نموذج جديد قد يجيب على خمسة أسئلة فيزيائية عصيّة الحل

 محاكاة لبوزون هيغز.


حقوق الصورة: CERN


ابتكر الباحثون نموذجاً جديداً يقولون بأنّه سيحل خمسة أسئلة مازالت بلا إجابة في الفيزياء الحديثة. يفسر هذا النموذج غرابةَ المادة المظلمة (Dark Matter‏)‏، وتذبذبات النيوترينو، ونشأة الباريونات (Baryogenesis‏)‏، والتضخم الكوني (Cosmic Infaltion‏)‏، ومشكلة تكافؤ الشحنة القوية (CP‏)، كلّها معاً!

يفترض النموذج الجديد المسمى "اسماش" (SMASH‏)‏ بأننا بحاجة إلى ستة جسيمات جديدة فقط لجَسر كل تلك الثغرات في النموذج القياسي للفيزياء، ويقول الفريق الذي يتبنى النموذج بأنّ اختباره لن يكون صعباً.

طوّرَ هذا النموذج فريقٌ من الفيزيائيين الفرنسيين والألمان، ويقولون بأنه لا يتطلب تعديلات أساسية في النموذج القياسي إنما بضعةَ إضافات جديدة فقط. وبرغم أنّ هذا النموذج لم يمض عليه سوى أيام لكنه طرحٌ رائع جداً، لأنّ النماذج الأخرى المصممة لتفسير خفايا ميكانيكا الكم -كالتناظر الفائق (Supersymmetry‏)‏- تتطلب إضافة مئات الجسيمات الجديدة التي لم نرى لها أثراً قط.


أمّا اسماش فيتطلب ستة جسيمات فقط، وهي ثلاثة نيوترينات، وفيرميون واحد، ومجالاً يضم جسيمين (المجال في الفيزياء كائنٌ فيزيائي أو رياضي له قيمة في كل نقطة زمانية و مكانية، والجسيم في المجال في حالته المثارة Excited State‏).

سنعطيكم فكرة عن ماهية هذه المشكلات الخمس الأساسية، والبداية مع المادة المظلمة (Dark Matter‏)‏


  1.  المادة المظلمة
    يوجد الآن دليلٌ دامغ على أنّ 26-27% من الكون مكون من نمط غير محدد من المادة، وبينما يمكننا رصد قوة الجاذبية لهذه المادة غير المعروفة، فلا يبدو بأنها تصدر أيّ ضوء أو إشعاع يمكننا رصده. ورغم سنوات من البحث فما زلنا لا نملك أية فكرة عما تتكون منه المادة المظلمة فعلياً، لكننا نعلم حقا أنّ وجودها أساسي لاستقرار الكون.

     
  2.  تذبذب النيوترينو
    مُنحت جائزة نوبل في الفيزياء العام الفائت (2015) لفيزيائيين أثبتا أنّ النيوترونات يمكنها أن تتذبذب بين عدة "نكهات" (أي تغير نوعها)، وتذبذب النيوترينو هو ظاهرة في ميكانيكا الكم يمكن فيها للنيوترينو الناشئ "بنكهة" ليبتون معينة (كإلكترون أو ميون أو تاو) أن يكون له عدة "نكهات" لاحقاً.

    ولأنّ الجسيمات التي تمتلك كتلة هي فقط التي يمكنها تغيير "نكهاتها" -أو أن تتذبذب- فيجب أن تمتلك النيوترونات كتلة، ويسبب هذا الأمر مشكلة في النموذج القياسي، فلا أحد يعلم من أين أتت كتلة النيوترينو حقيقةً، قد تكون أتت من بوزون هيغز (Higgs boson)، ولكنها يمكن أن تكون أيضاً قد أتت من جسيم مختلف بالكامل مازال علينا اكتشافه!
     
  3.  نشأة الباريونات
    يمكن تلخيص هذه المعضلة الأساسية عصية الحل في الفيزياء ببساطة شديدة كالتالي: لماذا يملك الكون المرصود مادةً أكثر من المادة المضادة؟ 

    فوفقاً للنموذج القياسي فإنّ الانفجار العظيم قد ولّد مقاديرَ متساوية من المادة والمادة المضادة، ولأنها تُفني بعضها البعض عند تماسّها، فقد كان من المفروض أن يقود هذا إلى كون خال من الجسيمات ويحوي إشعاعاً فقط.

    ومن الواضح أنّ حقيقة وجود كمية وافرة من الجسيمات في الكون يعني وجود خطب ما في هذا السيناريو، فكيف يمكن أن يوجد هذا القدر الكبير من المادة، ويكاد لا يوجد مادة مضادة تقريباً؟!

     
  4. التضخم الكوني
     يُعتقد أنّ الكون قد مر بفترة من التمدد المتسارع -يدعى التضخم Inflation- في جزء من الثانية التي تلت الانفجار العظيم. وبينما يَقبل معظم الفيزيائيين حقيقة التضخم الكوني، إلا أنّه لم  يتمكن أيّ منهم من اكتشاف الآلية الدقيقة المسؤولة عن جعل الكون يتمدد بسرعة أكبر من سرعة الضوء، بدءاً من حجوم الجسيمات على المستوى دون الذري إلى حجم كرة الغولف، بشكل آني تقريباً.

     وقد اقتُرح حقلٌ افتراضي كمسبب رئيسي للتضخم يدعى الإنفلاتون Inflaton، ولكننا حتى الآن في صدد رصده.

     
  5. مشكلة تكافؤ الشحنة القوية
    وتوصف بأنها "خللٌ خطير في النموذج القياسي"، تساعد هذه المشكلة في تفسير سبب وجود الكثير من المادة أكثر من المادة المضادة في الكون، لكنها تجلب معها أحجياتها العصية عن الإجابة أيضا.

    وهذه المشكلة لها قصتها الطويلة الخاصة، لكنها باختصار تصف كيف أنّ انتهاك تكافؤ الشحنة (CP
    violation‏)‏ -وهو انتهاك للتناظر الأساسي للكون- لا يحدث في الكروموديناميكا الكمومية (Quantum Chromodynamics‏)‏ اختصاراً QCD‏‏، التي ترتبط بتفاعلات الكواركات (Quarks‏)‏ والغلونات (Gluons‏)‏، ولم يتمكن أحد من اكتشاف السبب.

    وهذا حتى الآن فقط، ربما إن اتضح أنّ النموذج الجديد صحيح.


                
الحـل؟


بُني نموذج اسماش بناءً على نموذجٍ آخر افترضه الفيزيائي ميخائيل شابوشنيكوف Mikhail Shaposhnikov من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في لوزان في زيورخ، يعود لعام 2005 ويدعى نموذج النيوترينو القياسي الأصغر (νMSM)، وبالعودة إلى ذلك الوقت، فقد اقتُرح أنّ توسيع النموذج القياسي بثلاثة من النيوترونات يمينية التدوير وذات كتل محددة، يمكنها بشكل تلقائي أن تفسر لاتناظر المادة المظلمة (اللاباريونية) والباريون في الكون، بينما تتسق أيضا مع التجارب على تذبذب النيوترينو. 

والآن، يقول الفريق الذي يقوده الفيزيائي الفرنسي غويليرمو باليستيروس ‏Guillermo Ballesterous‏ من جامعة باريس ساكلاي Paris-Saclay‏‏ بأننا نستطيع إضافة هذه النيوترونات الثلاثة يمينية التدوير إلى النيوترونات الثلاثة الموجودة في النموذج القياسي، إضافة لجسيم دون ذري يدعى فيرميون ثلاثي اللون، لحل المشكلات الأربعة الأولى المذكورة في الأعلى.

ويبدو أنّ إضافة مجال جديد وغير محدد يتولى الإجابة على المشكلة الخامسة كما يشرح شانون هول Shannon Hall‏ لموقع New Scientist‏ قائلاً: "يضيف اسماش مجالاً جديداً لتفسير بعض هذه المشكلات بشكل مختلف قليلاً، ويضم هذا المجال جسيمين هما: الأكسيون (Axion‏)‏ الجسيم المجهول المرشح أن يكون جسيم المادة المظلمة، والإنفلاتون (Inflaton‏)‏ الجسيم المسؤول عن التضخم الكوني، وكإضافة أخيرة يستعمل اسماش المجال ليقدم حلاً للأحجية الخامسة، أي مشكلة تكافؤ الشحنة القوية CP‏".

يقول الفريق بأنّ حقيقة إمكانية اختبار فرضيتهم باستخدام الجيل القادم من مسرعات الجسيمات تعني بأنّ احتمالها قائم، وهذا ما يجعلها أكثر إقناعاً من الحلول الأخرى لهذه المشكلة والتي طرحت في الماضي.


يتحدث أندرياس رينغوالد Andreas Ringwald‏ أحد أعضاء الفريق من مركز سِنكروترون الإلكترونات الألماني إلى  شانون هول (كاتب المقال)‏ قائلاً: "إنّ أفضل شيء حيال النظرية هو امكانية اختبارها وفحصها خلال العشر سنوات القادمة أو ما إلى ذلك"، ويكمل : "يمكنك ابتكار نظريات جديدة دوماً، لكن إن كان سيتطلب اختبارها مئة سنة، أو لا يمكن اختبارها أبداً، فهذا إذاً ليس علماً حقيقياً بل ماورائياً".

ومن الجدير بالذكر أنّ نموذج اسماش حتى الآن يجب أن ينشر في مجلة ليُحَكّم فيها، لذا فهو بحاجة للخضوع لتمحيص عَالم فيزياء الجسيمات، لكنه الآن مرفوع على موقع الأرشفة arXiv.org لذا فلدى الفيزيائيين المستقلين الفرصة للقيام بتمحيصه فقط.

ومن المحتمل أن لا ينتهي الأمر بالنموذج بكونه الحل الأخير "للأسئلة الخمسة الكبيرة" -فالفيزياء ليست أبداً بذلك الوضوح- لكنه قد يكون بدايةَ شيء رائع، وكما يقول رينغوالد: "المعركة مفتوحة".

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • المادة المظلمة (Dark Matter): وهو الاسم الذي تمّ إعطاؤه لكمية المادة التي اُكتشف وجودها نتيجة لتحليل منحنيات دوران المجرة، والتي تواصل حتى الآن الإفلات من كل عمليات الكشف. هناك العديد من النظريات التي تحاول شرح طبيعة المادة المظلمة، لكن لم تنجح أي منها في أن تكون مقنعة إلى درجة كافية، و لا يزال السؤال المتعلق بطبيعة هذه المادة أمراً غامضاً.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات