ترحيب رسمي بحقبة الأنثروبوسين

تاريخ الأرض ممثلاً بشكل حلزوني وصولاً إلى الوقت الحالي.

 

حقاً إنها لأخبار تحدد عصرنا حرفياً


كُلِّف فريق من الخبراء بمهمة الإجابة عن سؤال ما إذا كنا قد دخلنا رسمياً في حقبة الأنثروبوسين Anthropocene -وهي حقبة جيولوجية تتميز بالتأثيرات التي أحدثها البشر على الكوكب- وقد كان جوابهم: نعم، لقد فعلنا.


في مؤتمرٍ جيولوجي، صرحت المجموعة البحثية في عصر الأنثروبوسين والمسماة اختصاراً WGA بقيادةٍ بريطانيةٍ في كيب تاون عن رأيها المدروس الذي يقول أن حقبة الأنثروبوسين قد بدأت في عام 1950، حيث يُعتبر ذلك العام بداية عصر اختبارات القنابل النووية والمواد البلاستيكية غير القابلة لإعادة الاستخدام، بالإضافة للنمو السكاني الكبير.


أصبح عصر الأنثروبوسين مصطلحاً أكاديمياً طناناً بسرعةٍ كبيرة، كما أصبح مصطلحاً منتشراً بين العامة في السنوات الأخيرة. وعلى الرغم من ذلك، كلما زاد استخدام ذلك المصطلح، ساد الارتباك أكثر فأكثر، على الأقل بالنسبة للأشخاص غير الضليعين في التفاصيل العلمية التي يقوم عليها هذا المفهوم.


بشكلٍ عام، فإن مصطلح الأنثروبوسين يعني "عصر البشر". يقوم الجيولوجيون بتفحص طبقاتٍ من الصخور تُسمى بالطبقات الأرضية المطبقة strata، والتي تروي قصة التغيرات في سير العمليات التي تجري على سطح الأرض أو بالقرب منه، سواء كانت عمليات محيطية، بيولوجية، أرضية، نهرية، جوية، تكتونية أو كيميائية.


عندما يقوم الجيولوجيون بتعيين الحدود بين الطبقات الصخرية التي تبدو عالمية، تصبح هذه الحدود مرشحةً للاعتراف الرسمي من قبل اللجنة الدولية للطبقات ICS، وهي اللجنة التي تصدر الرسم البياني الدولي للتطبق الصخري الزمني International Chronostratigraphic Chart، الذي يحدد التغيرات المثبتة خلال 4.5 مليار عامٍ من تطور كوكب الأرض.

يتميز ذلك الرسم البياني بتسلسلٍ هرميٍّ لمصطلحات معينة مثل "النظام" و "الطور"، وبشكلٍ عام، تضاف اللاحقة “cene” للإشارة إلى فترة جيولوجية ممتدة عبر زمن قصير نسبياً، وهي أصغر فترة في التسلسل الهرمي.


لقد أمضينا حتى الآن 11500 عام تقريباً من حياتنا في حقبةٍ تُسمى عصر الهولوسين، وهي تلك الفترة الجليدية التي ازدهر فيها الإنسان العاقل Homo sapiens. وإذ كنا فعلاً قد انتقلنا من عصر الهولوسين إلى عصر الأنثروبوسين، فهذا يعود لسببٍ واحدٍ فقط، ألا وهو جنسنا البشري الذي أحدث تغييراً كبيراً في خصائص الغلاف المائي والجليدي والحيوي والصخري والجوي.

نهاية حقبة؟


إن قول ذلك ليس بالأمر الهيّن، حيث يتطلب تأكيد بداية عصر الأنثروبوسين التحقق منه في مجالاتٍ علميةٍ مختلفة، باستخدام أساليب ومعايير مختلفة من أجل تقييم الأدلة، وهذا ما يجري حالياً. بالرغم من إطاره الجيولوجي، فلم يُصَغ مصطلح الأنثروبوسين من قبل عالمٍ جيولوجي، بل من قبل عالمٍ في كيمياء الغلاف الجوي "بول كروتزن Paul Crutzen" الحاصل على جائزة نوبل، وذلك في عام 2000.


جمع كروتزن وزملاؤه العاملون في برنامج الغلاف الأرضي والجيولوجي العالمي أدلة كثيرة عن جميع التغيرات التي وقعت بدءاً من التغيرات في السلاسل الغذائية إلى درجة حموضة المحيطات وانتهاءً بمستويات التنوع الحيوي في جميع أنحاء كوكبنا، وعن طريق مقارنة هذه التغيرات مع تلك التي وقعت خلال حقبة الهولوسين، فقد توصلوا إلى أن البشر قد تركوا أثراً لا يُمحى على موطننا الوحيد. لقد قمنا بتعديل نظام كوكب الأرض بشكلٍ نوعي، بطرقٍ تشكك في احتمال نجاتنا خلال القرون القليلة المُقبلة.

يُطلق كروتزن ومجموعته على الفترة التي تلت عام 1950 اسم "التسارع العظيم Great Acceleration"، حين بدأت مجموعة من العوامل -بدءاً من أعداد السكان واستخدام البلاستيك غير القابل لإعادة الاستعمال وحتى الأسمدة النيتروجينية- بالتزايد بمعدلٍ سريعٍ جداً. لكن مؤشرهم الخاص بتحديد تلك الأمور والإشارة إليها على أنها تغيراتٌ كبيرة ليس له صلةٌ بالتطبق الجيولوجي، بل عوضاً عن ذلك تساءلوا ما إذا كانت الفترة الحالية مختلفة نوعياً عن الوضع خلال حقبة الهولوسين.


تأرجح الآراء 


في تلك الأثناء، كانت مجموعة صغيرة من علماء الجيولوجيا تتحقق من الأدلة في الصخور المطبقة على بدء حقبة الأنثروبوسين. قبل بضع سنوات، أسست لجنة فرعية من اللجنة الدولية للطبقات ICS مجموعة دراسة حقبة الأنثروبوسين WGA، والتي اقترحت الآن أن النشاطات البشرية قد تركت بالفعل علامةً دائمة في السجل الطبقي للصخور.


لكن المشكلة الرئيسية في هذه الطريقة، هي أنه لم يتم رصد أي مؤشرٍ على النشاطات البشرية في الصخور حتى الآن، فالبشر لم يتواجدوا على الأرض لفترةٍ طويلةٍ بما فيه الكفاية لإحداث أي تأثيراتٍ على امتداد الكوكب بحيث يمكن رصدها في السجل الجيولوجي للأرض، وهذا يعني أن أي دليلٍ على الحدود الفاصلة بين حقبتي الهولوسين والأنثروبوسين سيكون موجوداً بالضرورة في وسطٍ أقل دواماً مثل الصفائح الجليدية والطبقات الترابية أو الرسوبيات المحيطية.


لطالما أخذت اللجنة الدولية للطبقات أدلة الحدود الفاصلة الخاصة بالزمن القديم بعين الاعتبار، عادةً تلك المُتعلقة بالزمن القديم جداً. وبالتالي، تعمل مجموعة WGA خلافاً للاتفاقية عن طريق البحث عن علاماتٍ حاليةٍ في الطبقات الصخرية يمكن أن تُبين تأثير البشر على كوكب الأرض. وبهذه الحالة، لن يتمكن علماء الجيولوجيا المستقبليون -في حال تواجدوا- من تأكيد أهمية تلك العلامات من الناحية الجيولوجية إلا بعد مضي ألف عام.


وفي أثناء ذلك، يجب أن تكون المجموعة راضية بتحديد سنواتٍ تقويميةٍ معينةٍ عندما يتم التأكد من وجود أدلةٍ على التأثيرات الكبيرة للبشر. على سبيل المثال، عملية تفجير ترينيتي النووية في نيوميكسيكو عام 1945، حيث تركت هذه الاختبارات -بالإضافة لاختبارات نووية لاحقة- آثاراً عالميةً من النشاط الإشعاعي والتي يمكن تعقبها حتى بعد 10000 عامٍ من الآن.


بدلاً من ذلك، اقترح عالما الجغرافيا سيمون لويس Simon Lewis ومارك ماسلين Mark Maslin أن عام 1610 يمكن أن يكون مرشحاً أفضل للفترة التي بدأ البشر فيها بإحداث تغييراتٍ حاسمة، حيث انخفضت نسبة ثاني أكسيد الكربون في ذلك العام بشكلٍ ملحوظ، مما يشير إلى بصمةٍ بشريةٍ تتعلق بتأثير مستعمري العالم الجديد على زراعة سكان أمريكا الأصليين، على الرغم من وجود اعتراضٍ على هذه الفكرة.

 حان وقت الحسم


تقترح حقيقة اختيار فريق WGA لتاريخ أكثر حداثةً، ألا وهو عام 1950، أنهم يتفقون مع فكرة تعريف التسارع العظيم للنصف الثاني من القرن العشرين على أنه النقطة التي دخلنا منها إلى عصر الأنثروبوسين.


هذا ليس بقرارٍ سهل، حيث يملأ الشك اللجنة الدولية للطبقات عندما يتعلق الأمر بتعديل الرسم البياني الدولي للتطبق الصخري الزمني، إذ سيواجه اقتراح فريق WGA تقييماً صارماً قبل أن يُقبل علمياً من قبل اللجنة، وقد يتطلب الأمر عدة سنوات قبل أن يتم الاعتراف به رسمياً.


بعيداً عن كل ذلك، يزداد استخدام المصطلح أكثر فأكثر بشكلٍ واسعٍ كوصفٍ لعلاقة البشر بالكوكب، بشكلٍ مشابهٍ للعصر الحديدي أو عصر النهضة، حيث تصف هذه المصطلحات تغيراتٍ حقيقية في التاريخ وتتمتع باستخدامٍ واسعٍ في الأوساط الأكاديمية وخارجها، دون الحاجة إلى "علامات حدودية" صارمة لفصلها عن الفترات السابقة.


ولكن هل يهم أي شيءٍ من هذا حقاً؟ هل يجب علينا أن نكترث بأن لجنة التحكيم لم تتخذ قرارها بعد فيما يخص المرحلة الجيولوجية، بينما يثق العلماء الآخرين بأن البشر يغيرون فعلاً بكامل النظم الأرضي؟


يقترح عالم الجيولوجيا جيمس سورس James Scourse أثناء كتابته عن النقاش والجدل الحاصل، بأنه لا يجب علينا ذلك، حيث يشعر بأن الجدال الجيولوجي هو أمر "مصطنع" وأن تأثير البشر على الأرض مُعترف به بما فيه الكفاية لدرجةٍ لا نحتاج فيها إلى مصطلحٍ جديدٍ لوصفه.


لا يتفق الكثير من العلماء مع هذا الأمر بشكل واضح، حيث يمكن القول بأن السبب الرئيسي لذلك هو فشل جميع المجتمعات في العالم فعلياً في الاعتراف بمدى ضخامة تأثير البشر على الأرض، ففي العام الماضي فقط، قمنا بالتّوصل أخيراً إلى معاهدة عالمية فعلية لمواجهة التغير المناخي.

 

 في ضوء ذلك، يسمح مصطلح الأنثروبوسين للعلماء بجمع تأثيرات البشر ذات النطاق الواسع تحت إطار فكري تصوري واحد، وبالتالي، فإن مكانته العلمية تهم كثيراً إذا تنبه البشر عبر العالم أخيراً لتأثيرات أفعالهم الجماعية على البيئة من حولهم.

كسب الزخم


على الأرجح، سيتم التحقق من المصداقية العلمية لاقتراح الأنثربوسين كلما زاد استخدامه من قبل العلماء بشكل غير رسمي أو بأي شكل آخر، حيث أصبح التاريخ الحديث لعلم المناخ في المجال العام أمراً تثقيفياً.


وعلى غرار مفهوم الاحتباس الحراري، يُعتبر الأنثروبوسين مفهوماً استفزازياً بشكل أكبر بالنسبة للكثيرين، لأنه يشير إلى أن أسلوب حياتنا الحالي، خصوصاً في الأنحاء الثرية من عالمنا، غير مستدامٍ أبداً، فالشركات الصناعية الضخمة المستفيدة من النهب البيئي -كشركات النفط متعددة الجنسيات، والشركات الكيميائية، وشركات صناعة السيارات بالإضافة إلى عددٍ لا يُحصى من الشركات الأخرى- سوف تتكبد الكثير من الخسائر في حال أصبح المصطلح مقترناً بأجندات سياسية مكرسة لأهداف مثل تراجع النمو وتخفيض مستويات الانبعاثات الكربونية.

 

عندما أُخذت الهجمات المنظمة على علم المناخ بعين الاعتبار في الولايات المتحدة وفي أماكن أخرى، فمن المرجح أنه سيتم تحدي علم الأنثروبوسين بناءً على أسس علمية ظاهرية من قبل علماء غير الذين لا يُعجبهم مضمونه، المحزن أن تلك التعديات ستنجح على الأغلب.


في علم الجيولوجيا، فإن التصريح غير التقليدي للجمعية البحثية في عصر الأنثروبوسين يترك المجال مفتوحاً للاعتراض على أي تعريف للجنة الدولية للطبقات، وفي حال قبول إعلان المجموعة البحثية للأنثروبوسين، فهذا يعني أيضاً أن كل الأدلة على عصر الهولوسين سيتوجب اعتبارها من الماضي على الرغم من وجود الدليل على أن التحول إلى عالم بشري الشكل لم يكتمل بعد في بعض الأماكن.


ما زال بعض معارضي التغير المناخي يرفضون تقبل حقيقة أن الباحثين قادرون حقاً على تمييز تأثير البشر على المناخ العالمي، وبشكل مشابه وبدون شك، سوف يواجه العلماء الذين يتناولون مفهوم الأنثروبوسين الأسئلة المُتعلقة بكون هذه التغيرات التي تصيب كوكبنا هي حقاً خارج نطاق التقلبات الطبيعية.


في حال اكتسب المشككون بالأنثروبوسين نفس الزخم الذي تمتع به منكرو التغير المناخي، فسوف يزرعون بذور الارتباك فيما يجب أن يكون نقاشاً عاماً راشداً عن كيفية تغير علاقتنا مع كوكب الأرض، ولكننا نستطيع تفادي هذا الارتباك عن طريق الاعتراف بأننا لا نحتاج إلى مصادقة اللجنة الدولية للطبقات حتى نعترف أننا بالفعل نودع الأرض كما عرفناها عبر تاريخ الحضارة الإنسانية.


يمكن لنا أيضاً أن نعترف أن علم النظام الأرضي ليس دقيقاً كعلم الفيزياء النووية أو الهندسة، وهذا النقص في الدقة لا يعني أن الأنثروبوسين هو محض تكهن علمي، بل يعني أن العلم يعرف ما فيه الكفاية لتحذيرنا، دون معرفة كافة التفاصيل عن حالة الطوارئ قيد الحدوث.


يستحق مصطلح الأنثروبوسين أن يصبح جزءاً من معجمنا الخاص كطريقة نتعرف فيها على أنفسنا وعلى أفعالنا، وعن ماهية المسؤوليات التي تقع على عاتقنا كجنس بشري، طالما نبقي في أذهاننا حقيقة عدم تساوي جميع الأشخاص في الإسهام في تخريب كوكبنا، حيث يعتبر الكثير منا ضحايا ذلك.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات