول إن هذا الحدث هو نظير الحدث الذي رصدته لايغو".

يقول كارلو فيرينغو Carlo Ferrigno العضو في الفريق التكاملي: "إنّه نتيجة three-sigma وليس شيئاً نسلم به في الظروف العادية. في الحقيقة، في الوقت نفسه الذي رصد فيه فيرمي الانفجار فإن مرصداً آخرَ لأشعة غاما، وهو القمر الصناعي المتكامل لوكالة الفضاء الأوروبية لم يرصد أي شيء. من وجهة نظرنا فإنه من غير المحتمل أن يكون هنالك أي ترابط بين الحدث الذي رصدته فيرمي وحدث الموجة الثقالية".



والأهم من ذلك أنّ فريق فيرمي حذّر من ربط الحدثَين لأنه من غير المفترض لاندماج ثقبين أسودين أن يولّد الضوء. وتُعلق كونوتون: "كل الأحداث تصب في صالح النظرية، إلا قوانين الفيزياء وهذه هي المشكلة". إذاً، الفيزياء تطرح مشكلة، أو على الأقل لغزاً!



فيديو: في هذه المحاكاة الحاسوبية، ينهار نجم فائق الكتلة يدور بسرعة كبيرة مشكلاً ثقبين أسودين يقومان بالاندماج فيما بعد ليشكلا ثقباً واحداً. تمّ استخدام طريقة مشابهة لهذه لشرح كيف أن اصطدام الثقوب السوداء قد يؤدي إلى انفجار أشعة غاما.

يقول جون إليس John Ellis، وهو فيزيائي جسيمات في جامعة كينغ في لندن: "لإنتاج انفجار أشعة غاما، يجب توافر مادة مألوفة (اعتيادية) مثل القرص المتنامي الذي يكون حول الكائن المندمج. أعتقد أنّه من الواضح جداً أنه إن كنا نتحدث عن اندماج النجوم النيوترونية فستتوافر هذه المادة، وهي غير واضحة حول الثقوب السوداء".

وبمرور الوقت، سيتم اكتشاف مدى صحة مراقبة فيرمي. ومن المرجح أن تكتشف لايغو المزيد من الأمواج الثقالية، وعندما يحدث ذلك سيقوم فريق فيرمي بالبحث عن انفجارات أشعة غاما المطابقة. وإن وجدوها سيعلمون أنهم اكتشفوا شيئاً ما.

بناء ثقوب سوداء مشعّة


في هذه الأثناء يحاول علماء الفيزياء الفلكية تفسير إمكانية وجود مواد كافية حول ثقبين أسودين لإحداث انفجار أشعة غاما. يعتقد بينغ زانغ Bing Zhang، عالم فيزياء فلكية في جامعة نيفادا في لاس فيغاس، أنّه قد يكون أحد الثقبين المتصادمين أو كلاهما يحتوي على شحنة قد تكون كافية لخلق مجال مغناطيسي قادر على توليد انفجار أشعة غاما، لكن وفقاً لقوانين الفيزياء الفلكية المعروفة فإن الثقوب السوداء لا تحتوي على أي شحنات قابلة للقياس.

ويأتي اقتراح آخر من روزالبا بيرنا Rosalba Perna، عالمة فيزياء فلكية في جامعة ستوني بروك. ففي بحث نشرته على موقع arxiv.org في 16 شباط/فبراير، كتبت مع اثنين من زملائها أن وجود نجمين هائلين في نظام نجمي ثنائي واحد قد يؤدي إلى خمودهما ليشكلا فيما بعد ثقبين أسودين. وعند خمود النجم الثاني قد يتراجع حطام غلافه ويسقط في اللبّ متحولاً إلى "قرص متنامٍ"، وعندما يبدأ الاندماج سيدخل أحد الثقبين في قرص الآخر مسبباً حدوث انفجار غاما.

كما قد عرض آفي لوب Avi Loeb، رئيس قسم الفلك في جامعة هارفارد، احتمالاً ثالثاً في بحثٍ نشره على arxiv.org في 15 شباط/فبراير وقُبل فيما بعد للنشر في مجلة The Astrophysical Journal Letters، وصف فيه لوب إمكانية نشوء ثقبين أسودين في وقت واحد داخل نجم أكبر من الشمس بـ 100 مرة.

 

وحسب ما يظن فإن هذا النجم الضخم قد نتج عن التحام نجمين أصغر حجماً، كما أن ظروف هذا الاندماج أدت إلى دوران النجم الضخم بسرعة هائلة، وعندما بدأ بالانهيار تسببت قوة الطرد الناتجة عن الدوران بانقسام نواته إلى كتلتين شبيهتين بالدمبل، وكل كتلة قامت فيما بعد بتشكيل ثقب أسود، ليحدث تشابك ثقالي بين الثقبين الأسودين داخل بقايا النجم الضخم.

ويضيف لوب Leob: "إن هذه العملية تشبه وجود توأمين في رحم امرأة حامل يندمجان فيما بعد لتشكيل ثقب أسود". وفي السيناريو الذي وضعه لوب يحدث اندماج في نهاية المطاف بين الثقوب السوداء؛ ولأن هذا الاندماج حدث داخل النجم الضخم سيكون هنالك الكثير من المواد التي ستسبب انفجار أشعة غاما -وفي الواقع يتخيل لوب أنّ في كل ثانية أثناء الاندماج ستسقط كتلة بحجم الشمس داخل الثقب الأسود الذي تكوّن لتوّه.

بحثُ لوب ليس إلّا بداية لمحاولة شرح رؤية ستوجب على علماء الفيزياء الفكلية التفكير بطريقة جديدة إذا تمّ إثباتها. ففي اقتراحه يتحدث عن نجم ضخم يدور بسرعة هائلة وهذا شيء لم يره أحد من قبل، بالإضافة لتحدثه عن نواة النجم التي تدور بسرعة إلا أنها لا تنقسم إلى كتلتين على شكل دمبلين بل تخلق قرصاً مسطحاً بأذرعٍ حلزونية.

 

خلال العام المقبل سيحاول لوب وغيره من العلماء العمل على محاكاة حاسوبية لتوضيح ما إذا كان ممكناً خلقُ الظروف التي شرحها في وثيقته. يُشكّك بعض زملاء لوب في صحة السيناريو خاصته، ويقول بوروز: "شخصياً أعتقد أن هناك القليل من المبالغة، لقد تم الجمع بين الكثير من الخرافات لشرح حادثة قد تكون كشفاً كاذباً".

يعتبر آخرون أنّ بحث لوب يوجّه الفيزياء الفلكية في الاتجاه الصحيح بغضّ النظر عمّا إذا كان ما قاله صحيحاً أم لا.

وفقا لفولكر بروم Volker Bromm، عالم فيزياء فلكية في جامعة تكساس أوستن: "هذا هو الحال في المجال العلمي، فعندما تكون هناك اكتشافات جديدة ومهمة -في هذه الحالة لايغو- تبدأ التكهنات المبكرة التي يطرح فيها الناس أفكارهم. أعتقد أن بحث آفي ممتاز لأنّه يركّز اهتمام الناس على ما يجب فعله، إنه معقول بكل تأكيد".

مع الوقت ستتبين صحة اكتشاف فيرمي، وإن تبيّن أنّه صحيح سيتم تطوير نظريات لشرح كيفية توليد ثقبين أسودين لانفجار غاما. قد تكون هذه النظريات مشابهة لما طرحه كل من زانغ، وبيرنا، ولوب؛ أو قد تكون نظريات مختلفة تماماً. لكن الواضح حتى الآن أنّ هناك الكثير من الأبحاث العلمية التي يجب أن تنجز بعد لايغو؛ فالاندفاع نحو فكّ الآثار المترتبة على العالم بعد الأمواج الثقالية قد بدأ بالفعل.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • انفجارات الأشعة غاما (GRBs) (gamma-ray bursts): هي عبارة عن ومضات من أشعة غاما تترافق مع انفجارات عالية الطاقة يرصدها علماء الفلك في المجرات البعيدة.
  • انفجار الأشعة غاما (Gamma-Ray Burst): الجمع هو GRBs. يستمر الانفجار بالأشعة غاما لفترة من الزمن تمتد بين جزء من الثانية إلى العديد من الدقائق. لا وجود لنتائج علمية محددة تدل على أسباب هذه الانفجارات. و مؤخراً فقط، تم تحديد البعد الذي يفصلنا عن هذه الانفجارات الذي تبين أنه كبير، مما يدل على أن هذه الانفجارات تحصل في مجرات أخرى. المصدر: ناسا
  • قرص التضخم (التراكم) (accretion disk): صفيحة مسطحة نسبياً ومكونة من الغاز والغبار المحيطين بنجم مولود حديثاً، أوثقب أسود، أو أي جسم فائق الكتلة ينمو بالحجم من خلال جذبه للمواد.
  • النجم النيوتروني (Neutron star): النجوم النيوترونية هي أحد النهايات المحتملة لنجم. وتنتج هذه النجوم عن نجوم فائقة الكتلة -تقع كتلتها في المجال بين 4 و8 ضعف كتلة شمسنا. فبعد أن يحترق كامل الوقود النووي على النجم، يُعاني هذا النجم من انفجار سوبرنوفا، ويقوم هذا الانفجار بقذف الطبقات الخارجية للنجم على شكل بقايا سوبرنوفا جميلة.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات