اللغة ميزة البشر

تعتبر اللغة الشيء الذي يميز البشر عن جميع المخلوقات الأخرى، وكل مجتمع بشري معروف لديه لغة يتواصل بها، بالرغم من أن بعض المجتمعات غير البشرية لديها قدرةٌ على التواصل مع بعضها بطرق معقدة، قد تبدو خيالية إلا أنها لا تستعمل اللغة بمعناها الجوهريّ (كوسيلة للتواصل ونقل المعلومات المختلفة والمعقدة أحيانًا) كجزء من الحياة اليومية.

لا تتواصل تلك المجتمعات بالطرق التي يتواصل بها البشر فيما بينهم، فلا تجدهم مثلًا يتحدثون حول الأحداث المختلفة التي تحدث حولهم، لكن بالنسبة للمجتمع البشري يصعب تخيل الحياة بدون لغة.

اللغة مثل الثقافة، ينبع جمالها من اختلافها وتنوعها، هناك العديد من الثقافات واللغات وجميعهم مختلفون ظاهريًا، لكنهم في الواقع شيء واحد، ذلك لأن الطبيعة البشرية واحدة والميزة الرئيسة في تلك الطبيعة أنها تمنحهم تنوعًا في اللغة والثقافة.

كم عدد اللغات التي نعرفها؟


للإجابة على هذا السؤال نحتاج أولًا أن نعرف كيفية عدّها، كيف نميز لغة من أخرى. عادةً يقول علماء اللغة أن اللغة (أ) تختلف عن اللغة (ب) إذا لم يستطع المتحدثان بهما فهم بعضهما. هذا يذكرنا بالطريقة التي وضح بها البيولوجيون الفارق بين الأنواع البيولوجية على أساس ما إذا كانت تنتج حبوب اللقاح في الربيع.

طبقًا لهذا المقياس الذي يعتمد الأهلية المتبادلة، هناك حوالي سبعة آلاف لغة مختلفة حول العالم اليوم (أقل بكثير مما كان موجودًا منذ عقود مضت، وذك لأن العديد من اللغات المحلية فُقدَت بسبب اكتساح لغات المجتمعات الكبرى).

تنوعت اللغة منذ العقود الأولى، وقصة برج بابل ما هي إلا محاولة لشرح اختلاف وتنوع لغات البشر، ولُقب اليونانيون القدماء بالبربريين الأجانب، ذلك لأن عبارات غير المتحدثين بلغتهم بدت لهم كأنها ثرثرة عجيبة مزعجة. بالتأكيد اللغة السويدية أو الألمانية تبدو غامضة للمتحدث باللغة الإنجليزية كلغةٍ أم، رغم القرب الظاهري والتشابه بينها. فلندع جانبًا اللغات بعيدة الارتباط عن الإنجليزية مثل الهندية أو الروسية أو حتى تلك التي لا علاقة لها بالإنجليزية مثل اليابانية. على الرغم من الاختلاف الظاهري الكبير بينها، إلا أن كل اللغات البشرية لها جوهر واحد، تشترك جميعها في تكوين كيان واحد، وهو أنها لغة بشرية.

اللغات والعلوم اللغوية


من الصعب فصل اللغة عن الأدب أو السياسة أو الحياة اليومية. في هذا المقال يدور النقاش حول تركيب اللغة أكثر منه حول كيفية استخدامها في المجتمع البشري، ويركز المقال على ما نعلمه عن اللغة على مدى القرنين السالفين، درس علماء اللغة لغات البشر المستقلة والسلوك اللغوي لاكتشاف الخصائص الرئيسة للغة بصفةٍ عامة، خلال تلك المغامرة، كانوا يأملون في اكتشاف بعض النواحي الأساسية التي يحملها معنى أن تكون بشريًا. تتخطى أهمية اللغة الحدود الشخصية إلى كونها مسعى لجميع البشر.

لأن اللغة نشاط بشريّ اجتماعيّ، يصنَّف علم اللغة كعلم اجتماعي. ولأن اللغة يمكن أن تُدرس فقط من خلال سلوك البشر، فعلم اللغة -مثل علم النفس- يصنف أيضًا كعلم سلوكيّ. ولأن اللغة ضرورة إدراكية، يصنف علم اللغة أنه علم إدراكي. هناك طرق عديدة لدراسة اللغة علميًا، فهناك الطريقة التقليدية التي تمتد جذورها إلى آلاف السنين حيث أطلق عليها نحاة اليونانيون "علم اللغة الوصفي"، وتهدف تلك الطريقة إلى إعطاء اللغة وصفًا خاصًا -عادة يسمى النحو- سواء في المطلق أو على وجه الخصوص.

النحو على خلاف ما يعتقده البعض منذ أيام الدراسة، ليس شيئًا ثابتًا يصف ما يجب أن يكون عليه التلفظ باللغة، بل هو شيء ينشأ من سلوك المتحدث باللغة نفسه.

عادةً علماء اللغة الوصفيون، خاصة الذين يدرسون لغة نادرة التدريس، يقضون وقتًا طويلًا يتعلمون من المتحدثين الأصليين باللغة، وأحيانًا يكتبون ويدونون تلك اللغة. أما علماء اللغة البحثيون، فيبحثون عن مبادئ صريحة وواضحة تلائم جميع اللغات، ويعتمدون في هذا على النحو الوصفي. من خلال علماء اللغة الوصفيون والنظريون، كُرّس البحث في تاريخ اللغة حول كيفية تغيرها عبر الزمن. يتعامل علم الاجتماع اللغوي مع لغز اللغة عامةً في المجتمع ويتضمن دراسة اللهجات.

علم المنطق النفسي يطبق قواعد علم النفس التجريبي على اللغة باعتباره المصدر الرئيس للمعلومات. هناك برنامج مكرس ليسمح لنا بمعرفة أكثر عن كيفية اكتساب الطفل للغة في عمره المبكر. أما علم الأعصاب اللغوي فيدرس العلاقة بين اللغة والمخ. وتتناول علوم الحوسبة اللغوية تفاعل الحاسوب مع اللغة لأكثر من هدف مثل جعل الحاسوب يكوّن جملًا تحاكي نصًّا مكتوبًا، أو لجعله يتعرف على الجمل ويحولها من مجرد جمل إلى نص، أو لتحليل التراكيب النحوية في النصوص المكتوبة.

اللغة المكتوبة واللغة المنطوقة


يظن بعض الناس أن اللغة مكتوبة في المقام الأول، على الرغم أنه عندما يدرس الواحد منا لغة في المدرسة، عادةً ما يدرس اللغة مكتوبةً، وكذلك الأدب (النصوص المكتوبة في اللغة) أو الإنشاء (الذي يشكل فيه الطالب نصًا خاصًا به). تُعطى اللغة المنطوقة المرتبة الثانية في المدارس والجامعات، ما عدا المستويات المتخصصة في دراسة اللغات الأجنبية.

ما الذي سبب انقسام العلماء بخصوص هذا الشأن؟


بدايةً من القرن التاسع عشر كان إدراكنا أن الاختلاف بين نوعي اللغة موجود، اللغة في المقام الأول مُتحدَّثة، واللغة المكتوبة هي انعكاس مهم للغة المنطوقة، تأتي في المقام التالي لها. الدليل على هذا هو حقيقةً أن كل المجتمعات تمتلك لغة منطوقة، بينما منذ قرن مضى، كان القليل فقط من المجتمعات يمتلك لغة مكتوبة، حتى أن الأدب كان محصورًا بين فئة معينة من الناس وقتها، بالإضافة إلى أن هذه اللغات القليلة المكتوبة التي ظهرت في وقت سابق من القرن العشرين ترجع كلها في أصلها إلى أربع أو خمس أنماط حديثة، لم يمض على وجودها أكثر من خمسة آلاف سنة.

بينما يعتقد كثير من العلماء أن اللغة تطورت على الأقل منذ 50000 سنة مضت، فتلك اللغات المكتوبة ظهرت حديثًا في المجتمعات المتقدمة ماديًا فقط.

تتضمن تلك الأنماط السومرية المسمارية والهيروغليفية المصرية في الشرق الأوسط (يشبهان بعضهما في الأصل)، كما تضمنت أيضًا الكتابة الصينية والهيروغليفية الماينية (حُلّت طلاسمها فقط في منتصف القرن العشرين). أما الأبجدية الأكثر انتشارًا في نُظُم الكتابة الحالية فكانت محاولة المتحدثين باللغة السومرية للتكيف مع الحياة المصرية. إذًا فاللغة المنطوقة هي الشائع في كل المجتمعات.

ينبع التحدث باللغة عفويًا عند الأطفال، تحدث مع طفل عادي بأي لغة في مراحل عمره الأولى وستلاحظ أن الطفل يجيدها بسهولة من غير تعليم صريح، بينما من الصعب على أي إنسان أن يمارس لغة جديدة بعد سن معينة (بعد سن المراهقة عامة). اكتسب الطفل في الحالة الأولى اللغة المنطوقة بسهولة، على خلاف اللغة المكتوبة التي لا يمكن تعلمها بسهولة وإتقان.

التكافؤ اللغوي


إذا امتلكت كل المجتمعات لغة فربما نسأل أنفسنا: فيم تختلف هذه اللغات عن بعضها، وفيم تتشابه؟

سُئل هذا السؤال في وقت مبكر من تاريخ دراسة اللغة. هل هناك لغة متطورة أو معقدة أكثر من لغة؟ الإجابة ببساطة لا، ليس هناك طرق واضحة لتقييم اللغة تطوريًا.

تُظهر كل اللغات تساويًا واضحًا في قدرتها على التعبير عما في النفوس، ربما بعض اللغات تمتلك كلمات أكثر من الأخرى أو تمتلك كلمات غير تقليدية بالنسبة للغةٍ أخرى، لكن ليس هناك لغة تقف عاجزة أمام رغبة متحدثيها في التعبير. كان هذا الإدراك للتكافؤ بين اللغات في نفس أهمية إدراك أن البشر جميعهم متساوون، بغض النظر عن التعقيدات المجتمعية أو السياسية أو المادية أو الاقتصادية للمجتمع الذي يعيشون فيه. 

نحن نعلم أن أفراد المجتمعات البسيطة ماديًا متساوون مع أفراد المجتمعات الأكثر غنى لأننا ببساطة لا نستطيع إيجاد دليل مقنع أن لغة أحدهم أفضل من لغة الآخر، فهم في النهاية بشر.

 

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات