الحياة الغريبة الأخرى لنظرية الأوتار

فشلت نظرية الأوتار حتى الآن بإتمام وعدها بأن تكون طريقة لتوحيد ميكانيكا الكم والجاذبية. ومن جهة أخرى، ازدهرت في مجموعة من أكثر أدوات العلوم نفعاً.

اختالت نظرية الأوتار على الساحة منذ ما يقارب الثلاثين عاماً على أنها الكمال ذاته، وكواعدة على الحصول على الحل البسيط الأنيق الذي تقوم بحل المشاكل المعقدة في الفيزياء الأساسية، بما في ذلك عدم الترابط المستعصي والمعروف بين تشوه زمكان أينشتاين الضعيف وجزئيات الأشياء الكمومية المتزعزعة أصلاً والتي تشتمل على كل شيء داخله.

وعلى حد عبارة مايكل فارادي، إنها أروع بكثير من ألا تكون صحيحة: فببساطة تستبدل الجسيمات المتناهية في الصغر بحلقات من الأوتار المهتزة (ولكن المحدودة). ستناشد الاهتزازات الكواركات والإلكترونات والغلونات والفوتونات إضافة إلى مجموعاتها الممتدة، لتنتج بتناغم كل المقومات المطلوبة لتركيب عالم معرفته ممكنة.

 

ويعد تجنب اللانهائية في الصغر تجنباً لمجموعة متنوعة من الكوارث. أحدها أن الارتياب الكوانتي لم يستطع تمزيق الزمكان إلى أشلاء. إذ بدا في النهاية على أن لدينا هنا نظرية فعالة في الجاذبية الكمومية. وما يفوق الكلمات السردية السابقة جمالاً هو أناقة الرياضيات الكامنة خلفها، التي كان لها القدرة على إذهال بعض الفيزيائيين.

ومن المؤكد أن النظرية جاءت بآثار مقلقة. فالأوتار كانت صغيرة جداً لكي يتحقق منها بالتجارب وتستقر في أبعاد تصل إلى 11 بعداً في الفضاء. هذه الأبعاد انطوت على نفسها -أو اندمجت في أشكال أوريغامية (مطوية) معقدة. ولم يعلم أحد كيفية اندماج هذه الأبعاد، إذ تبدو احتمالات فعل ذلك غير منتهية- إلا أنه من المؤكد أن بعض التكوينات ستكون كالمتوقع وستفعل ماهو مطلوب تماماً لإنتاج قوى وجسيمات مألوفة.

اعتقد الفيزيائيون لزمن طويل بأن طرقاً فريدة ستتمخض عن نظرية الأوتار تؤدي إلى توحيد ميكانيكا الكم والجاذبية. ويقول ديفيد غروس David Gross وهو اللاعب الأساسي فيما يسمى بأوتار برينستون كوارتيت Princeton String Quartet والفائز بجائزة نوبل والعضو الدائم في معهد كافلي للفيزياء النظرية في جامعة كاليفورنيا في سانتا باربارا Kavli Institute for Theoretical Physics: "كان هناك أملاً، للحظة، وقد اعتقدنا لبرهة في منتصف الثمانينيات بأنها كانت نظرية فريدة من نوعها".

بعدئذ بدأ الفيزيائيون بإدراك أن الحلم بنظرية وحيدة كان وهماً. ويكمن التعقيد في نظرية الأوتار، بأن جميع التبديلات الممكنة، ترفض تخفيضها إلى واحدة مفردة تصف عالمنا. ويقول غروس: "بعد نقطة معينة في أوائل التسعينيات، استسلم الناس من محاولة الإسقاط على العالم الواقعي، فقد شهدت السنوات العشرون الأخيرة توسعاً عظيماً في الأدوات النظرية، إلا أن التقدم في فهم ما يدور هناك فعلاً كان ضئيلاً جداً".


وأدرك العديد مع مرور الوقت بأنهم قد رفعوا السقف كثيراً. بسبب تمكنهم من إكمال النموذج القياسي الصلب والفعال لفيزياء الجسيمات في السبعينيات، فقد كانوا يأملون إعادة القصة -هذه المرة على الماموث فقط، في كل المقاييس المحتملة. ويقول روبرت يجكراف Dijkgraaf Robbert مدير معهد الدراسات المتقدمة في برينستون في نيوجيرسي: "لقد كنا نحاول الوصول إلى نجاحات الماضي حيث كانت لدينا معادلة بسيطة تمثل كل شيء، إلا أن ما لدينا الآن هو هذه الفوضى الكبيرة".

وككثير من الجمال الناضج، حصلت نظرية الأوتار على وفرة في العلاقات، والتعقيدات، والصعوبة في التعامل، والتأثير الكبير. ووصلت مخالبها إلى مناطق عميقة جداً في الفيزياء النظرية، لقد أصبحت عصية على التمييز حتى بالنسبة للفيزيائيين أنفسهم. ويضيف جيكراف، الرسام بالإضافة إلى كونه رياضي فيزيائي:" فاقت الأمور الحداثة تقريباً".

(ديفيد كروس، الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل، في معهد كافلي للفيزياء النظرية، وكان قد جادل علناً بأن الفيزياء الأساسية تواجه أزمة). ملكية الصورة: لويفيفيا فانكون من مجلة كوانتا.
(ديفيد كروس، الفيزيائي الفائز بجائزة نوبل، في معهد كافلي للفيزياء النظرية، وكان قد جادل علناً بأن الفيزياء الأساسية تواجه أزمة). ملكية الصورة: لويفيفيا فانكون من مجلة كوانتا.


وُضعت الرياضيات الناتجة عن نظرية الأوتار في مجالات كعلم الكونيات cosmology، وفيزياء المواد المكثفة condensed matter physics ودراسة المواد وخصائصها. لقد أصبحت في كل مكان ويقول جيكراف: "إذ إنك حتى لو قمت بإغلاق كل مجموعات نظرية الأوتار سيقوم الأشخاص العاملون في فيزياء المواد المكثفة، وفي علم الكونيات، وفي الجاذبية الكمية بإعادتها للعمل". 
 
ويقول دوغلاس ستانفورد Douglas Stanford، الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة IAS: "من الصعب فعلياً معرفة متى ينبغي وضع الحدود والقول: إن تلك نظرية أوتار، وإن تلك لا"، ويضيف كريس بيم Chris Beem، الفيزيائي الرياضي في جامعة أكسفورد: "ولا يعلم أي كان فيما إذا كان يمكنه القول بأنه فيزيائي أوتار بعد الآن، لقد أصبح ذلك مشوشاً جداً".

تبدو نظرية الأوتار اليوم هزلية تقريباً. فكلما اقترب أحدهم من زاوية واستكشفها أكثر، عثر على المزيد من البنية الهيكلية. وبحث البعض عميقاً في صدوع معينة، في حين ابتعد آخرون ليشكلوا نظرة عن أنماط أكبر. والنتيجة أن نظرية الأوتار حالياً تتضمن عدة أشياء لا تبدو كأوتار. فحلقات الأوتار هذه التي كان يعتقد بأنها تصدح عبر كل جسيم وقوة معروفة بالنسبة للطبيعة (بما في ذلك الجاذبية الساحرة) أصبحت تظهر بصعوبة فيما بعد على لوحات المؤتمرات.

 

ففي الاجتماع السنوي لنظرية الأوتار الأخير، إذ تقول الباحثة النظرية إيفا سيلفرشتاين Eva Silverstein من جامعة ستانفورد بأنها استمتعت إذ وجدت بأنها أحد القلائل الذين يدلون بحديث حول نظرية الأوتار الصحيحة. وقد قضت الوقت الكثير وهي تعد أسئلة متعلقة بعلم الكونيات.


وعلى الرغم من اعتماد أدوات نظرية الأوتار الرياضية في العلوم الفيزيائية، فقد كان يدور جدال بين الفيزيائيين حول كيفية التعاطي مع توتر نظرية الأوتار المركزي: هل يمكنها حتماً إتمام وعودها الأولية؟ هل يمكنها إعطاء الباحثين رؤية حول كيفية التوفيق بين ميكانيكا الكم و ميكانيكا الجاذبية- في كوننا الفعلي وليس في لعبة عن الكون؟


ويقول خوان مالداسينا Juan Maldacena الفيزيائي الرياضي في معهد الدراسات المتقدمة وربما الشخصية الأبرز في هذا المجال اليوم: "تكمن المشكلة في وجود نظرية الأوتار في مشهد الفيزياء النظرية، ولكننا لا نعلم حتى الآن كيفية ارتباطها بالطبيعة كنظرية في الجاذبية"، ويعترف مالاداسينا اليوم باتساع نظرية الأوتار وأهميتها بالنسبة لمجالات عديدة في الفيزياء -حتى بالنسبة لتلك التي لا تتطلب وجود "أوتار" كلبنة أساسية في الكون- حين عرف نظرية الأوتار بأنها "بحث نظري صلب في البنى الهندسية الطبيعية".

انفجارات للمجالات الكمومية


أتت إحدى النقاط العالية لنظرية الأوتار كنظرية موحدة في أواخر التسعينيات، حين اكتشف مالداسينا أن نظرية الأوتار التي تتضمن الجاذبية في خمسة أبعاد مكافئة لنظرية المجال الكمومي في أربعة أبعاد.


ويظهر توافق ADS/CFT بأنه يعطي خريطة للتعاطي مع الجاذبية -وهي الجزء الأكثر عناداً في اللغز- وذلك من خلال ربطها بنظرية قديمة مفهومة جيداً في المجال الكمومي. لم يعتقد أبداً أن هذا التطابق هو نموذج مثالي عن العالم الحقيقي. يمتلك هذا الفضاء خماسي الأبعاد الذي تعمل فيه النظرية هندسةً مغايرة لنظرية دي سيتر (لابعدي anti-de Sitter geometry) وهي مشهد غريب يشبه نظرية إيشر M.C. Escher مغايرة تماماً لكوننا.

إيفا سيلفرشتاين، الأستاذة في الفيزياء في جامعة ستانفورد، تطبق نظرية الأوتار على علم الكونيات. ملكية الصورة: SLAC National Accelerator Laboratory, Archives and History Office.
إيفا سيلفرشتاين، الأستاذة في الفيزياء في جامعة ستانفورد، تطبق نظرية الأوتار على علم الكونيات. ملكية الصورة: SLAC National Accelerator Laboratory, Archives and History Office.

إلا أن الباحثين دُهشوا حين سبروا بعمق الجوانب الأخرى من هذا التوافق. اعتقد معظم الناس بأن نظريات المجال الكمومي -"فيزياء الخبز والجبنة" كم يدعوها جيكراف- كانت مفهومة جيداً على مدى نصف قرن. ويضيف جيكراف: "كما اتضح فيما بعد، فقد فهمنا هذه النظريات بطريقة محدودة جداً".

 طورت نظريات المجال الكمومي تلك في الخمسينيات لتوحيد نظرية النسبية الخاصة وميكانيك الكم. لقد كانت مجدية لمدة طويلة حيث لم يعد مهماً أنها تحطمت عند مقاييس صغيرة جداً وعند الطاقات المرتفعة. ولكن اليوم، حين يعود الفيزيائيون كما يقول نعما أركاني-حامد، Nima Arkani-Hamed، الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة: "حين تعرج على الأجزاء التي اعتقدت أنها مفهومة على مدى 60 عاماً، فإنك تجد تراكيباً ساحرة، تأتي كمفاجأة كاملة، إذ ينكشف في كل جزء من فكرة أننا فهمنا نظرية المجال الكمومي على أنها كانت خاطئة، إنها متوحشة أكثر بكثير من توقعاتنا".

لقد طور الباحثون عدداً كبيراً من نظريات المجال الكمومي في العقود الماضية وما يليها، استخدمت كل منها في دراسة أنظمة فيزيائية مختلفة. ويشكك بيم بوجود نظريات في المجال الكمومي لا يمكن وصفها حتى بعبارات المجالات الكمومية. ويضيف: "لدينا آراء يمكن أن تبدو مجنونة ويعود السبب الأكبر في ذلك إلى نظرية الأوتار".

 ويذكّر الانفجار الظاهري في نظريات المجال الكمومي الجديدة بشكل مخيف بفيزياء الثلاثينات، حين قاد الظهور غير المتوقع لنوع جديد من الجسيمات -الميون muon- الباحث آي. رابي I.I. Rabi المحبط إلى التساؤل: "من أمر بذلك؟" وكان طوفان الجسيمات الجديدة ساحق جداً في الخمسينيات، الأمر الذي دعا إنريكو فيرمي Enrico Fermi إلى التذمر قائلاً: "إذا استطعت تذكر أسماء كل هذه الجسيمات، سأغدو نباتياً".

وبدأ الفيزيائيون بشق طريقهم عبر زحام الجسيمات الجديدة فقط حين عثروا على المزيد من اللبنات الأساسية التي تنشئ هذه الجسيمات، كالكواركات  (quarks) والغلونات (gluons). ويحاول العديد من الفيزيائيين الآن فعل الأمر نفسه مع نظرية المجالات الكمومية. وفي محاولاتهم لاستكشاف هذه الحديقة الكثيفة، تعلم العديد منهم كل ما بإمكانهم معرفته عن بعض الأنواع الغريبة.

يقول سيمون دافن David Simmons-Duffin، الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة: "كانت نظريات الحقل الامتثالي Conformal field theories (اليد اليمنى في توافق ADS/CFT) نقطة بداية. إذ يمكنك البدء بنموذج مبسط من نظرية المجال الكمي والتي تسلك السلوك ذاته عند الأبعاد الصغيرة والكبيرة، فإذا كان من الممكن فهم هذه الأنواع الخاصة من نظريات الحقل بشكل مثالي، حينها يمكن لأسئلة عميقة أن تصبح إجاباتها معروفة. فالفكرة بأنك إذا تمكنت من فهم أقدام الفيل جيداً، جيداً جداً، فيمكنك إقحام نفسك بينهما لتكتشف كل الأشياء المشابهة لهما".

جون مالداسينا، الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة، طور ما قد أصبح أحد أعظم نجاحات نظرية الأوتار. ملكية الصورة: Andrea Kane.
جون مالداسينا، الفيزيائي في معهد الدراسات المتقدمة، طور ما قد أصبح أحد أعظم نجاحات نظرية الأوتار. ملكية الصورة: Andrea Kane.

وكالعديد من زملائه، يقول سايمون-دوفن بأنه نظري أوتار بالمعنى الذي أصبحت فيه غطاء لأي ممارس في الزوايا غير المتطورة للفيزياء النظرية. فهو يركز الآن على منظومة فيزيائية موصوفة بنظرية المجال الامتثالي ولكن بدون أي علاقة مع الأوتار. وعملياً المنظومة هي الماء عند نقطته الحرجة، حيث يختفي الفارق بين الغاز والسائل. وهذا مثير للاهتمام، لأن سلوك الماء عند النقطة الحرجة هو سلوك نظام معقد ناشئ عن أمر أكثر بساطة. وكالعديد من الأنظمة، يمكنه التلميح إلى الحركية الكامنة وراء ظهور نظريات المجال الكمومي.

ويركز بيم على نظريات المجال الفائق، نموذج ألعاب آخر، كما يدعو الفيزيائيون تلك البساطة المتعمّدة. فيقول: "نضع بعض التفاصيل غير الواقعية لنجعل التعامل معها أسهل، وبخاصة، أنها تنقاد إلى الرياضيات الطيّعة، والتي تجعل منها أمراً قابلاً للحساب كالعديد من الأشياء".

نماذج الألعاب هي أدوات قياسية في معظم أنواع البحث. ولكن يبقى هنالك الخوف من أن ما يتعلمه المرء من السيناريوهات المبسطة لا يطبق على العالم الحقيقي. ويضيف بيم: "يشبه ذلك التعامل مع الشيطان، فنظرية الأوتار هي مجموعة من الأفكار المشيدة بدقة أقل من نظرية المجال الكمومي، لذا عليك أن تكون راغباً بالتساهل قليلاً في مقاييسك، ولكنك تحصل على مقابل لذلك. إذ تحصل على سياق أجمل وأكبر يمكنك العمل فيه".

إن هذا هو النوع من العمل الذي يجعل البعض كشين كارول Sean Carroll، الفيزيائي النظري في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا California Institute of Technology، يتساءلون فيما إذا كان هذا المجال قد تاه بعيداً جداً عن طموحاته الأولى في إيجاد نظريةٍ في الجاذبية الكمومية على الأقل إن لم يكن "نظرية لكل شيء" ويقول: "إن الإجابة عن الأسئلة العميقة حول الجاذبية الكمومية أمر لم يحدث فعلياً، إذ كانوا كمن كانت لديه كل تلك المعوقات ومضى ليبحث عن رؤوس الأقلام"، ويعترف أن هذا أمر جيد، حتى لو اعترفنا بحاجتنا المحتملة لعدة أجيال لتطوير نظرية جديدة في الجاذبية الكمومية. ويضيف: "إلا أنه لن يكون من الجيد نسيان أن الهدف الأصلي هو تفسير العالم الحقيقي في النهاية."

وكان السؤال الذي طرحه على أصدقائه. لماذا يبحثون عن نظريات مفصلة في المجال الكمومي؟ "ما هو الايحاء؟" ويضيف بأن إجاباتهم كانت منطقية، ولكن حُذفت خطوات من تطوير تفسير حقيقي للعالم.

وبدلاً من ذلك، فهو يبحث عن طريقة للعثور على الجاذبية داخل ميكانيكا الكم. و يدعي في ورقة كتبها مؤخراً باتخاذه خطوات نحو ذلك. ولا تتضمن نظرية الأوتار.

 

في المقال القادم نكمل الحديث حول غرابة النظرية.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات