طريق العلم من الخرافة إلى الكون المتعدد

 ستيفن واينبرغ، هو عالم فيزياء لدى جامعة تكساس في أوستن، حاز جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1979 عن عمل أصبح حجر الزاوية في فيزياء الجسيمات.


المصدر: جيف ويلسون


في كتابه الأخير، يستطلع الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء، "ستيفن واينبرغ" Steven Weinberg، كيف صنع العلم العالم الحديث، وإلى أين قد يصل بنا من هنا.

نستطيع أن نفكر في تاريخ الفيزياء كمحاولة لتوحيد العالم من حولنا: بالتدريج، وعلى مدى عدة قرون، صرنا نرى أن الظواهر التي يبدو أنها غير مترابطة، هي مرتبطة ارتباطاً وثيقاً. عالم الفيزياء ستيفن واينبرغ من جامعة تكساس، أوستن، حاز جائزة نوبل في الفيزياء للعام 1979 على إحرازه تقدماً كبيراً في هذا المسعى -بيّن كيف أن الكهرومغناطيسية والقوة النووية الضعيفة هما تجليان لنفس النظرية الأساسية (وقد تقاسم الجائزة مع "عبد السلام" Abdus Salam و"شيلدون غلاشو" Sheldon Glashow.

 

وأصبح هذا العمل حجر الزاوية في "النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات" (the Standard Model of particle physics)، الذي يصف كيف تتجمع لبنات البناء الأساسية للكون معاً لخلق العالم الذي نراه.


كتاب واينبيرغ الجديد يبحث في أصول العلم الحديث.  المصدر: مجلة كوانتا/أولينا شمالو
كتاب واينبيرغ الجديد يبحث في أصول العلم الحديث. المصدر: مجلة كوانتا/أولينا شمالو

في كتابه الجديد "لشرح العالم: اكتشاف العلم الحديث"، يفحص واينبرغ كيف وُلد العلم الحديث. من خلال تتبع تطور ما نسميه الآن "المنهج العلمي" -وهو مقاربة، طُورت على مدى قرون، وتؤكد على التجارب والمشاهدات بدلاً عن الاستنباط من المبادئ الأولى- ويحاجج واينبرغ بأن العلم، بخلاف الطرق الأخرى لتفسير العالم من حولنا، يستطيع أن يمنح تقدماً حقيقياً. فمن خلال العلم، يتحسن فهمنا للعالم مع مرور الزمن، بناءً على ما سبق التوصل إليه.

 

من الممكن أن تحدث الأخطاء، ولكنها تُصحح في نهاية المطاف. تحدث واينبرغ لـ "مجلة كوانتا" Quanta Magazine عن ماضي ومستقبل الفيزياء، وعن دور الفلسفة في العلم، والإمكانية المذهلة لأن يكون الكون الذي نراه من حولنا محض شذرة صغيرة من كون متعدد أكبر من ذلك بكثير. وفيما يلي نسخة منقحة ومختصرة من هذه المقابلة.


مجلة كوانتا: بصفتك عالم فيزياء، كيف يختلف منظورك لتاريخ العلم عن منظور المؤرخ؟


ستيفن واينبرغ: هناك فارق واحد، بالطبع، وهو أنهم يعرفون أكثر مما أعرف- على الأقل، في مجال تخصصهم ذاته. فالمؤرخون الحقيقيون لديهم فهم أفضل بكثير للمصادر الأصلية مما يمكن أن يكون لدي من فهم لها. لو كانوا من مؤرخي العالم القديم، فسوف يكونون خبراء في اللغات اليونانية واللاتينية، التي لا أفقه منها شيئاً ولو عن بعد.

ولكن هناك أيضا اختلاف في التوجه. إذ أن كثيراً من المؤرخين يعارضون بشدة ما يسمى "التفسير التقدمي" (Whig interpretation) للتاريخ، والذي يذهب إلى النظر في الماضي محاولاً التقاط الخيوط التي تؤدي إلى الحاضر. إنهم يشعرون أن الأكثر أهمية، هو فهم الحالة الذهنية لمن عاشوا الزمن الذي تكتب عنه. وهم محقون.

 

ولكني سأجادل بأنه، حين يتعلق الأمر بتاريخ العلم، فإن التفسير التقدمي مبرر أكثر بكثير. السبب في ذلك، هو أن العلم، على العكس من، قُل السياسة أو الدين على سبيل المثال، هو فرع تراكمي من فروع المعرفة. تستطيع أن تقول، وليس فقط من باب الذائقة، بل بموجب حكم متزن، أن نيوتن كان يعرف عن العالم أكثر مما عرف أرسطو عنه، وأن أينشتاين كان يعرف أكثر مما عرف نيوتن. لقد كان هناك تقدم حقاً. ولاقتفاء أثر هذا التقدم، فمن المعقول أن ننظر إلى العلم في الماضي وأن نحاول التقاط أنماط التفكير التي إما أدت إلى التقدم، أو أعاقته.


مجلة كوانتا: لماذا ركزت على تاريخ الفيزياء وعلم الفلك؟ 


ستيفن واينبيرغ: حسناً، هذا ما أعرفه، هذا هو مجال الذي لدي شيء من الكفاءة فيه. ولكن، هناك سبب آخر: الفيزياء وعلم الفلك هما المجالان اللذان أصبح العلم فيهما "حديثاً" حقاً. في الواقع، إنها الفيزياء كما طُبقت على علم الفلك. لقد منحنا نيوتن المقاربة الحديثة للفيزياء في أواخر القرن السابع عشر.

 

وقد صارت فروع علمية أخرى علوماً حديثة فقط منذ زمن أكثر قرباً: الكيمياء في أوائل القرن التاسع عشر والبيولوجيا في منتصف القرن التاسع عشر، أو ربما في أوائل القرن العشرين. لذلك، إذا أردت أن تفهم اكتشاف العلم الحديث -الذي هو العنوان الفرعي لكتابي- فإن هذا الاكتشاف قد تم في سياق الفيزياء، خصوصاً كما طُقبت على علم الفلك.

مجلة كوانتا: غالباً ما تُعد الفيزياء النظرية سعياً نحو التوحيد -إننا نفكر بأن نيوتن يوحد الفيزياء الأرضية والسماوية، أو أن جيمس كلارك ماكسويل (James Clerk Maxwell) يوحد الكهرباء والمغناطيسية والضوء. وبالطبع هناك عملك أنت. فأين يقف هذا السعي نحو التوحيد اليوم؟ 

ستيفن واينبرغ: لم يتقدم كثيراً، باستثناء حقيقة أن النظريات التي كنا نتفكر فيها في ستينيات القرن العشرين قد أثبتتها المشاهدة. في النظرية التي طورتها في العام 1967 -طور عبد السلام نفس النظرية جوهرياً، بشكل مستقل، في العام 1968- لعب حقل "كسر التناظر" (symmetry-breaking field) دوراً أساسياً، تجلى في جسيم يسمى "بوزون هيغز" (Higgs boson)، الذي تنبأنا بخصائصه، باستثناء كتلته.

 

أما الآن، وبفضل التجارب التي أجريت في "سيرن" (CERN)، فقد تم التحقق من هيغز. لذلك، فنحن على أرض أكثر صلابة بكثير. ولكننا لم نذهب إلى أبعد من ذلك. لقد بُذلت جهود هائلة للتقدم مزيداً من الخطوات، خصوصاً في سياق "نظرية الأوتار" (string theory). إذ أن نظرية الأوتار ستوحد جميع القوى -القوى النووية القوية والضعيفة والقوة الكهرومغناطيسية، جنباً إلى جنب مع الجاذبية.

 

وقد وفرت نظرية الأوتار بعض الأفكار الرياضية العميقة حول كيفية تحقيق ذلك. لكننا بعيدون عن إمكانية إثبات النظرية -أبعد كثيراً مما كان عليه بعدنا عن إثبات نظرية "القوة الكهروضعيفة" (electroweak) منذ 40 عاماً مضت.

مجلة كوانتا: من المقرر إعادة تشغيل مصادم الهادرون الكبير، أو اختصاراً (LHC) مرة أخرى هذا العام، وبقوة مضاعفة عما كان عليه في جولة تشغيله الابتدائية. ما الذي تأمل أن يجده -لست متأكداً مما اذا كانت "أمل" هي الكلمة المناسبة- عندما يتم تشغيله؟

 "النموذج القياسي معقد إلى حد أنه سيكون من الصعب طباعته على تي شيرت".


ستيفن واينبيرغ: الأمل هي الكلمة المناسبة تماماً! يعتمد الأمر على أي من الجسيمات الجديدة ستكون ذات كتلة ضمن النطاق الذي يستطيع المصادم سبره. من المؤكد أن هناك أشياء للتحري عنها. الشيء الأكثر وضوحاً هو "جسيم المادة السوداء" (dark-matter particle).

 

نحن نعرف من علم الفلك أن خمسة أسداس من مادة الكون هي شيء لا يتوافق مع النموذج القياسي لفيزياء الجسيمات، بيد أنه ليست لدينا أي فكرة عن كتلتها. يستطيع علماء الفلك إخبارنا عن الكتلة الإجمالية لهذه المادة المظلمة، ولكن ليس عن الكتلة التي يحملها كل جسيم.

 

اذا كان الجسيم هو جسيم المادة السوداء التقليدية، الذي يعرف باسم "الجسيم الافتراضي الثقيل ضعيف التفاعل"، أو اختصاراً (WIMP)، فربما تمكّن المصادم من العثور عليه. يعتمد هذا على مدى ثقله، وعلى كيفية اضمحلاله، لأنك لا ترى الجسيمات نفسها قط، بل فقط نتائج اضمحلالها.

ربما تمكن المصادم، أيضاً، من العثور على إشارات التناظر الفائق، وهي النظرية التي تفترض أن لكل واحد من الجسيمات المعروفة جسيماً شريكاً -ولكن، مرة أخرى، نحن لا نعرف ما الذي ستكون عليه كتلة هذه الجسيمات الشريكة. وهنا، يوجد ريب أعمق: إننا لا نعرف ما إذا كانت لـ "التناظر الفائق" (supersymmetry) أي صلة بالعالم الحقيقي. علاوة على ذلك، من الممكن أن تكون هناك كواركات أثقل، وربما حتى نسخ أثقل من جسيم هيغز.

مجلة كوانتا: يقال أحيانا إن التناظر الفائق سيكون نوعاً من التأكيد لنظرية الأوتار، التي كان من المستحيل اختبارها بأي طريقة مباشرة. إذا لم يجد مصادم الهادرون الكبير أي دليل على التناظر الفائق، فما الذي سيحدث لنظرية الأوتار؟

ستيفن واينبيرغ: ملعون أنا لو كنت أعلم! لسوء الحظ، لا تضع نظرية الأوتار أي توقعات محددة عن الفيزياء على مستوى القوى التي يمكننا الوصول إليها. إن نوع الطاقات الخاصة بالبنى التي تتعامل معها نظرية الأوتار عالية جداً إلى حد أننا قد لا نتمكن أبداً من إعادة إنتاجها في المختبر. ولكن تلك الطاقات كانت شائعة في الكون المبكر جداً.

 

لذا، ومن خلال المشاهدات الكونية، ربما تمكنا من التعامل مع فيزياء تلك الطاقات العالية بشكل لا يصدق. على سبيل المثال، إذا كانت كثافة طاقة المادة في وقت التضخم من رتبة الحجم الذي هو سمة من سمات نظرية الأوتار، فإن قدراً كبيراً من الإشعاع الثقالي سيكون قد أُنتج في ذلك الحين، وسيكون قد خلف أثراً على "إشعاع الخلفية الكونية الميكروي" (cosmic microwave background).

 

في سنة 2014، أعلن العلماء الذين يعملون على التلسكوب BICEP2 أنهم عثروا على هذه الموجات الثقالية. أما الآن، فيبدو أنهم كانوا في الواقع يقيسون "الغبار النجمي" (interstellar dust) وربما أدى مزيد من الملاحظات بواسطة القمر الصناعي "بلانك" (Planck satellite) إلى تسوية هذه المسألة. أعتقد أن هذا واحد من أكثر الأمور إثارة من بين كل ما يحدث في علم الفيزياء حالياً.


مجلة كوانتا: هل غاية المنظرين القصوى، هي مجموعة من المعادلات التي يمكن طباعتها على تي شيرت؟


ستيفن واينبيرغ: هذه هي الغاية. النموذج القياسي معقد إلى حد أنه سيكون من الصعب طباعته على تي شيرت- إلا أن ذلك ليس مستحيلاً. سيكون عليك أن تكتب بخط صغير نوعاً ما. حالياً، لا يأخذ النموذج الجاذبية في الحسبان، ولذلك لن يكون "نظرية كل شيء" (theory of everything). لكنه سيكون نظرية كل الأشياء الأخرى التي ندرسها في مختبراتنا الفيزيائية.

 

النموذج القياسي معقد بما يكفي، ويتضمن كثيراً من السمات الاعتباطية، ولذلك نحن نعلم أنه ليس الإجابة النهائية. سيكون الهدف، هو الحصول على نظرية أبسط وذات سمات أقل اعتباطية -وربما بلا أي منها على الإطلاق- ومن الممكن طباعتها على تي شيرت. ونحن لسنا هناك بعد. 

"ليس عليك أن تثبت كل تنبوء لتعرف ما إذا كانت النظرية صحيحة"

مجلة كوانتا: يرى بعض علماء الفيزياء أننا قد نضطر للقبول بنسق من النظريات المختلفة، التي ربما تمثل حلولاً مختلفة لمعادلات نظرية الأوتار. وربما كان كل حل منها يمثل كوناً مختلفاً - جزء من "كون متعدد" أكبر.

ستيفن واينبيرغ: أنا لست من دعاة الفكرة التي تقول بأن كوننا الذي نتج عن الانفجار العظيم هو مجرد جزء من كون متعدد أكبر. إلا أن هذا يجب أن يؤخذ بجدية كاحتمال ممكن. وهو يؤدي إلى نتائج مثيرة للاهتمام. على سبيل المثال، إنه قد يفسر لماذا كانت لبعض ثوابت الطبيعة، خاصة الطاقة المظلمة، قيم تبدو مواتية جداً لظهور الحياة.

 

افترض أن لديك كوناً متعدداً تختلف فيه الثوابت، من مثل الطاقة المظلمة التي تختلف من انفجار عظيم إلى آخر. إذن، إذا سألت لماذا أخذت القيمة التي أخذتها في انفجارنا العظيم، فعليك أن تأخذ بعين الاعتبار أن هناك "تأثير الانتقاء" (selection effect): إذ فقط في الانفجارات العظمى التي تكتسب فيها الطاقة المظلمة قيمة مواتية لظهور الحياة، سيوجد هناك من سيطرح هذا السؤال.

هذا سؤال مقارب جداً لسؤال ناقشه علماء الفلك لآلاف السنين، بشأن الأرض والشمس. لماذا تقع الشمس على المسافة التي تقع عليها منا؟ لو كانت أقرب، فإن الأرض ستكون أسخن من أن تأوي الحياة. ولو كانت أبعد، فإن الأرض ستكون باردة جداً. لماذا هي على المسافة الملائمة تماماً؟ معظم الناس، من مثل جالينوس، الطبيب الروماني، اعتقدوا أن هذا كان هبة من الآلهة، وأن كل هذا قد دُبر من أجل مصلحتنا.

 

الإجابة الأفضل كثيراً -الإجابة التي سوف نعطيها اليوم- هي أن هناك مليارات الكوكب في مجرتنا، ومليارات المجرات في الكون. وليس من المستغرب أن قلة منها، من بين كل تلك المليارات، قد تموضعت بطريقة مواتية للحياة.


مجلة كوانتا: ولكننا نستطيع على الأقل رؤية بعض تلك الكواكب الأخرى. وليس هذا هو الحال مع الأكوان التي يقال إنها تشكل الكون المتعدد.

ستيفن واينبيرغ: ليس من ضمن متطلبات النظرية الفيزيائية الناجحة أن يكون كل ما تصفه قابلاً للمشاهدة، أو أن تكون كل تنبؤات النظرية قابلة للإثبات. على سبيل المثال، لدينا نظرية ناجحة للغاية عن القوى النووية القوية، تسمى "التحريك اللوني الكمومي" (quantum chromodynamics)، أو اختصاراً (QCD)، والتي تقوم على فكرة أن الكواركات ترتبط معاً بواسطة قوى تزداد مع المسافة، لذلك فإننا لن نتمكن قط، حتى من حيث المبدأ، من رصد كوراك معزول. كل ما نستطيع رصده هو التنبؤات الناجحة الأخرى للـ QCD. نحن لا نستطيع الكشف فعلياً عن الكواركات، ولكن هذا ليس مهماً. فنحن نعرف أن نظرية الـ QCD صحيحة، لأنها تنتج تنبؤات نستطيع التحقق منها.

وبالمثل، فإن نظرية الأوتار، التي تتنبأ بأكوان متعددة، لا يمكن إثبات صحتها عن طريق الكشف عن أجزاء أخرى من الكون المتعدد. لكنها قد تُنتج تنبؤات أخرى يمكن التحقق منها. على سبيل المثال، يمكنها أن تقول إنه في كل الانفجارات العظمى ضمن الكون المتعدد، هناك أشياء بعينها سوف تكون دائما صحيحة، وهذه الأشياء يمكن التحقق منها.

 

فقد نقول بأن بعض التناظرات ستُرصد دائماً، أو أنها سوف تنكسر دائماً وفق نمط معين نستطيع رصده. وإذا ما قدمت تنبؤات كافية من هذا القبيل، فسيكون بوسعنا أن نقول أن نظرية الأوتار صحيحة. وإذا تنبأت النظرية بكون متعدد، فإننا سنقول أنها صحيحة أيضاً. أنت لست بحاجة للتحقق من كل تنبؤ لتعرف أن النظرية صحيحة.

مجلة كوانتا: عندما نتحدث عن الكون المتعدد، يبدو الأمر كما لو أن الفيزياء تلامس الفلسفة. لقد أغضبَ عدد من علماء الفيزياء، من بينهم ستيفن هوكينج (Stephen Hawking) ولورانس كراوس (Lawrence Krauss)، الفلاسفة حين وصفوا الفلسفة بأنها غير مجدية. ويبدو أنك في كتابك الجديد تتفق معهم. فهل هذا صحيح؟


ستيفن واينبرغ: أعتقد أن الفلسفة الأكاديمية مفيدة فقط بالمعنى السلبي -أي أن علماء الفيزياء يعجبون أحياناً بالأفكار الفلسفية، ولذا فإنه من المفيد أن نسمع من الخبراء، أن تلك الأفكار كانت عرضة للتحدي داخل المجتمع الفلسفي. أحد الأمثلة هو "المدرسة الوضعية" (positivism)، التي تقول بشكل قاطع بأن عليك أن تتحدث فقط عن الأشياء التي يمكن رصدها أو مشاهدتها مباشرة. أعتقد أن الفلاسفة أنفسهم قد اعترضوا على ذلك، ومن الجيد أن نعرف ذلك.

من ناحية أخرى، هناك نوع من النقاش الفلسفي يدور بين علماء الفيزياء أنفسهم. على سبيل المثال، أثارت المناقشة التي أجريناها سابقاً عن الكون المتعدد قضية ما الذي نتوقعه من نظرية علمية ما -متى نرفضها بوصفها خارج إطار العلم، ومتى نقبلها بوصفها مثبتة. هذه أسئلة "ميتا-علمية" (فوق علمية) (Meta-science). إنها أسئلة فلسفية. ويبدو أن العلماء لا يتوصلون إلى اتفاق بشأن هذه الأمور -كما هي الحال مع الكون المتعدد- ولكن، حتى الفلاسفة المختصون لا يتفقون بشأنها أيضاً.

أحياناً، كما هو الحال مع مثال المدرسة الوضعية، يقف عمل الفلاسفة المختصين عقبة في طريق التقدم. وهكذا هو الحال، أيضاً، مع النهج الذي يعرف باسم "البنائية" (constructivism)- وهي الفكرة التي تقول بأن النظريات العلمية لكل مجتمع هي بناء اجتماعي، مثلها مثل مؤسساته السياسية، ويجب أن تُفهم على أنها نتاج بيئة ثقافية محددة. ولا أدري ما إذا كنت ستسميها نظرية فلسفية أو نظرية تاريخية، ولكن، على أي حال، أنا أعتقد أن هذا الرأي خاطئ.

 

كما إني أرى أيضاً أنه قد يعرقل عمل العلم، لأنه يصادر واحداً من أعظم دوافع العلم، وهو اكتشاف شيء ما، بالمعنى المطلق، مفارق لأي بيئة ثقافية، وحقيقي بالفعل.

مجلة كوانتا: لقد بلغت إحدى وثمانين سنة من العمر. كثير من الناس كانوا ليفكروا بالتقاعد، ولكنك نشط جداً. ما الذي تعمل عليه الآن؟


ستيفن واينبيرغ: كنت أعمل على شيء منذ ما يزيد عن سنة -ربما كان مجرد هوس رجل عجوز، ولكني أحاول العثور على مقاربة لميكانيكا الكمّ معقولة أكثر من المقاربات الموجودة. ولقد انتهيت لتوي من تحرير الطبعة الثانية من كتابي، "محاضرات في ميكانيكا الكمّ"، والتي أعتقد أنني عززت فيها من حجتي عن أن ليس هناك أي تفسير مُرضٍ تماماً من التفسيرات الموجودة لميكانيكا الكمّ.

لا أنوي التقاعد، لأني أستمتع بالتدريس. أنا أستمتع بمتابعة الأبحاث، كما أستمتع بإجراء بحث صغير بمفردي. في العام ما قبل الماضي، قبل أن ألِج متعة ميكانيكا الكمّ هذه، كنت أكتب أوراقاً بحثية عن قضايا متواضعة في نظرية "الجسيمات الأولية" (elementary particle)، كما كنت أعمل على علم الكونيات. وأتمنى أن أعود إلى ذلك.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • إشعاع الخلفية الكونية الميكروي (cosmic microwave background): أو اختصاراً CMB، وهو الإشعاع الحراري الذي خلفه ورائه الانفجار العظيم، وهي موجودة في كل الاتجاهات بالكثافة نفسها، وتعادل درجة حرارة 2.725 درجة كلفن.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات