ذاكرة الأحداث الجزء الثاني

غير جاهز 
بعد أن وضحنا مبادئ ذاكرة الأحداث، والفرق بينها وبين الذاكرة الدلالية في الجزء الأول، نكمل هذه السلسلة بجزئها الثاني متحدثين عن بعض خصائص هذه الذاكرة، وعن بعض الإشكالات حول هذا النوع من الذاكرة.

تذكر عزيزي القارئ أننا في هذه المقالة نشير إلى محتويات ذاكرة الأحداث على أنها ”تجارب مُتَذَكَّرة“، وأننا نشير إلى محتويات الذاكرة الدلالية بـ ”المعارف“، وأن التجربة التي يعي بها الإنسان المعارف أو المعلومات الدلالية هي ”العلم“ بها، وأن التجربة التي يعي بها الإنسان تجاربه الماضية مستخدماً ذاكرة الأحداث هي ”التَّذَكُّر“؛ فالإنسان ”يعلم“ أن الأرض كروية، وأن 1+1 =2 ، و”يتذكر“ أيام المدرسة وأيام الجامعة.



 السمات الفريدة لذاكرة الأحداث


تتضمن بعض السمات أو الخصائص المميزة لذاكرة الأحداث ما يلي:

∗ الوظيفة الأساسية لهذه الذاكرة، هي في السماح للمرء بتذكر الأحداث الشخصية الماضية كما هي، في حين أن الذاكرة الدلالية لا تقوم بهذه المهمة.

∗ يأخذ هذا التذكر نموذج "السفر بالعقل" في زمن التجربة الشخصية. أما الذاكرة الدلالية فهي لا تمتلك أي ميزةٍ خاصةٍ تربطها بالوقت، باستثناء الحقيقة (غير المهمة) القائلة بأن المعارف (المعلومات) المحمولة إلى العقل عند التذكر باستخدام هذه الذاكرة، هي معلوماتٌ سبق تعلّمها في الماضي.

∗ يمكن القول أن ذاكرة الأحداث تتمركز حول الذات، وذلك على العكس من الذاكرة الدلالية، وتستند عمليات هذه الذاكرة على الفهم الواعي للشخص لنفسه ككيانٍ مستقلٍ عن بقية العالم المحيط. مع غياب مثل هذا الوعي الذاتي يمسي تذكر الأحداث الشخصية مستحيلاً.

∗ تعبّر عملية تذكر الأحداث الشخصية عن نفسها ظاهرياً، عن طريق نوعٍ خاصٍ من الفهم الواعي، هذا النوع من الفهم الواعي مألوفٌ بين البشر جميعاً، بمعنى أن البشر حين يتذكرون حادثةً معينة، يكونون مدركين تماماً أنهم يتذكرون، لا أنهم يمرون بهذا الحدث الآن أو يتخيلونه، وأنه ليس من أحلام اليقظة، أو أياً من تجارب الوعي الأخرى. أما الفهم الواعي المترافق مع ”العلم“ بالحقائق الدلالية فيمتلك مفهوماً مختلفاً مميزاً تماماً عن ”التذكر“ للأحداث الشخصية.

وقد اصطُلحَ على تسمية هذين النمطين من الوعي (الوعي المتعلق بتذكر الأحداث الشخصية، والوعي المتعلق بالمعرفة الدلالية) بـ "الوعي الإدراكي الذاتي" autonoetic consciousness و "الوعي الإدراكي" noetic consciousness على الترتيب.

∗ يتطلب تذكر الأحداث الشخصية تفعيل شكلٍ خاصٍ من الحالات الذهنية، بطريقةٍ إراديةٍ أو لا إرادية، وقد دُعيَت هذه الحالة الذهنية باسم "طراز استرجاع الأحداث الشخصية episodic retrieval mode". إن الحالة الافتراضية العاملة للذاكرة هي حالة الذاكرة الدلالية، والتي تتميز بالوعي الإدراكي.

∗ يتأخر التطور التنشُّؤيّ لذاكرة الأحداث بالنسبة للذاكرة الدلالية، إذ يكتسب الأطفال قدراً كبيراً من المعرفة عن العالم المحيط الذي يعيشون فيه، قبل أن يصبحوا مدركين لتجاربهم الشخصية الماضية.

∗ تعتبر ذاكرة الأحداث أكثر عرضةً وقابليةً للمرض والأذية، والتبدلات التنكسية الحاصلة مع التقدم بالعمر، وذلك من الذاكرة الدلالية. إن الأذية الدماغية أكثر إضعافاً لتذكر الأحداث الشخصية من المعرفة الدلالية، وفي حالات الخرف كداء الزهايمر، فإن ضعف ذاكرة الأحداث عادةً ما يكون العرض الأول الظاهر.

∗ على الأرجح فإن ذاكرة الأحداث التي يمتلكها جميع البشر الأصحاء غير موجودةٍ عند الحيوانات، على الرغم من أنه تم تحديد بعضٍ من السعات الذاكرية الشبيهة بها مؤخراً في بعض الأنواع.

∗ إن ذاكرة الأحداث تعتمد على الشبكات العصبية التي تمتد لمساحةٍ أوسع من تلك المسؤولة عن عمليات الذاكرة الدلالية.

تعتبر بعضُ هذه السمات أكثر قبولاً من غيرها في ضوء التجربة. لا تزال كل محاولات دراسة أنظمة الذاكرة المتعددة في مراحلها المبكرة؛ وبالتالي فنحن نحتاج إلى قدرٍ كبيرٍ من العمل والتفكير، وهذا بالفعل ما يحدث على جوانب متعددةٍ من القضية.


في أيامنا هذه، فإن وصفاً مختصراً لذاكرة الأحداث يمكن أن يُحدَّد من خلال ما يخص هذه السمات المميزة، أفضل مما تقدمه خلفية السمات المشتركة.

 ذاكرة الأحداث 2009


إن ذاكرة الأحداث هي نظام ذاكرة دماغي/عقلي (أو ما يعرف بالنظام المعرفي العصبي) حديث النشأة لذاكرةٍ ذات تطورٍ متأخرٍ وتنكسٍ مبكر. هذا النظام موجهٌ للماضي، سريع التأثر بالأذية الدماغية مقارنةً بغيره من أنظمة الذاكرة، وهو في الغالب مميِّز للإنسان. يسهّلُ هذا النظام عملية التجوال الزماني الذهني خلال الزمن الشخصي، في الماضي والحاضر والمستقبل.

يسمح هذا التجوال الزماني الذهني للشخص نفسه كـ ”مالك“ لذاكرة الأحداث، وعبر وسطٍ من الوعي الإدراكي الذاتي، يتذكر أفكاره حول تجاربه الشخصية السابقة، إضافةً إلى أفكاره حول تجاربه المستقبلية الممكنة.

تتطلب عملياتُ ذاكرة الأحداث نظامَ الذاكرة الدلالية ولكنها تتخطاه. وتتطلب عملية استرجاع المعلومات من ذاكرة الأحداث (التذكر) تفعيلَ نظام إعدادٍ ذهنيٍّ خاصٍّ يُدعى بـ (طراز الاسترجاع) وذلك عبر مجموعة عملياتٍ إراديةٍ أو لا إرادية.

تتضمن المكونات العصبية لذاكرة الأحداث شبكةً موزعةً بشكلٍ واسعٍ في مناطق القشرة المخية والمناطق تحت القشرة، بحيث تمتد وتتداخل مع شبكات أنظمة الذاكرة الأخرى. تتمحور ماهية ذاكرة الأحداث حول ثلاثة مفاهيم متصلة، الذات والوعي الإدراكي الذاتي والزمن الشخصي.


تلخص بقية هذه المقالة بعضاً من القضايا المفتوحة المتعلقة بذاكرة الأحداث والقضايا التي تشغل ذهن الباحثين.

 قضايا مفتوحة


 ذاكرة السيرة الذاتية


إن ذاكرة الأحداث شديدة العلاقة بذاكرة السيرة الذاتية autobiographical memory، وغالباً ما يستخدم هذا المصطلح لإدراك تجارب الحياة المهمة سواء ”المُتَذَكَّرة“ منها أو ”المعلومة“ .

بكلماتٍ أخرى، يحمل البشر نموذجياً المعلومات المتعلقة بمكان وزمان مولدهم كحقائق مهمةٍ في تاريخ حياتهم، بالرغم من أنها تكتسب أهميتها من خلال الذاكرة الدلالية أكثر من ذاكرة الأحداث. من ناحيةٍ أخرى، فإن ذاكرة الأحداث مرتبطةٌ بتذكر التجارب فقط (وذلك حسب تاريخ الفرد).

تؤيد الدراسات التصويرية العصبية هذا الفارق ما بين الذاكرتين الدلالية وذاكرة الأحداث المتعلقتين بسيرة حياة الفرد.

 ذاكرة الأحداث عند الحيوانات


يوجد إجماعٌ عالميٌّ أساسيٌّ ما بين جميع المشاركين في دراسة علم الذاكرة على أن العديد من الأنواع الأخرى غير البشرية، تمتلك أنظمة ذاكرةٍ دلاليةٍ عالية التطور. سمح لهم ذلك باكتساب مختلف المعارف الصعبة والمعقدة في العالم حول بيئاتهم التي يعيشون فيها وحول النواحي الأخرى للعالم من حولهم.

إن امتلاك الأنواع الأخرى غير البشرية أو عدم امتلاكها لذاكرة الأحداث، يعتمد على كيفية تعريف هذه الذاكرة، فإذا كان التعريف معتمداً على الخصائص المشتركة ما بين ذاكرة الأحداث والذاكرة الدلالية، كانت إجابة التساؤل بالإيجاب.

أما في التعريف الواسع المتضمن كلاًّ من الخصائص المشتركة والفريدة تكون إجابة التساؤل بالنفي، وعلى الأرجح فإن الأنواع الأخرى لا تمتلك طبيعة ذاكرة الأحداث الموجودة عند البشر. على الأقل، إلى الآن لم نطّلع على أية موجوداتٍ تعزو بشكلٍ قاطعٍ وعياً إدراكياً ذاتياً لدى الأنواع غير البشرية.

 القيمة التلاؤمية adaptive value


عند الحديث عن البشر، يظهر عندنا سؤالٌ عن قيمة ذاكرة الأحداث في الحفاظ على بقاء الإنسان. من الممكن هنا التفكير بالسياق التطوريّ المعقول، الذي قد يكون صاحب الدور المهم في عملية بدء وصيانة القدرة على العكس العقلي الذاتي لما يحدث في الحاضر، على ما حصل في الماضي.


تبدأ فكرةٌ ما بافتراض أنَّ الزمن الشخصي المُدرَك ضمنياً لا يمتد فقط للخلف في الماضي، بل أيضاً للأمام في المستقبل، وتلك سمةٌ من سمات ذاكرة الأحداث.


إن قدرة الشخص على تصور ما يمكن أن يحمله المستقبل، تسمح له بالتحضير للاحتمالات المختلفة بطريقةٍ لا يسمح بها الاستحضار المقتصر على الماضي فقط. وعلى وجه الخصوص، عندما يستطيع المرء توقع الحوادث الصعبة ممكنة الحدوث في وقتٍ ما لمّا يأت بعد، فإنه يقدر في الوقت الراهن أن يتخذ التدابير اللازمة لمنع حدوثها.

إن قوة ”التفكير المستقبلي المتعلق بالأحداث“، (وهو الاسم الذي يطلق على هذه المقدرة) أكثر وضوحاً في الأنواع المختلفة من الثقافات والحضارات البشرية. وتصبح بعض هذه المظاهر غير ممكنةٍ بغياب القدرة على التصوّر الذهني للمستقبل.

إن البرهان مستمرٌ بالفعل لجمع الاقتراحات القائلة بأن ذاكرة الأحداث والتفكير المستقبلي المتعلق بالأحداث الشخصية، يشتركان بارتباطاتٍ عصبيةٍ متشابهة، فكلاهما يتأذيان بشكلٍ متشابهٍ في بعض الحالات الخاصة من الأذية الدماغية، وكلاهما يشتركان بمساراتٍ تطوريةٍ متشابهةٍ وتراجعٍ لاحقٍ مرتبطٍ بالتقدم بالسن.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات