إثبات نظرية النسبية لأينشتاين مرة أخرى في البيئة الأكثر تطرفاً في مجرتنا

حقوق الصورة: Alain Riazuelo/IAP

إنّها المرة الأولى على الإطلاق التي نتأكد من صحةِ معادلات النسبية العامة في بيئةٍ متطرفة كبيئة الثقوب السوداء.

لأول مرة، تأكيد نظرية أينشتاين للنسبية العامة وذلك في ظل بيئة جديدة، في حقل الجاذبية الأكثر تطرفاً في مجرّة درب التبانة، وتحديداً في الحقل الذي أنشأه الثقب الأسود الهائل في مركز مجرتنا الذي يُدعى Sagittarius A

يطوي هذا الاكتشاف بنجاح سجلاً استمر لمدة 26 سنة من المراقبات المستمرة، حيث نجح العلماء في رصد ضوء نجم اسمه (S2) يدور حول الثقب الأسود Sagittarius A وقد تصرّف النجم تماماً كما تتنبأ معادلات النسبية العامة. يُعد هذ الرصد الذي حُصل عليه من خلال التكنولوجيا المذهلة والرياضيات الدقيقة والمراقبة الدؤوبة نتيجة علمية مذهلة، وتأكيد آخر لنظرية النسبية لأينشتاين.

يقول عالم الفيزياء الفلكية راينهارد جنزل Reinhard Genzel من معهد ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض (اختصاراً MPE): "هذه هي المرة الثانية التي نلاحظ فيها المرور القريب للنجم S2 حول الثقب الأسود في مركز مجرتنا. ولكننا هذه المرة استطعنا رصد هذا النجم بدقةٍ لم يسبق لها مثيل، بسبب توفّر قدر كبير من الأجهزة المحسّنة. لقد استعدينا بشكلٍ مكثّف لهذا الحدث على مدى عدة سنوات، حيث أردنا الاستفادة القصوى من هذه الفرصة الفريدة لمراقبة آثار النسبية العامة".

في الواقع، هناك ثلاثة أنواع من النجوم التي يُرمز لها بحرف S والتي تدور في مدار قريب من الثقب الأسود لمجرتنا (وهي مختلفة عن النجوم من النوع - S). تُدعى هذه النجوم التي لديها كتلة تعادل تقريباً أربعة ملايين مرة كتلة الشمس بـ S2 (أو S0-2). وهي تدور في مدارٍ إهليلجي حول الثقب الأسود، كما إنها واحدة من اثنين من النجوم التي تقترب من الثقب الأسود في نقطة تُدعى بمركز الحضيض pericentre. يبعد هذا النجم عن مركز مجرتنا مسافة 17 ساعة ضوئية فقط (وهي المسافة التي يقطعها الضوء في ساعة واحدة) أي ما يعادل أربعة أضعاف المسافة بين الشمس ونبتون.

ووفقاً لإطارنا المرجعي، فإن تلك المسافة تبدو بعيدة للغاية، ولكن عندما تتعامل مع حقل جاذبية ثقب أسود هائل مثل Sagittarius A، فإن تلك المسافة تُعد قريبةً للغاية. تأثير الثقب الأسود Sagittarius A قويٌ للغاية لدرجة أنه يزيد من سرعة النجم الذي يدور حوله إلى نحو 25 مليون كيلومتر في الساعة (15.5 مليون ميل في الساعة)، ما يقارب 3 بالمئة من سرعة الضوء!
 

 

توضح الرسوم المتحركة في المقطع مدار النجم S2 حول الثقب الأسود لمركز مجرتنا

 

ووفقاً لحسابات النسبية العامة، فإنه عندما يقترب النجم S2 من الثقب الأسود، فإن تأثير جاذبية الثقب الأسود يمدّ الضوء الصادر من النجم إلى أطوال موجية أطول بالنسبة للمشاهد الموجود في مجال جاذبية أقل. بمعنى آخر، ينزاح الضوء الصادر من النجم أكثر باتجاه الطرف الأحمر للطيف الضوئي بطريقةٍ تتفق تماماً مع حسابات النظرية النسبية العامة. وتدعى هذه الظاهرة بـ "الانزياح الثقالي نحو الأحمر gravitational redshifting".

يبعدُ النجم S2 مسافة 26,000 سنة ضوئية عن الأرض. أضِف إلى ذلك أن منطقة حقل الجاذبية التي يقع فيها هذا النجم مُغطاة بسحبٍ كثيفة من الغبار الكوني، ما يجعل رصد الضوء مستحيلاً. ولذلك، يُعد رصد النجم حول الثقب الأسود إنجازاً عظيماً.

وبالطبع، ليس هُناك اكتشاف أو رصد دقيق يتم دون تكنولوجيا مذهلة ورياضياتٍ دقيقة، ولذلك استخدم فريق البحث عدداً من الأدوات في التلسكوب الكبير جدًا (VLT) التابع للمرصد الأوروبي الجنوبي لمشاهدة مركز الحضيض للنجم. تحتوي كل من هذه الأدوات والتي يُرمز لها بـ (SINFONI) و(GRAVITY) و(NACO) على مُستشعرات الأشعة تحت الحمراء والأشعة القريبة منها، والتي تمكّنها من اختراق الغبار الموجود في حقل الجاذبية لالتقاط مصادر الأشعة تحت الحمراء. وباستخدام هذه الأدوات المتطورة، قاسَ فريق البحث سرعة النجم S2 ورسموا مداره أيضاً أثناء تأرجحه حول الثقب الأسود.

وقد حصل الباحثون على النتائج التي توقعوها! حيث يُظهر هذا الرصد الجديد بشكلٍ واضحٍ للغاية الانزياح الثقالي نحو الأحمر الذي تنبأت به النظرية. وهو الكشف المباشر الأول من نوعه الذي يقوم به العلماء بالقرب من ثقب أسود هائل الحجم، ما يثبت لمرة أخرى صحة النظرية النسبية العامة لأينشتاين.

يقول خبير الفيزياء الفلكية فرانك آيزنهاور Frank Eisenhauer من معهد ماكس بلانك لفيزياء خارج الأرض (اختصاراً MPE)، وهو الباحث الرئيس في أجهزة رسم الطيف GRAVITY وSINFONI: "لقد أظهرت ملاحظاتنا المبدئية على النجم S2 باستخدام مرسام الطيف GRAVITY قبل نحو عامين، أنّه بالفعل سيكون لدينا مختبر الثقب الأسود المثالي الذي سيُتيح لنا القيام بهذا الرصد".

ويُضيف: "أثناء مرور النجم بالقرب من الثقب الأسود، مكّننا ذلك حتى من اكتشاف التوهج الخافت حول الثقب الأسود في معظم الصور الملتقطة، ما أتاح لنا متابعة النجم في مداره بشكلٍ دقيق، مؤدياً في النهاية إلى الكشف عن الانزياح الثقالي نحو الأحمر في الطيف الضوئي للنجم S2". يُعتبر هذا التأكيد الأحدث في سلسلة طويلة ومثيرة من الاختبارات التي أثبتت صحة النظرية النسبية العامة مراراً وتكراراً.

ربما تتساءل عزيزي القارئ لماذا يستمر العلماء في اختبار هذه النظرية التي تُثبت جدارتها في كل اختبار حتى الآن؟ لأنه ببساطة إذا كانت هناك ظروف ما في هذا الكون الشاسع لا تخضع لمعايير هذه النظرية، فسيكون ذلك بمثابة تغير عميق في الطريقة التي نفهم بها الكون، ما يجعلنا نحتاج إلى فيزياء جديدة لتفسير الكون! وإذا كانت النظرية ستفشل يوماً ما، فمن الأرجح أنها لن تفشل إلا في ظل ظروف قاسية للغاية، أي في بيئات أقسى من بيئة ثقب أسود هائل الحجم!

نُشر هذا البحث في مجلة "Astronomy & Astrophysics". كما يُمكنك الاطلاع عليه من هنا.

إمسح وإقرأ

المصادر

شارك

المصطلحات
  • الجاذبية (gravity): قوة جذب فيزيائي متبادلة بين جسمين.

المساهمون


اترك تعليقاً () تعليقات